المبادرات الإيجابية في سيرة أبي طلحة الأبية-16-6-1437هـ-عبدالله منكابو-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
1437/06/15 - 2016/03/24 20:59PM
[align=justify]أما بعدُ فقدْ صحَّ أنَّ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-لما رَمَى جمرةَ العقبةِ في حَجةِ الوداعِ، ونحَرَ هديَهُ، دعا الحلاقَّ، فبدأَ بشِقِّ رأسِه الأيمنِ، فأمرَ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-بقسمتِه بين الناسِ، وكان معه عشراتُ الآلافِ من أصحابِه، فتفرَّقَ بينهم شعرُ أكرمِ الخَلقِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-، منهم من كان نصيبُه شعرةً واحدةً، ومنهم من ظَفِرَ بشعرتَيْنِ، ومنهم من ظفرَ بأكثرَ، وكُلٌّ فَرِحٌ بما نالَ.
ثم قالَ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: احْلِقِ الشِّقَّ الآخرَ، فحلَقَهُ، واجتمعَ الشعرُ بين يديِه، وتعلَّقَتْ به العيونُ، وإذا برسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يسألُ: ههنا أبو طلحةَ؟ أين أبو طلحةَ؟ فتقدمَ أبو طلحةَ، زيدُ بن سهلٍ الأنصاريِ من بينِ جُموعِ الناسِ، فأعطاه النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-الشعرَ كُلَّهُ.
أيُّ منزلةٍ هذه التي بلَغَها أبو طلحةَ عندَ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-؟!!.
لقدْ كانَ في الناسِ أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، والكبارُ من المهاجرينَ والأنصارِ-رضيَ اللهُ عنهمْ وأرضاهمْ-، لكنَّ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-اختصَّهُ دونَهم بهذا الفضلِ والتكريمِ.
فإذا رجعنا إلى سيرةِ ذلك الصحابيِ الجليلِ لنبحثَ فيها عما تميَّزَ به-رضيّ اللهُ عنهُ وأرضاه-، وجدناه فارسًا شجاعًا، كانَ أحدَ الصحابةِ القليلِ الذين ثبتوا مع رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-في معركةِ أُحدٍ لما جُرح وسالَ دمهُ وانهزمَ المسلمونَ، وفي معركةِ حنينٍ بالطائفِ قتلَ أبو طلحةَ عشرينَ رجلًا من الكفارِ وغنمَ مالَهم، قالَ فيه الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-"صوتُ أبي طلحةَ في الجيشِ خيرٌ من مئةِ رجلٍ"، ووجدناهُ جوادًا كريمًا.
أعزائي: هذه ثلاثةُ مَشاهِدَ من سيرةِ أبي طلحةَ، تكشفُ لنا جوانبَ أكثرَ عن شخصيةِ هذا الرجلِ العظيمِ.
المشهدُ الأولُ: جلَسَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ- يومًا لأصحابِ الصفةِ-الفقراءِ-يُقرئِهم القرآنَ، وقد شَدَّ على بطنِه حجَرًا، وظهر عليه أثرُ الجوعِ، فمرَّ أبو طلحةَ، فرآه على هذه الحالِ، لم يتحمَّلْ ذلك المنظرِ، ولم يُطِقْ أن يبْقَى عاجزًا مكتوفَ اليدينِ، ذهب فورًا إلى بيتِه، وقال لامرأته أمِ سليمٍ-رضيَ اللهُ عنها وأرضاها-: إني عَرَفْتُ في وجهِ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-الجوعَ، فهل عندكِ شيءٌ؟ قالت: ما عندي إلا مُدٌّ مِنْ شَعِيرٍ، إنْ جاءَنا رسولُ اللهِ وحدَهُ أشبعناه، وإنْ جاء ومعه أحَدٌ قلَّ عنهم،-تعني: لا يكفي-قال : اعْجِنِيْهِ وأصْلحِيهِ عسى أن ندعوَ رسولَ الله فيأكلَ عندنا، فصنعتْ منه قُرْصًا واحدًا.
وأرْسَلَ أَبُو طَلْحَةَ ربيبَهُ-ابنَ زوجتِه-وخادمَ الرسولِ أنسَ بنَ مالكٍ-رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاه-أرسلَه فقال: اذْهَبْ، فَقُمْ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-، فَإِذَا قَامَ فَدَعْهُ حَتَّى يَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، وَلا يَعْلَمْ بِكَ أَحَدٌ، ولا تدعُ غيرَه فتفضحَني، ثم قل له: إنَّ أبا طلحةَ يدعوك.
أقبَل أنسٌ على مجلسِ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ، وإذا به يسأله: أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ قالَ: نعمْ، فقال النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-لأصحابِه: "أجِيبُوا أبا طلحة"، فقام معه بضعةٌ وثمانون رَجُلًا-البضعةُ من ثلاثةٍ إلى تسعةٍ-عددُهم ما بين ثلاثةٍ وثمانينِ إلى تسعةٍ وثمانينِ رجلًا-.
وأخذَ رسولُ الله-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-بِيَدِ أنسِ، فشدَّها عليها بيدِه، وانطلق ذلك الجمعُ الغفيرُ-الكثيرُ-، يَشُقُّ طُرُقَاتِ المدينةِ إلى بيتِ أبي طلحةَ، ولا تَسَلْ عن حال أنسٍ، وقد أحاطَ به الناسُ، وهو يتذكرُ وصيةَ أبي طلحة ألا يُخبِرَ أحدًا، ويُفكرُ في قُرْصِ الشعيرِ الواحدِ الذي صنعتهُ أمُه-أمُ سليمٍ-، كيف سَيُشْبِعُ هؤلاءِ.
فلما دنَو-اقتربوا-من البيتِ، تركَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يدَ أنسٍ، فانطلقَ مُسْرِعًا يتقدَّمُهُمْ، دَخَل على أبي طلحةَ، قال: يَا أَبَتَاهُ، دَعَوْتُ رسولُ اللهِ فَدَعَا أَصْحَابَهُ، وجَاءَكَ بِهِمْ، فاغتم أبو طلحةَ لهذا الموقفِ المحرجِ-ليس بخلًا، وإنما لأنَّ الطعامَ قليلٌ: قرصٌ واحدٌ فقط-، وقال: يا أمَّ سُليمٍ، قد جاءَ رسولِ اللهُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-بالناسِ، وليس عندنا ما نُطْعِمُهم، قالتْ: اللهُ ورسولُه أعلمُ.
فخرَجَ من بيتِه يستقبِلُهُمْ قال: يا رسولَ اللهِ ما عندنا شيءٌ إلا قُرْصٌ واحدٌ، رأيتُكَ طاوِيًا، رابطًا حجرًا على بطنِك من الجوعِ، فأمرتُ أمُّ سُليمٍ أنْ تصنعَهُ لك، وأَرْسَلْتُ أَنَسًا يَدْعُوكَ وَحْدَكَ، وليسَ عِنْدِي مَا يُشْبِعُ القومَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-وقالَ: "هَلُمَّ –هاتِ-مَا عِنْدَكَ إنَّ الله سيجعلُ فيه بركةً".
فوَضَع الصَّحْفَةَ بين يديْهِ، وفيها ذلك القُرْصُ الواحدُ، وعَصَرَ عُكَّةَ سمْنٍ كانت عندَهم، حتى خرجَ منها شيءٌ يسيرٌ قليلٌ من السمنِ، فمسَحَ النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-القُرْصَ به، ودعا اللهَ أن يباركَ فيه، وقال: باسم الله، فانتفَخ القرصُ حتى ملأَ الصحفةَ، ووَضَعَ يدَه في وسطِه، ودعا عشرةً من أصحابِه فأكلوا، ثم دعَا عشرةً غيرَهم فأكلوا، وما زال يدعُوهمْ عشرةً عشرةً، حتى شبِعُوا جميعًا، ورسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-واضعٌ يدَهُ في وسَطِ القرصِ، فرَفَعَ يدَهُ، فإذا هو لم يَنْقُصْ منه شيءٌ، وأكَلَ أهلُ البيتِ، وجَمَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ ما تبقَّى فأهدَتْه لِجِيرَانِهَا.
المشهدُ الثاني: أنَّ رجلا أَتَى-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-، فقالَ: إني مَجْهُودٌ–يعني أصابني الجَهْدُ والمشقةُ والجوعُ-، فأرادَ رسولُ اللهِ أن يُواسِيَهُ، فبدأ بنفسِه وأهلِ بيتِه، أرْسَلَ إلى أزواجِه أمهاتِ المؤمنينِ-عليهِ وعليهن الصلاةُ والسلامُ-هل عندَكم طعامٌ؟ وكلُّهنُ يقلنَ: والذي بَعَثَكَ بالحقِّ ما عندنا إلا الماءُ.
فتوجَّه-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-إلى أصحابِه، قال: "مَنْ يُضِيفُ هَذَا الليلةَ، يرحمهُ الله"، فبادرَ أحدُهم ليغتنِمَ رحمةَ اللهِ وثوابَه، وقال: أنا يا رسولَ اللهِ.
لم يكن هذا المُتكلِّمُ أكثرَ الحاضرين مالًا، ولا أوْفَرَهُم طعامًا وشَرابًا، وما كان هو الوحيدُ الذي توجَّه له الخِطابُ، فالحاضرون جماعةٌ، لكنَّهُ كان مِنْ أسْرَعِهِم إلى الخير، لقد كان هذا المبادرُ أبا طلحةَ-رضيَ اللهُ عنه وأرضاهُ-.
انطلقَ بالضيفِ إلى بيتِهِ، فقال لامرأته-أمِ سُليمٍ-: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-ولا تَدَّخِرِيْ عنه شيئا، قَالَتْ: والله مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ الصبيان.
وقد يهُونُ على الإنسانِ أنْ يَجُوعَ، لكنَّ رؤيتَه لأطفالِه وَهُمْ جِياعٌ مؤلمةٌ شديدةٌ على النفسِ.
فقالَ أبو طلحة لزوجهِ: نَوِّمِي صِبيانَكِ، و إذا أرادوا العَشَاءَ فَعَلِّلِيْهِمْ–يعني أشغليهم-، فإذا دَخَل الضيفُ فقرِّبي الطَّعامَ، وَأَرِيهِ أَنَّا نَطْعَمُ مَعَهُ، ثم قُومِي إلى السراجِ فأطفئيهِ، واتْرُكِي الطعامَ له.
فصَنَعَا ذلك، وأكَلَ الضيفُ حتى شبعَ، وهو لا يشعُرُ بحرجٍ ولا إثْقَاٍل، ولا يَدريْ أنَّ البيتَ كلَّهُ جائعٌ مِنْ أجْلهِ!.
بَاتَ الضيفُ هَانِئَا، وباتَ أبو طلحةَ وامرأتُه وأطفالُه جائِعينَ، ليس في بُطُونهم شيءٌ؛ إكرامًا لضيفٍ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-.
فَلَمَّا تَنَفَّسَ الصباحُ، وطلعَ الفَجْرُ، غدا أبو طلحةَ كَعَادتِهِ، ليُصَليَ الفجرَ مع النبيِّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-وإذا بالوحيِ قد نزَلَ من السماءِ، وإذا بالعَمَلِ الصالحِ الذي أخفَاهُ أبو طلحةَ وزوجُه في جوفِ بيتِهِ، ولا يَعلمُ به ضيفُهُ ولا أحدٌ من الخَلْقِ، إذا به يتنزَّلُ به قُرآنٌ يُتلى إلى يوم القيامة، وإذا بِرَسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يقول: "لقد عَجِبَ اللهُ- أَوْ قال: ضحِكَ اللهُ- مِنْ صَنِيْعِكُما بضَيْفِكُما الليلةَ"، وأنزل-سبحانه-: [والذين تَبوؤوا الدارَ والإيمانَ من قبلِهم، يحبونَ من هاجرَ إليهمْ، ولا يجدونَ في صدورهِم حاجةٍ مما أوتوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ].
ونختم بالمشهدِ الثالثِ: لمَّا نَزَلَ قولُه-تعالى-: [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ، سَمِعَ أبو طلحةَ الآيةَ، ووقَعَتْ في قَلْبِهِ قبل أُذُنِهِ، علِمَ أنه كلامُ اللهِ، وتيقَّنَ أن ربَّهُ-سبحانَهُ-يَدْعُوهُ، ويُخاطِبُهُ بِأَمْرٍ واضحٍ، أنه لن يَنَال البرَّ ولن يَصِلَ إليهِ، حتى يُنْفِقَ مما يُحبُّهُ لِنَفْسِهِ.
وكان أبو طلحةَ في هذا الوقتِ قد أصبح غنيًا، فأَخَذَ يَستعْرِضُ أموالَهُ ومُمْتَلَكَاتِهِ، ولِكُلٍّ مِنها نصيبٌ مِنَ الحُبِّ، ووَرَاءَ كلِّ مالٍ قِصَّةٌ في اكْتِسابِه ورِعَايَتِهِ والانتفَاعِ به.
ففَكَّرَ وتأمَّلَ، وفتشَّ في قَلبِهِ ومَشَاعِرِه، أيُّ هذهِ الأموالِ أَحَبُّ إليه، أيُّ هذهِ المُمْتَلَكَاتِ أقْرَبُ إلى قلبِه، وأَعَزُّ على نفْسِهِ، وأحْظَى عندَهُ وأغْلَى، فإذا هو بَيْرُحَاء، وهو بُستانٌ بِجِوارِ المسجدِ النبوي، مليءٌ بالنخْلِ، وفيه ماءٌ طيِّبٌ عَذْبٌ، كان رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يأتِيْهِ ويشرَبُ منه.
واتَّخذَ أبو طلحةَ القرارَ الحاسِمَ، الذي لا ترَدُّدَ فيه ولا رُجُوعَ بعدَهُ، ومَضَى إلى رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-فقالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إنَّ اللهَ يقولُ: [لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون]، وِإنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بستاني بَيْرُحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ، أَرْجُوْ بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عندَ اللهِ، ولَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّها ما أعلنتُها، فَضَعْهَا يَا رَسُوْلَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، فقال-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "بَخٍ بَخٍ-وهي كلمة يقولها العرب إذا أعجبهم شيءٌ واستحسنوه-ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِيْنَ، فَقَسَمَها أبو طلحةَ بين أقارِبِه صدقَةً لوجه الله.
إخواني الكرامُ: هذه ثلاثةُ مَوَاقِفَ مِنْ سِيرةِ أبي طلحةَ الأنصاريِّ-رضي الله عنه-وفِيْها دروسٌ وفوائدُ، لكنْ هناكَ شيءٌ مُشْتَرَك، تكرَّرَ في هذِهِ المواقِفِ، وظَهَرَ بِجَلاءٍ وَوُضوحٍ، وكانَ من أعْظَمِ ما يُمَيِّزُ ذلك الصحابيِّ الجليل، فما هِو هذا الشيءُ؟!
وبعد: فمِنْ أعْظَمِ ما يُميِّزُ أبا طلحةَ-رضي الله عنه-المُبادَرَةُ الإيجابِيَّةُ، يَرَى رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-وعليه آثارُ الجُوعِ، فيُبادِرُ لِيَصْنَعَ له طَعَامًا، دُوْنَ طَلَبٍ مِنْ أحَدٍ، ولا تَكْليفٍ ولا تَصْرِيحٍ ولا تَلْميحٍ، ويَسْمَعُ نبيَّنا-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-، يَدْعُو إلى إكرامِ ضيفِهِ، فَيُبادِرُ ويُسْرِعُ به إلى بيتِه، مع قِلَّةِ الإمْكَانياتِ، ويَسْمَعُ أَمْرَ اللهِ-سبحانهُ-بالإنفاقِ، فَيُبادِرُ لامْتِثالِه، ويتَصَدَّقُ بأَغلى أَمْوَالِهِ وأَحَبِّها إليه.
إنها مُبادراتٌ إيْجَابيةٌ، لم يَفْرِضْهَا عليه أَحَدٌ، ولم يُطَالِبْهُ بها أحَد، إلا ضَمِيرُهُ الحيُّ، وقلبُهُ الذي امتَلأَ بِحُبِّ اللهِ ورسولِه، وصِدْقِ الرغبةِ فيما عنده-سبحانه-، وبِمِثْلِ هذه المبادراتِ يَعْظُمُ الإنسانُ في ميزانِ الله.
فَهَلِ الرِّجالُ إلا مَوَاقِف، وهلِ الرِّفْعَةُ والمنزِلَةُ والثَّناءُ الحسَنُ إلا بأفْعالٍ قامَ بها أرْبَابُ الهِمَمِ العاليةِ، السابقون إلى الخيرِ، وتَقَاصَر عنها غيرُهُمْ.
الناسُ لا يَتَفاوَتُون بالقُدُراتِ ولا بالأنسابِ ولا بالأَجْسَامِ، ولكن بالهِمَمِ والعَزائمِ والإِقْدامِ.
إنَّنا بحاجَةٍ إلى مثْلِ هذه المُبادرَاتِ، كُلٌّ في مَيْدَانِهِ، مُبَادَرَاتٌ في تَبَنِّيْ مشاريعِ الخيرِ، في إقامةِ الأوقافِ، في بناء المساجدِ وصيانتِها، في الإنفاقِ لنَشْرِ دينِ اللهِ في الأرضِ، في تَعْليمِ الناسِ، ودَعْوَتِهِم إلى الله، وفي توعيةِ الشبابِ، وإقامةِ البرامجِ التي تَخْدِمُ المجتمعَ، وتوظيفِ الإعْلامِ لخدمَةِ الدِّينِ، وغيرِها مِنَ المجَالاتِ التي لا تُحْصَى، وهي تحتَاجُ إلى مُبادَراتٍ إيجابية.
الكلُ قَادِرٌ على فِعْلِ شيءٍ إيجابيٍّ ومُؤَثِّرٍ، في مجتمَعِهِ، أو مَقَرِّ عَمَلِهِ، أو في حيِّهِ، أو عائلتِه، أو بَيْتِهِ.
ما مِنَّا أحدٌ إلا وأمامَهُ أبوابٌ للخيرِ، وبينَ يدَيْهِ فُرَصٌ للأجْرِ، فَبادِرْ ولا تَتأخَّرْ، واعْزِمْ ولا تَتَردَّدْ، إنْ لم يكُنْ أنْتَ فَمَنْ؟ وإنْ لم يَكُنِ الآنَ فَمَتَى؟.[/align]
ثم قالَ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: احْلِقِ الشِّقَّ الآخرَ، فحلَقَهُ، واجتمعَ الشعرُ بين يديِه، وتعلَّقَتْ به العيونُ، وإذا برسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يسألُ: ههنا أبو طلحةَ؟ أين أبو طلحةَ؟ فتقدمَ أبو طلحةَ، زيدُ بن سهلٍ الأنصاريِ من بينِ جُموعِ الناسِ، فأعطاه النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-الشعرَ كُلَّهُ.
أيُّ منزلةٍ هذه التي بلَغَها أبو طلحةَ عندَ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-؟!!.
لقدْ كانَ في الناسِ أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، والكبارُ من المهاجرينَ والأنصارِ-رضيَ اللهُ عنهمْ وأرضاهمْ-، لكنَّ رسولَ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-اختصَّهُ دونَهم بهذا الفضلِ والتكريمِ.
فإذا رجعنا إلى سيرةِ ذلك الصحابيِ الجليلِ لنبحثَ فيها عما تميَّزَ به-رضيّ اللهُ عنهُ وأرضاه-، وجدناه فارسًا شجاعًا، كانَ أحدَ الصحابةِ القليلِ الذين ثبتوا مع رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-في معركةِ أُحدٍ لما جُرح وسالَ دمهُ وانهزمَ المسلمونَ، وفي معركةِ حنينٍ بالطائفِ قتلَ أبو طلحةَ عشرينَ رجلًا من الكفارِ وغنمَ مالَهم، قالَ فيه الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-"صوتُ أبي طلحةَ في الجيشِ خيرٌ من مئةِ رجلٍ"، ووجدناهُ جوادًا كريمًا.
أعزائي: هذه ثلاثةُ مَشاهِدَ من سيرةِ أبي طلحةَ، تكشفُ لنا جوانبَ أكثرَ عن شخصيةِ هذا الرجلِ العظيمِ.
المشهدُ الأولُ: جلَسَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ- يومًا لأصحابِ الصفةِ-الفقراءِ-يُقرئِهم القرآنَ، وقد شَدَّ على بطنِه حجَرًا، وظهر عليه أثرُ الجوعِ، فمرَّ أبو طلحةَ، فرآه على هذه الحالِ، لم يتحمَّلْ ذلك المنظرِ، ولم يُطِقْ أن يبْقَى عاجزًا مكتوفَ اليدينِ، ذهب فورًا إلى بيتِه، وقال لامرأته أمِ سليمٍ-رضيَ اللهُ عنها وأرضاها-: إني عَرَفْتُ في وجهِ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-الجوعَ، فهل عندكِ شيءٌ؟ قالت: ما عندي إلا مُدٌّ مِنْ شَعِيرٍ، إنْ جاءَنا رسولُ اللهِ وحدَهُ أشبعناه، وإنْ جاء ومعه أحَدٌ قلَّ عنهم،-تعني: لا يكفي-قال : اعْجِنِيْهِ وأصْلحِيهِ عسى أن ندعوَ رسولَ الله فيأكلَ عندنا، فصنعتْ منه قُرْصًا واحدًا.
وأرْسَلَ أَبُو طَلْحَةَ ربيبَهُ-ابنَ زوجتِه-وخادمَ الرسولِ أنسَ بنَ مالكٍ-رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاه-أرسلَه فقال: اذْهَبْ، فَقُمْ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-، فَإِذَا قَامَ فَدَعْهُ حَتَّى يَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، وَلا يَعْلَمْ بِكَ أَحَدٌ، ولا تدعُ غيرَه فتفضحَني، ثم قل له: إنَّ أبا طلحةَ يدعوك.
أقبَل أنسٌ على مجلسِ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ، وإذا به يسأله: أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ قالَ: نعمْ، فقال النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-لأصحابِه: "أجِيبُوا أبا طلحة"، فقام معه بضعةٌ وثمانون رَجُلًا-البضعةُ من ثلاثةٍ إلى تسعةٍ-عددُهم ما بين ثلاثةٍ وثمانينِ إلى تسعةٍ وثمانينِ رجلًا-.
وأخذَ رسولُ الله-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-بِيَدِ أنسِ، فشدَّها عليها بيدِه، وانطلق ذلك الجمعُ الغفيرُ-الكثيرُ-، يَشُقُّ طُرُقَاتِ المدينةِ إلى بيتِ أبي طلحةَ، ولا تَسَلْ عن حال أنسٍ، وقد أحاطَ به الناسُ، وهو يتذكرُ وصيةَ أبي طلحة ألا يُخبِرَ أحدًا، ويُفكرُ في قُرْصِ الشعيرِ الواحدِ الذي صنعتهُ أمُه-أمُ سليمٍ-، كيف سَيُشْبِعُ هؤلاءِ.
فلما دنَو-اقتربوا-من البيتِ، تركَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يدَ أنسٍ، فانطلقَ مُسْرِعًا يتقدَّمُهُمْ، دَخَل على أبي طلحةَ، قال: يَا أَبَتَاهُ، دَعَوْتُ رسولُ اللهِ فَدَعَا أَصْحَابَهُ، وجَاءَكَ بِهِمْ، فاغتم أبو طلحةَ لهذا الموقفِ المحرجِ-ليس بخلًا، وإنما لأنَّ الطعامَ قليلٌ: قرصٌ واحدٌ فقط-، وقال: يا أمَّ سُليمٍ، قد جاءَ رسولِ اللهُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-بالناسِ، وليس عندنا ما نُطْعِمُهم، قالتْ: اللهُ ورسولُه أعلمُ.
فخرَجَ من بيتِه يستقبِلُهُمْ قال: يا رسولَ اللهِ ما عندنا شيءٌ إلا قُرْصٌ واحدٌ، رأيتُكَ طاوِيًا، رابطًا حجرًا على بطنِك من الجوعِ، فأمرتُ أمُّ سُليمٍ أنْ تصنعَهُ لك، وأَرْسَلْتُ أَنَسًا يَدْعُوكَ وَحْدَكَ، وليسَ عِنْدِي مَا يُشْبِعُ القومَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-وقالَ: "هَلُمَّ –هاتِ-مَا عِنْدَكَ إنَّ الله سيجعلُ فيه بركةً".
فوَضَع الصَّحْفَةَ بين يديْهِ، وفيها ذلك القُرْصُ الواحدُ، وعَصَرَ عُكَّةَ سمْنٍ كانت عندَهم، حتى خرجَ منها شيءٌ يسيرٌ قليلٌ من السمنِ، فمسَحَ النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-القُرْصَ به، ودعا اللهَ أن يباركَ فيه، وقال: باسم الله، فانتفَخ القرصُ حتى ملأَ الصحفةَ، ووَضَعَ يدَه في وسطِه، ودعا عشرةً من أصحابِه فأكلوا، ثم دعَا عشرةً غيرَهم فأكلوا، وما زال يدعُوهمْ عشرةً عشرةً، حتى شبِعُوا جميعًا، ورسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-واضعٌ يدَهُ في وسَطِ القرصِ، فرَفَعَ يدَهُ، فإذا هو لم يَنْقُصْ منه شيءٌ، وأكَلَ أهلُ البيتِ، وجَمَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ ما تبقَّى فأهدَتْه لِجِيرَانِهَا.
المشهدُ الثاني: أنَّ رجلا أَتَى-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-، فقالَ: إني مَجْهُودٌ–يعني أصابني الجَهْدُ والمشقةُ والجوعُ-، فأرادَ رسولُ اللهِ أن يُواسِيَهُ، فبدأ بنفسِه وأهلِ بيتِه، أرْسَلَ إلى أزواجِه أمهاتِ المؤمنينِ-عليهِ وعليهن الصلاةُ والسلامُ-هل عندَكم طعامٌ؟ وكلُّهنُ يقلنَ: والذي بَعَثَكَ بالحقِّ ما عندنا إلا الماءُ.
فتوجَّه-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-إلى أصحابِه، قال: "مَنْ يُضِيفُ هَذَا الليلةَ، يرحمهُ الله"، فبادرَ أحدُهم ليغتنِمَ رحمةَ اللهِ وثوابَه، وقال: أنا يا رسولَ اللهِ.
لم يكن هذا المُتكلِّمُ أكثرَ الحاضرين مالًا، ولا أوْفَرَهُم طعامًا وشَرابًا، وما كان هو الوحيدُ الذي توجَّه له الخِطابُ، فالحاضرون جماعةٌ، لكنَّهُ كان مِنْ أسْرَعِهِم إلى الخير، لقد كان هذا المبادرُ أبا طلحةَ-رضيَ اللهُ عنه وأرضاهُ-.
انطلقَ بالضيفِ إلى بيتِهِ، فقال لامرأته-أمِ سُليمٍ-: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-ولا تَدَّخِرِيْ عنه شيئا، قَالَتْ: والله مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ الصبيان.
وقد يهُونُ على الإنسانِ أنْ يَجُوعَ، لكنَّ رؤيتَه لأطفالِه وَهُمْ جِياعٌ مؤلمةٌ شديدةٌ على النفسِ.
فقالَ أبو طلحة لزوجهِ: نَوِّمِي صِبيانَكِ، و إذا أرادوا العَشَاءَ فَعَلِّلِيْهِمْ–يعني أشغليهم-، فإذا دَخَل الضيفُ فقرِّبي الطَّعامَ، وَأَرِيهِ أَنَّا نَطْعَمُ مَعَهُ، ثم قُومِي إلى السراجِ فأطفئيهِ، واتْرُكِي الطعامَ له.
فصَنَعَا ذلك، وأكَلَ الضيفُ حتى شبعَ، وهو لا يشعُرُ بحرجٍ ولا إثْقَاٍل، ولا يَدريْ أنَّ البيتَ كلَّهُ جائعٌ مِنْ أجْلهِ!.
بَاتَ الضيفُ هَانِئَا، وباتَ أبو طلحةَ وامرأتُه وأطفالُه جائِعينَ، ليس في بُطُونهم شيءٌ؛ إكرامًا لضيفٍ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-.
فَلَمَّا تَنَفَّسَ الصباحُ، وطلعَ الفَجْرُ، غدا أبو طلحةَ كَعَادتِهِ، ليُصَليَ الفجرَ مع النبيِّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-وإذا بالوحيِ قد نزَلَ من السماءِ، وإذا بالعَمَلِ الصالحِ الذي أخفَاهُ أبو طلحةَ وزوجُه في جوفِ بيتِهِ، ولا يَعلمُ به ضيفُهُ ولا أحدٌ من الخَلْقِ، إذا به يتنزَّلُ به قُرآنٌ يُتلى إلى يوم القيامة، وإذا بِرَسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يقول: "لقد عَجِبَ اللهُ- أَوْ قال: ضحِكَ اللهُ- مِنْ صَنِيْعِكُما بضَيْفِكُما الليلةَ"، وأنزل-سبحانه-: [والذين تَبوؤوا الدارَ والإيمانَ من قبلِهم، يحبونَ من هاجرَ إليهمْ، ولا يجدونَ في صدورهِم حاجةٍ مما أوتوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ].
ونختم بالمشهدِ الثالثِ: لمَّا نَزَلَ قولُه-تعالى-: [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ، سَمِعَ أبو طلحةَ الآيةَ، ووقَعَتْ في قَلْبِهِ قبل أُذُنِهِ، علِمَ أنه كلامُ اللهِ، وتيقَّنَ أن ربَّهُ-سبحانَهُ-يَدْعُوهُ، ويُخاطِبُهُ بِأَمْرٍ واضحٍ، أنه لن يَنَال البرَّ ولن يَصِلَ إليهِ، حتى يُنْفِقَ مما يُحبُّهُ لِنَفْسِهِ.
وكان أبو طلحةَ في هذا الوقتِ قد أصبح غنيًا، فأَخَذَ يَستعْرِضُ أموالَهُ ومُمْتَلَكَاتِهِ، ولِكُلٍّ مِنها نصيبٌ مِنَ الحُبِّ، ووَرَاءَ كلِّ مالٍ قِصَّةٌ في اكْتِسابِه ورِعَايَتِهِ والانتفَاعِ به.
ففَكَّرَ وتأمَّلَ، وفتشَّ في قَلبِهِ ومَشَاعِرِه، أيُّ هذهِ الأموالِ أَحَبُّ إليه، أيُّ هذهِ المُمْتَلَكَاتِ أقْرَبُ إلى قلبِه، وأَعَزُّ على نفْسِهِ، وأحْظَى عندَهُ وأغْلَى، فإذا هو بَيْرُحَاء، وهو بُستانٌ بِجِوارِ المسجدِ النبوي، مليءٌ بالنخْلِ، وفيه ماءٌ طيِّبٌ عَذْبٌ، كان رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يأتِيْهِ ويشرَبُ منه.
واتَّخذَ أبو طلحةَ القرارَ الحاسِمَ، الذي لا ترَدُّدَ فيه ولا رُجُوعَ بعدَهُ، ومَضَى إلى رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-فقالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إنَّ اللهَ يقولُ: [لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون]، وِإنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بستاني بَيْرُحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ، أَرْجُوْ بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عندَ اللهِ، ولَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أُسِرَّها ما أعلنتُها، فَضَعْهَا يَا رَسُوْلَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، فقال-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "بَخٍ بَخٍ-وهي كلمة يقولها العرب إذا أعجبهم شيءٌ واستحسنوه-ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِيْنَ، فَقَسَمَها أبو طلحةَ بين أقارِبِه صدقَةً لوجه الله.
إخواني الكرامُ: هذه ثلاثةُ مَوَاقِفَ مِنْ سِيرةِ أبي طلحةَ الأنصاريِّ-رضي الله عنه-وفِيْها دروسٌ وفوائدُ، لكنْ هناكَ شيءٌ مُشْتَرَك، تكرَّرَ في هذِهِ المواقِفِ، وظَهَرَ بِجَلاءٍ وَوُضوحٍ، وكانَ من أعْظَمِ ما يُمَيِّزُ ذلك الصحابيِّ الجليل، فما هِو هذا الشيءُ؟!
الخطبة الثانية
إنها مُبادراتٌ إيْجَابيةٌ، لم يَفْرِضْهَا عليه أَحَدٌ، ولم يُطَالِبْهُ بها أحَد، إلا ضَمِيرُهُ الحيُّ، وقلبُهُ الذي امتَلأَ بِحُبِّ اللهِ ورسولِه، وصِدْقِ الرغبةِ فيما عنده-سبحانه-، وبِمِثْلِ هذه المبادراتِ يَعْظُمُ الإنسانُ في ميزانِ الله.
فَهَلِ الرِّجالُ إلا مَوَاقِف، وهلِ الرِّفْعَةُ والمنزِلَةُ والثَّناءُ الحسَنُ إلا بأفْعالٍ قامَ بها أرْبَابُ الهِمَمِ العاليةِ، السابقون إلى الخيرِ، وتَقَاصَر عنها غيرُهُمْ.
الناسُ لا يَتَفاوَتُون بالقُدُراتِ ولا بالأنسابِ ولا بالأَجْسَامِ، ولكن بالهِمَمِ والعَزائمِ والإِقْدامِ.
إنَّنا بحاجَةٍ إلى مثْلِ هذه المُبادرَاتِ، كُلٌّ في مَيْدَانِهِ، مُبَادَرَاتٌ في تَبَنِّيْ مشاريعِ الخيرِ، في إقامةِ الأوقافِ، في بناء المساجدِ وصيانتِها، في الإنفاقِ لنَشْرِ دينِ اللهِ في الأرضِ، في تَعْليمِ الناسِ، ودَعْوَتِهِم إلى الله، وفي توعيةِ الشبابِ، وإقامةِ البرامجِ التي تَخْدِمُ المجتمعَ، وتوظيفِ الإعْلامِ لخدمَةِ الدِّينِ، وغيرِها مِنَ المجَالاتِ التي لا تُحْصَى، وهي تحتَاجُ إلى مُبادَراتٍ إيجابية.
الكلُ قَادِرٌ على فِعْلِ شيءٍ إيجابيٍّ ومُؤَثِّرٍ، في مجتمَعِهِ، أو مَقَرِّ عَمَلِهِ، أو في حيِّهِ، أو عائلتِه، أو بَيْتِهِ.
ما مِنَّا أحدٌ إلا وأمامَهُ أبوابٌ للخيرِ، وبينَ يدَيْهِ فُرَصٌ للأجْرِ، فَبادِرْ ولا تَتأخَّرْ، واعْزِمْ ولا تَتَردَّدْ، إنْ لم يكُنْ أنْتَ فَمَنْ؟ وإنْ لم يَكُنِ الآنَ فَمَتَى؟.[/align]
المرفقات
المبادرات الإيجابية في سيرة أبي طلحة الأبية-16-6-1437هـ-عبدالله منكابو-الملتقى-بتصرف.docx
المبادرات الإيجابية في سيرة أبي طلحة الأبية-16-6-1437هـ-عبدالله منكابو-الملتقى-بتصرف.docx
المبادرات الإيجابية في سيرة أبي طلحة الأبية-16-6-1437هـ-عبدالله منكابو-الملتقى-بتصرف.pdf
المبادرات الإيجابية في سيرة أبي طلحة الأبية-16-6-1437هـ-عبدالله منكابو-الملتقى-بتصرف.pdf
عبدالله بن صالح منكابو
جزاك الله خيرا أخي الشيخ محمد بن سامر
وبارك فيك .. إضافات جميلة وموفقة
تعديل التعليق