المال هل هو نعمة أو نقمة

د. منصور الصقعوب
1444/05/21 - 2022/12/15 09:38AM

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا 

عباد الله: جاع ذئبٌ فوجد غنماً لا راعي لها, فما تظنونه سيصنع, نعم؛ قد أفسد فيها وفتك, ولكن أشدَ منه إفساداً, وأعظمَ إتلافاً, للدين لا للدينا, حرصٌ على المال وعلى الشرف, روى الترمذي بسند صحيح عن كعب بن مالك مرفوعا قال " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".

حبُّ المالِ فتنةُ الأمة الذي قال عنه المصطفى ق " لكل أمة فتنة وفتنة أمتى المال " صححه الترمذي

ومع هذا فهو طلبةٌ للمؤمن ليكف نفسه عن المسألة, وفطرةٌ في المرء يحبه ويبحث عنه (زين للناس حب الشهوات من النساء ...والقناطير المقنطرة..)

وبين هذا وهذا فهو غريزةٌ في المرء تَعظم كلما كبر سنه, فلئن وهنت القوى مع الكبر فإن الحرص على المرء يعظم بمر السنين, وفي الصحيح "يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر "

لذا لا يلام امرؤ على طلبه, ولا يثرَّبُ عليه في السعي لجمعه, فقد كان من الصحابة أغنياء, وجمعه بعض الصالحين, ولكن ذلك يكون بقدرٍ متزن لا يطغى.

ويبقى السؤال متى يذم المال ومتى يمدح؟

يذم المرء بجمع المال يا كرام حينما يكون المال في قلبه فلأجله يوالي ويعادي, وفي سبيله يرضى ويغضب, ولربما تمادى به الأمر حتى صار عبداً للدينا والدرهم فتعس حينها وانتكس

يذم المرء في المال حينما يجمعه من أوجه محرمة, وما أكثرها في هذه الأزمان.

يذم المرء حينما لا يتورع في طريق كسبه للمال, فتراه يضرب في أوجه الربا وغيره, أو في الشبهات, وما درى أنها للبركة ماحقة, وكل جسم نبت من سحت فالنار أولى به .

يُذمّ المرء في المال حينما يَشغلُه عن طاعة الله, ويلهي عن الصلاة, وعن حق الأهل والأولاد, وعن بر الوالدين.

يُذم المرء في المال حينما يشحّ به عن الواجب والمستحب فلا يخرج منه زكاة ولا ينفق منه في صدقة, وعجباً لرب المال المانع, يُنعِم الله عليه بالمال فضلا منه ومنَّة, ثم يطلب منه الزكاة مقداراً يسيراً, أو الانفاقَ في وجوه الخير, فإذا به يشحّ ويمنع, وكأن لسان حاله يقول: إنما هذا المال ورثته كابراً عن كابر, ولو تدبر في نفسه, لوجد أن المال مال الله, يجعله اليوم في يد فلان, وغداً في يد آخر, وأن المال لو كان يبقى في يد أحد لما وصل إليه, فموفقٌ من جعله مركباً يوصله إلى مرضاه ربه وجنة مولاه.

أيها المسلمون: ويذم المرء في المال يوم أن ينعمَ عليه ربه به, ثم تراه هو ينفقه فيما حرم الله, ويستخدمه في معاصي الله, فلا يزيده المال عن الله إلا بعداً، وهل يليق بامرئٍ يعطيه ربه المال, ثم يتخذه هو وسيلة لأن يعصي به مسديه, ويتقوى به على مخالفة أمره!! .

يذم المرء في المال: يوم أن يأخذ بأحد طرفي الذم, فإما أن يقتر على نفسه وأهله فيكونَ بخيلاً شحيحاً, أو يكون مسرفاً مبذراً, فيسلكُ درب إخوان الشياطين, ويبتعدُ عن درب من يحبهم الله من المؤمنين, وفي هذا يقول الحق ((وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)) سورة الإسراء 29

أما أن يكون المرء جامعاً للمال من وجهه, منفقاً له في وجهه, طائعاً فيه ربه, مؤدياً فيه حقه, فحينها نِعمَ المال الصالح للرجل الصالح, بل لربما كان مالُه سبباً لأن ينال أعلى الدرجاتِ في الجنان, وهل استحق عثمان بن عفانٍ وسامَ " ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم " الذي قلده إياه رسول الله إلا بالمال والانفاق حينما تتابع إنفاقه وقدم للمسلمين ماله.

وكم تحتاج الأمة إلى أصحابِ أموالٍ يبذلون المال لنشر الدين وخدمة الإسلام ومساعدة المحتاجين, وهنيئاً لصاحب المال يوم أن يكون المال حجةً له.

وإذا كان الفقير إذا احتسب وصبر له من الله الثواب والأجر, فالغني إذا أطاع ربه وشكر له من الله الأجر وعظيم الظفر, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, فطوبى له, وأعطى الله خلفاً صاحبَ مالٍ قدّم منه لأخرته ونفع به نفسه فبنى مسجداً أو وقّف وقفاً وساعد محتاجاً ونشر علماً فأولئك هم الأغنياء حقاً, يوم أن قدموا من أموالهم في حالة صحتهم وغناهم, وفي الصحيح أي الصدقة أفضل قال " أن تصدق وانت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى"

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده, أما بعد:  وفي خضم السعي في أمور الحياة, وفي غمرة جمع المرء للمال, لا بد لنا من معالم في الطريق, حين توضع نُصب العين, وفي سويداء القلب, ويُعقد عليها بالخناصر, نفلح بإذن المولى, ويكونُ سعيُناً وجهدُنا ومالُنا مقرباً لنا إلى الله ربنا .

ألا وإن القناعة بما أعطاك الله معلمٌ أساس, وكم ترى من أقوامٍ لم يقنعوا بما أعطاهم ربهم, وربما جرّهم ذلك إلى تحصيل المال من أوجه محرمة, ولو تفكر المرء لأيقن أن ما يقدّره ربه فهو الخير والحكمة, قدّر على الغني الغنى وهو خير له, وعلى الفقير الفقر وهو خير له, وله في كل تقدير حكمة, وفي الأثر "إن من عبادي من لا يُصلِحُ دينَه إلا الفقرَ, ولو أغنيته لطغى أو لأفسده ذلك" .

فيا أيها الفاضل: إن رُمتَ راحة بالٍ فاقنع بما أعطاك ذو الجلال, وإن قلّ, وفي الصحيح "قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أعطاه" وتفكر في من هم دونك, فكم نلتَ وحرموا, وأعطيتَ ومنعوا, وفي الصحيح "انظروا إلى من هم دونكم ولا تنظروا إلى من هم فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"

ورحم الله ابن وهب إذ يقول: صحبت أهل الترف فلم أجد أكبر همّاً مني, أرى دابة خيراً من دابتي وثوباً خيراً من ثوبي ثم صحبت الفقراء فاسترحت  

يا موفق: والنية الطيبة معلمٌ آخر, فليكن رائدُكَ في كل سعيك النيةَ لطيبةَ, فإنك تستطيع بتجارتك ووظيفتك أن تخدم المسلمين إن بعملك أو بمالك, وكم لِحُسنِ النوايا من أثر في بركة المال ونماءه وتيسره ولِأن يكون نعمةً لا نقمة.

والتوكل على الله واليقين بأن الرزق منه وحده معلمٌ أصيل, فوالله لو سعى المرء بكل جهد ووقت لم يحصل ريالاً أكثر مما قسم له وهو في بطن أمه, ولربما استعجل المرء الرزق فطلبه ولو من وجه محرم, ولو تحرى الحلال لجاءه ما كُتِب له، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها, فاتقوا الله وأجملوا في الطلب, فهوِّن عليك, فرزقك أتيك, ومَن خلقك فلن ينساك, ولو أنكم تتوكلون على الله حق توكله, لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خصاصا وتروح بطانا.

يا مؤمن: والتحري في وجوه المال الحلال والورعُ عن مشبوه الربح, مطلبٌ ومعلمٌ أكيد, فمع تجدد صور المعاملات, كم هي المعاملات التي تَعرِضُ للناس, وفيها شيء من الحرام, أو هي الحرام بعينه, ولربما غُلِّفت بأسماءَ جذابة, أو بفتاوى لا تتنزل عليها, فسل يا مبارك عما أشكل, وتثبت مما استربت في حكمه, وحين تشك في أمر فدع ما يريبك وستجد فيما لا يريبك كفاية, ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

يا كرام: والزهد في الدنيا معلمٌ من المعالم، ولا تلازم بين الفقر والزهد، بل الزهد أن يترك المرء مالا ينفع في الآخرة، ولقد كان ابن عوف وابن عفان وابن العوام وغيرهم من الاغنياء كلهم زهادٌ بل أئمة الزهاد, واذكر أن المال لا ينفعك إلا حين يفارقك, وأنه لو نفع المالُ أحداً وأغناه من دون ربه لنفع قارونَ الذي ملك ما ملك.

واذكر الحساب يوم العرض, عن المال من أين اكتسبته وفيم أنفقته, سؤالان ينتظران هناك إجابة من كل مسلم, فهل نحن مستعدون؟

وبعد: فينبغي للمسلم أن يكون نزيهاً أميناً, محاربا للفساد في المال, محافظاً على المال العام, فذاك واجبٌ شرعي وهو أمانةٌ عظيمة, والخصوم في المال العام هم كل الأمة, وعلى المرء إذا وقف على جرائم فساد ماليٍ من سرقة أو رشوة أو تحايل أو استغلال نفوذ أو غير ذلك أن يبلغ عن مرتكبيها, لترد عاديتهم, ولِيُحفَظ مالُ المسلمين من التعدي عليه.

وإذا وقع في يده منفعة من منافع العمل فالأصل أنها تستخدم في أغراض العمل لا في مصالحه الشخصية, وإن أذن له في استخدامها فليرفق في ذلك أشد مما يرفق في ماله, فالشركاء في هذا هم كل الأمة, فاحفظ مالهم واحتسب.

اللهم ارزقنا القناعة واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك

المرفقات

1671086316_المال.docx

المشاهدات 611 | التعليقات 0