الماء من آيات الله/ د. صالح بن مبارك دعكيك

شادي باجبير
1444/10/24 - 2023/05/14 04:57AM

بسم الله الرحمن الرحيم

الماء من آيات الله/ د. صالح بن مبارك دعكيك مسجد آل ياسر، المكلا، 12/5/2023م

*الحمد لله رب العالمين.

   لقد بث الله تعالى في كونه، سمائه وأرضه من الآيات الدالة على وحدانيته وربوبيته جل وعلا، ما يهتدي بها الإنسان إلى خالق الكون، فكل ما في السموات والأرض شاهد على خالقه وموجده سبحانه.

فواعجباً كيف يُعصى الإله ***  أم كيف يجحده الجاحدُ

ولله في كل تحريكةٍ *** وتسكينةٍ أبداً شاهدُ

وفي كل شيء له آيةٌ ***  تدل على أنه الواحدُ

   حديثنا اليوم عن آية عظمى من آيات الله ، يباشرها الإنسان ليلا ونهارا، بل أنه لا حياة له ولا لجميع المخلوقات إلا بها، إنه عنصر (الماء)، ذلك السائل العجيب، وتلك المعجزة الكونية الباهرة، التي يقف عند الأنسان مبهورا ببديع صنع الله تعالى وتقديره.

    الماء الذي منه خلق كل شيء وبه حياة كل مخلوق، { وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } الأنبياء:30 { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ } النور:45 ، ومع أن القرآن صرح بهذا قبل خمس عشرة قرنا فإن العلم بل جاء ليؤكد تلك الحقائق القرآنية.

     وقد جاء لفظ "الماء": بجميع بمشتقاتها في كتاب الله أكثر من  (160) مائة وستين مرة، وذكر بنفس اللفظ "الماء" إحدى وستين مرة ، وتكرار ذكر الشيء في القرآن دليل على أهميته، فكأن القرآن يلفت أنظار الناس إليه ليتفكروا فيه.

    إن الماء هو أغلى ما تملك البشرية، فهو عماد لاستمرار حياتها، وأساس من مقومات العيش لكل الكائنات الحية، ولا تتصور حياة بدون ماء.

    الماء يتركب من مادتين، من ذرتين من الهيدروجين وذرة أكسجين H20 وتحتوي كل قطرة على خمسة آلاف مليون جزيء! (دورة الماء بين العلم والإيمان - عبدالدائم الكحيل - صـ 2).

     يشكل الماء  حوالي  70 % من وزن الانسان ، كما أن نسبة وجوده في الأرض حوالى  70 % وما تبقى من مساحة الأرض هو اليابسة ، ولا يستطيع العيش بصحة جيدة من دون ماء أكثر من يوم واحد.

    لقد تجلت حكمة الله وإبداعه في هذ الماء المبارك أن جعله يتميز بلزوجة منخفضة تساعده على الدخول في مسامِّ الصخور مهما كانت دقيقة، وبالتالي يتم تخزينُ كميات ضخمة من الماء تحت سطح الأرض، حتى يصل إلى منطقة الإشباع التي لا يمكنه أن ينفُذَ منها، وهي عبارة عن طبقة من الصخور الصُّلبة التي لا تسمح للماء بالمرور خلالها، ولو كان للماء المختزن بين صخور الأرض قابلية التفاعل مع هذه الصخور لنقصت كمية المياه المختزنة كل عام، وبالنتيجة سوف يذهب الماء ولن نستفيد منه شيئًا؛ أي: ستتوقف الحياة على الأرض.

    وهذه الحقيقة العلمية لها إشارة في القرآن الكريم قال الله تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ الحجر: 22.

    كما أن الله تعالى أودع كثافة متوازنة في الماء لبقائه في الطبقات العليا من الأرض، ليحافظ على وجود الماء تحت سطح الأرض، ولضمان تدفقه على شكل ينابيع، ولو أن كثافة الماء كانت أعلى مما هي عليه الآن لغار الماء في الأرض؛ ولم يتمكن من التدفق من خلال الينابيع والأنهار، ولم يستطِعِ الماءُ المكوثَ في الأرض، وهنا يتضح لنا  معنى قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30]، قال القرطبي : "أي لو نشاء لجعلنا هذا الماء شديد الملوحة فلا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيره." (دورة الماء بين العلم والإيمان ، الكحيل  ص 18).

   إنه الماء عباد الله تلك المعجزة الربانية العجيبة، وتلك الآية  الظاهرة من آيات الله في الكون.

    ورغم وجود بدائل لكثير من المواد الضرورية لبقاء الانسان على قيد الحياة فإنه لا بديل للماء مطلقا، فهو المركب الأكثر ضرورة في الطبيعة، فوظائف الماء لا يمكن حصرها لكل الأحياء، به يروى العطش، ويصنع الطعام، ويغسل المتاع والثياب، ويسقى الحيوان والحرث والزرع ، ويشرب منه العالم بأسره.

  إنه لا حياة الا بالماء ، فلا شراب إلا بماء، ولا طعام إلا بالماء، ولا دواء إلا بالماء ولا نظافة إلا بالماء، ولا زراعة إلا بالماء، بل ولا صناعة إلا بالماء. وصدق الله القائل :{ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } الفرقان:48-50.

     نعم ، إن الله خلقه وصرفه بين المخلوقات وجعله مادة للحياة يبصرون ما فيه من العجب، ليتذكر من جعل الله له عقلا يتذكر به، ليرشده إلى خالق الكون المبدع في كل ما خلق، حتى قال الله ملفتا أنظار البشر لتلك الآيات العجيبة: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا *) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)، فهل بعد هذه الذكرى من ذكرى ، وهل بعد الخلق والابداع من خالق غير الله؟

     ‌الماء أيها الاحبة  آية من آيات الله الجليلة، ومعجزة من معجزاته الظاهرة، ولن يستطيع أحدٌ مِن الناس أن يخلُقَ قطرة ماء واحدة.

   وصدق الله القائل: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ الواقعة: 68 – 70.

   قال الإمام القرطبيُّ – رحمه الله -: أي: لو نشاء لجعلنا هذا الماء مِلحًا شديد الملوحة، فلا تنتفعون به في شربٍ ولا زرعٍ ولا غيرهما؛ (تفسير القرطبي  17 / 221).

    إن الماء نعمة جليلة تحتاج فعلا إلى شكر، إلا  أن واقع الانسان حينما يتعود على النعمة ويألفها ينسى أهميتها، ويغيب عن باله جلالة قدر تلك النعمة، وليتخيل أحدنا لو أنه فقد هذه النعمة ولو لساعات أحس فيها وأولاده بالعطش كيف كان سيقدر تلك النعمة التي فاتته، واسألوا من ابتلي بالحروب والكوارث والنكبات والتهجير والجفاف كيف كان حالهم مع قطرات الماء التي كانوا يحرصون أن تقع في آنيتهم ولا تقع على الأرض، تلك القطرات التي تعني حياتهم، وتعيد تدفق الدماء في عروقهم.

    هل سمعت بقصة الملك والسلطة التي لا تساوي شربة ماء؟

  في أحدى الأيام، دخل الواعظ ابن السَّمَّاك رحمه الله على الخليفة هارون الرشيد، فاستسقى الخليفة فأتي بكوب من الماء، فلما أخذه قال له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين، لو مُنِعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله تعالى، فلما شربها قال: أسألك: لو مُنِعْتَ خروجَها من بدنك، بماذا كنت تشتري خروجها؟ قال: بجميع ملكي. قال: إن ملكا قيمته شربة ماء وإخراجِها، لجدير أن لا يُنافس عليه!! فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا .

     فاقدروا نعمة الله عليكم ، واشكروها وحافظوا عليها ولا تزدروها، فإن الشكر يديم النعم، وكفرانها يزيلها ويرفعها.

 قال تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

   بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وعصمني وإياكم من الشيطان الرجيم.

     أقول ما تسمعون واستغفروا الله لي ولكم .............

 (( الخطبة الثانية))

     الماء نعمة عظيمة، ومنحة كريمة، مسداة من المولى جل جلاله للبشرية جدير بالعناية والمحافظة عليها، إلا أن واقع الناس يحكي إسرافا في الاستهلاك، وتبذيرا في استعمال المياه لدرجات مخيفة، سواء في الاستعمال الفردي في الاستحمام، ودورات المياه، وغسيل الملابس، والعبث بالماء في المنازل، أو من حيث الاستخدام العام في سقي الحدائق والأراضي الزراعية، أو أحواض السباحة، وغيرها من مواطن يهدر فيها المياه بكميات هائلة ، دون مراعاة لقيمتها الحياتية، ومن غير تقدير لهذه النعمة الجليلة.

    ولئن كان ذلك السَرَف واقع من غير المسلمين فإنه لا يصح بحال أن يقع ذلك من المسلم  الذي  أمره دينه بتقدير النعم، وأرشده رسوله ﷺ بترشيد الاستهلاك عموما، وفي الماء خصوصا، ذلك إن التبذير أمر مذموم شرعا، حتى عدَّ القرآن المبذر من إخوان الشياطين، قال تعالى: ( وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) السراء (27). فالمبذر شيطان في صورة انسان عياذا بالله تعالى.

     قال الإمام النووي - رحمه الله : أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء، ولو كان على شاطئ البحر؛ (مسلم بشرح النووي 4 / 2).

       نعم ،، إن الإنسان يسأل عن النعيم، ومن النعيم نعمة الماء، ففي سنن الترمذي (3358) مرفوعا: « إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم أصحَّ لك جسمَك؟، وأروك من الماء البارد؟» الصحيحة: 539 .

    وأعظم ما يكون السَرَف جرما ومقتا عند الله  حينما يكون إسرافا في أداء طهارة العبادات غسلا أو وضوءا.

    قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: كان ﷺ من أيسرِ الناس صبًّا لماء الوضوء، وكان يحذِّر أمته من الإسراف فيه، وأخبَر أنه يكون في أمته مَن يعتدي في الطهور؛ (زاد المعاد 1/ 184).

   وقد ثبت في مسند أحمد (7065) وسنن ابن ماجه (425) , من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – قال: «مر رسول الله ﷺ بسعد  رضي الله عنه  وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف؟ " , فقال: أفي الوضوء إسراف؟ , قال: " نعم , وإن كنت على نهر جار ». السلسلة الصحيحة(3292).

     وثبت في سنن أبي داود (96) من حديث عبدالله بن مغفلٍ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: «إنه سيكونُ في هذه الأمة قومٌ يعتَدُون في الطهور والدعاء». صحيح الجامع (1079).

   نعم إن قوما  يعتدون في الطهور؛ فيفتح أحدهم الصنبور على آخره ويتوضأ بكل اريحية، وربما كان يتحدث مع  غيره، وكذا في الغسل بحيث لو جئنا نحتسب كمية الماء لكانت مئات اللترات تهدر في الصرف الصحي، وهذا لعمر الله خطيئة كبرى.

   قال البخاري في صحيحه(1/ 140): (بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ فرض الوضوء مرة مرة، وتوضَّأ أيضًا مرتين وثلاثًا، ولم يزد على ثلاث، وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي ﷺ) .

   وفي البخاري (201) ، ومسلم (325) (51)  عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: «  كان النبي ﷺ يتوضأ بالمُد، ويغتسل بالصَّاع، إلى خمسة أمداد».

   وفي مسند الإمام أحمد (14976) من حديث جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجزئ من الوضوء المد من الماء، ومن الجنابة الصاع "، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: " قد كفى من هو خير منك، وأكثر شعرا رسول الله صلى الله عليه وسلم », وصححه الحاكم (575) والذهبي.

   أنه ليتحتم علينا عباد الله الاقتصاد في الماء، وعلينا تربية أبنائنا ونسائنا على ذلك، فتلك نعمة لا ينبغي التفريط فيه بحال من الأحوال، وينبغي التشديد في الأمر حتى يلتزم الجميع بتلك الآداب المرعية في ديننا.

إذا الماء يوما أفاض عطاه *** وصارت به أرضنا زاهية

فحافظ بني رعاك الاله *** ولو أن أنهاره جارية

فمن يهدر الماء كان جزاه *** ذهابا على نفسه الجانية

فاحذر  بني فإن المياه ***تعيش بها أنفاسنا الجارية

فصار لزاما شكر الإله *** ليحفظه نعمة غالية.

   هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداه ، والنعمة المعطاه،  نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأطهار الاخيار.

والحمد لله رب العالمين،،،

 

المشاهدات 490 | التعليقات 0