الماء بين النعيم والعذاب

المَاءُ بَيْنَ النَّعِيمِ وَالعَذَابِ
18/1/1435

الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الكَرِيمِ؛ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]؛ فَارْتَوَتِ الأَرْضُ بِسَيْلِهَا، وَاكْتَسَتْ بِخُضْرَتِهَا، فَأَنْبَتَتْ زَرْعَهَا، وَسَقَتْ شَجَرَهَا، وَأَيْنَعَتْ ثَمَرَتُهَا، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ إِنْزَالَ المَطَرِ وَإِنْبَاتَ الزَّرْعِ دَلِيلاً عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ المُسْتَلْزِمِ لِأُلُوهِيَّتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ شُكْرًا للهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَخَوْفًا مِنْ عَذَابِهِ، وَكَانَ إِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ عَاشَ أَصْعَبَ اللَّحَظَاتِ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، يَرْجُو أَنْ يَكُونَ رَحْمَةً، وَيَخَافُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ - عِبَادَ اللهِ - بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَالمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَخَشْيَتِهِ سُبْحَانَهُ بِالغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وفِي حَالِ الأَمْنِ وَالخَوْفِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سَرِيعُ العِقَابِ، شَدِيدُ المِحَالِ، عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ؛ {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 12-14].
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي المَاءِ حَيَاةُ النَّاسِ وَرَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ وَنِعْمَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ هَلَاكُهُمْ وَعَذَابُهُمْ وَانْتِقَامُ اللهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَمِنْ دَلائِلِ قُدْرَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ فِي الشَّيْءِ الوَاحِدِ فِعْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ كَمَا جَعَلَ فِي المَاءِ حَيَاةً وَهَلاَكًا، وَنَعِيمًا وَعَذَابًا؛ فَلاَ حَيَاةَ لِلْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا إلاَّ بالماء، وَهُوَ هَلاَكُهَا وَدَمَارُهَا.
إِنَّ النَّاظِرَ فِي القُرْآنِ يَجِدُ أَنَّ المَاءَ مُلاَزِمٌ لِلإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَتَكُونُ بِهِ حَيَاتُهُ وَهَلاَكُهُ، وَنَعِيمُهُ وَعَذَابُهُ.
فَفِي الدُّنْيَا لاَ حَيَاةَ بِلاَ مَاءٍ، وَمُنْذُ فَجْرِ التَّارِيخِ وَالأَحْيَاءُ عَلَى الأَرْضِ تَتَّبِعُ مَوَاقِعَ المِيَاهِ فَتَسْكُنُهَا، وَتَبْتَعِدُ عَنْ مَنَاطِقِ الجَفَافِ، وَحَضَارَاتُ البَشَرِ شُيِّدَتْ عَلَى ضِفَافِ الأَنْهَارِ، وَسَوَاحِلِ البِحَارِ، وَمَظَانِّ الأَمْطَارِ، وَالبَدْوُ الرُّحَّلُ يَتَّبِعُونَ بِأَنْعَامِهِمْ مَوَاقِعَ المَطَرِ وَالكَلأِ، فَيُخَيِّمُونَ فِيهَا إِلَى أَنْ تَجِفَّ فَيَرْتَحِلُونَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فكَانَتْ مَوَاضِعُ المِيَاهِ عَامِرَةً كَمَا كَانَتِ الصَّحَارَى الجَافَّةُ خَالِيَةً.
وَفِي المَاءِ شَرَابُ الإِنْسَانِ وَطَعَامُهُ، وَهُوَ يَمُوتُ إِذَا فَقَدَهُمَا، فَفِي الشَّرَابِ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 48، 49] ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22]، وَفِي الطَّعَامِ {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [إبراهيم: 32] {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 53، 54] {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22]، وَكَانَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى إِذَا نَظَرَ إِلَى السَّحَابِ قَالَ: فِيهِ وَاللهِ رِزْقُكُمْ وَلَكِنَّكُمْ تُحْرَمُونَهُ بِخَطَايَاكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.
وَفِي الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ جَمِيعًا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النحل: 10-11].
وَالإِنْسَانُ يَبْتَهِجُ بِالمَاءِ وَمَا يُحْدِثُهُ فِي الأَرْضِ مِنْ حَيَاةٍ وَنَمَاءٍ وَازْدِهَارٍ؛ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60].
هَذَا نَعِيمُ الإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا بِالمَاءِ، وَابْتِهَاجُهُ بِهِ وَبِآثَارِهِ، وَأَمَّا فِي الآخِرَةِ فَإِنَّ المُؤْمِنَ يَتَنَعَّمُ بِالمَاءِ فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ وَمَوْقِفِ الحِسَابِ حِينَ يَعْطَشُ النَّاسُ، فَيَرِدُ المُؤْمِنُ حَوْضَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَيَشْرَبُ شَرْبَةً لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَيَكُونُ شُرْبُهُ بَعْدَهَا تَلَذُّذًا بِالشَّرَابِ لاَ مِنْ ظَمَأٍ يَجِدُهُ.
وَفِي الجَنَّةِ مَاءٌ لِأَهْلِهَا؛ {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] ، وَفِيهَا عُيُونٌ تَتَفَجَّرُ بِالمَاءِ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإِنْسَان: 6] {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإِنْسَان: 17، 18] ، وَلَوْلاَ مَا فِي المَاءِ مِنْ لَذَّةٍ للإِنْسَانِ لَمَا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى نَعِيمًا لِأَهْلِ الجَنَّةِ، وَلَمَا وَعَدَ المُؤْمِنِينَ فِيهَا بِأَنْوَاعِ الشَّرَابِ وَالأَنْهَارِ وَالعُيُونِ.
وَأَمَّا الهَلاَكُ وَالعَذَابُ بِالمَاءِ فَحَاصِلٌ فِي الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ:
فَفِي الدُّنْيَا يُعَذِّبُ اللهُ تَعَالَى بِهِ قَوْمًا فَيُمْسِكُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا وَعَطَشًا؛ فَإِنَّ الجُوعَ سَبَبُهُ الجَفَافُ، وَسَبَبُ الجَفَافِ حَبْسُ المَاءِ، وَقْد يُغْرِقُ اللهُ تَعَالَى بِهِ المُعَذَّبِينَ كَمَا أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ بِهِ، فَفَتَحَ عَلَيْهِم مَاءَ السَّمَاءِ، وَفَجَّرَ لَهُمْ مَاءَ الأَرْضِ، فَالْتَقَى المَاءَانِ فَكَانَ الطُّوفَانُ العَظِيمُ الَّذِي أَغْرَقَ الأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُ إِلاَّ نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ؛ {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْض عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 11، 13] {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] ، طَغَى المَاءُ، فَزَادَ حَتَّى غَطَّى قِمَمَ الجِبَالِ، فَتَخَيَّلُوا مَاءً يَغْمُرُ الأَرْضَ كُلَّهَا، فَيَمْلَؤُهَا، وَيُغَطِّي جِبَالَهَا، فَإِلَى أَيْنَ يَفِرُّ النَّاسُ مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى فِي المَاءِ حِينَ جَرَتْ بِهِ الأَوْدِيَةُ وَالشِّعَابُ، وَغَطَّى الشَّوَارِعَ وَغَمَرَ الأَنْفَاقَ.
وَلِلْمَاءِ قُوَّةٌ إِذَا تَدَفَّقَ لاَ يَحْبِسُهَا حَابِسٌ، وَلاَ يَقِفُ فِي طَرِيقِهِ شَيْءٌ، وَلاَ يَرُدُّهُ عَنْ مَجْرَاهُ رَادٌّ، يَهْدُرُ فِي جَرَيَانِهِ هَدِيرًا مُخِيفًا حَتَّى يَصْطَدِمَ بِالسُّدُودِ فَيَصْدَعَهَا، وَيُزَلْزِلَ الأَرْضَ مِنْ حَوْلِهَا، وَيَجْرِفَ مَا أَمَامَهُ مَهْمَا كَانَ ثِقَلُهُ وَثَبَاتُهُ، فَيَقْتَلِعَ البُنْيَانَ الخُرَسَانِيَّ القَوِيَّ وَيُلْقِيهِ بَعِيدًا عَنْ مَحِلِّهِ، وَيَقْذِفُ السَّيَّارَاتِ فَيُطُوِحُ بِهَا فِي الهَوَاءِ كَقَذْفِ رَجُلٍ قَوِيٍّ حَجَرًا صَغِيرًا، وَالغَرَقُ بِالمَاءِ مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ العَذَابِ أَجَارَنَا اللهُ تَعَالَى وَالمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ بِالمَاءِ، وَلَوْلاَ أَلَمُ العَذَابِ بِالمَاءِ لَمَا تَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَهْلَ النَّارِ؛ فَيُذَادُ نَاسٌ عَنِ الحَوْضِ المَوْرُودِ؛ لِأَنَّهُمْ بَدَّلُوا دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُقَطِّعُهُمُ العَطَشُ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الحَرِّ، عَظِيمِ الزِّحَامِ، كَثِيرِ العَطَشِ.
وَيُعَذَّبُ أَهْلُ النَّارِ بِمَاءِ الحَمِيمِ الحَارِّ الَّذِي يَغْلِي مَخْلُوطًا بِدَمِ أَهْلِ النَّارِ وَعُصَارَتِهِمْ وَصَدِيدِهِمْ وَأَقْذَارِهِمْ، فَهُوَ نُزُلُهُمْ وَيُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 92 - 94] {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43، 44].
وَيَشْرَبُونَهُ وَهُمْ عَطْشَى يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ عَطَشِهِمْ فَإِذَا قَرَّبُوهُ لِيَشْرَبُوهُ شَوَى وُجُوهَهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ؛ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29]؛ أَيْ: كَالرَّصَاصِ المُذَابِ، أَوْ كَعَكْرِ الزَّيْتِ، مِنْ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ، فَمَنْ يُطِيقُ شُرْبَ زَيْتٍ يَغْلِي أَوْ رَصَاصٍ مُذَابٍ؟! فَإِذَا شَرِبُوهُ أَحْرَقَ أَحْشَاءَهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ النَّارِ؛ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 17] قَالَ: يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] وَيَقُولُ اللهُ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَاب} [الكهف: 29] " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
هَذَا هُوَ المَاءُ، خُلِقَ قَبْلَ الإِنْسَانِ، وَهُوَ مُلاَزِمٌ لَهُ مُنْذُ خُلِقَ، وَيَبْقَى مَعَهُ لِلْأَبَدِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَحْمَةً لَهُ وَنَعِيمًا إِنْ آمَنَ بِاللهِ تَعَالَى وَاتَّقَاهُ، فَيُنَعَّمُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَذَابًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الآخِرَةِ أَوْ فِي كِلَيْهِمَا إِنْ هُوَ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ أَوْ عَصَاهُ؛ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانَوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96 - 99].
نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِهِ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِهِ، وَجَمِيعِ سَخَطِهِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ..

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فيه كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْض فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: الحَدِيثُ عَنِ المَاءِ وَأَهَمِّيَّتِهِ للإِنْسَانِ يَجُرُّ لِلْحَدِيثِ عَنِ العَقَائِدِ وَالفِقْهِ وَالتَّارِيخِ وَالجُغْرَافْيَا وَالحُرُوبِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ المَاءَ أَسَاسٌ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ، وَقَدْ ضَلَّ قَوْمٌ مِنَ البَشَرِ فَعَبَدُوا المَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، زَعَمُوا أَنَّ المَاءَ أَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهِ كُلُّ وِلاَدَةٍ وَنُمُوٍّ وَنُشُوءٍ وَبَقَاءٍ وَطَهَارَةٍ وَعِمَارَةٍ، وَمَا مِنْ عَمَلٍ فِي الدُّنْيَا إلاَّ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى المَاءِ، وَلَهُمْ شَعَائِرُ فِي عِبَادَةِ المَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ المِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالتَّارِيخِ، فَعَبَدُوا خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، وُجُنْدِيًّا مِنْ جُنْدِهِ وَغَفَلُوا أَوِ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ!
وَالدَّجَّالُ حِينَ يَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ -وَفِتْنَتُهُ أَعْظَمُ فِتْنَةً تَمُرُّ عَلَى البَشَرِ- إِنَّمَا يَغْرِي النَّاسَ لِعِبَادَتِهِ بِالمَاءِ، فَمَعَهُ نَهْرُ مَاءٍ يُرَغِّبُ بِهِ، وَمَعَهُ نَهْرُ نَارٍ يُخَوِّفُ بِهِ كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ.
وَفِي كُتُبِ الفِقْهِ أَبْوَابٌ لِلْمِيَاهِ تُلْحَقُ بِأَبْوَابِ الطَّهَارَةِ، وَأَبْوَابُ المُسَاقَاةِ وَالمُزَارَعَةِ، وَتَكَادُ تَدْخُلُ المِيَاهُ فِي كُلِّ أَبْوَابِ الفِقْهِ.
وَتَنْفَرِدُ المِيَاهُ بِأَنَّهَا أَكْثَرُ أَسْبَابِ الحُرُوبِ وَالنِّزَاعِ وَالخُصُومَاتِ فِي التَّارِيخِ البَشَرِيِّ؛ فَالقَبَائِلُ قَدِيمًا تَقْتَتِلُ عَلَى ما يُحْمَى مِنْ مَصَادِرِ المِيَاهِ وَالكَلَأِ، وَكَمِ اشْتَعَلَتْ حُرُوبٌ بَيْنَ الدُّوَلِ الحَدِيثَةِ أَوْ كَادَتْ بِسَبَبِ بِنَاءِ سُدُودٍ عَلَى مِيَاهٍ، أَوْ تَغْيِيرِ مَجَارِي الَأَنْهَارِ، أَوِ التَّهْدِيدِ بِضَرْبِ السُّدُودِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالمُسْتَشْرِفُونَ لِلْمُسْتَقْبَلِ يُرَجِّحُونَ أَنَّ الحُرُوبَ القَادِمَةَ سَتَكُونُ حُرُوبًا عَلَى المِيَاهِ بِسَبَبِ إِفْسَادِ البَشَرِ فِي الأَرْضِ وَتَصَحُّرِهَا وَجَفَافِهَا وَتَلْوِيثِهَا مِمَّا كَانَ سَبَبًا فِي جَفَافِ مَنَاطِقَ مِنَ الأَرْضِ، وَإِصَابَةِ أُخْرَى بِالفَيَضَانَاتِ وَمَدِّ البِحَارِ وَاضْطِرَابِهَا.
وَإِفْسَادُ البَشَرِ لاَ يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حَدٍّ بِسَبَبِ الأَثَرَةِ وَالأَنَانِيَّةِ وَحُبِّ التَّمَلُّكِ، وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ، وَزَوَالِ الأَمَانَةِ، وَالغِشِّ فِي العَمَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَفْضَحَ الأَمْطَارُ مَشْرُوعَاتٍ قَدْ بَدَا لِلنَّاسِ أَنَّهَا مَتِينَةٌ مُتْقَنَةٌ فَإِذَا هِيَ تَتَهَلْهَلُ مَعَ تَدَفُّقِ الأَمْطَارِ وَتَسْقُطُ؛ لِتَكْشِفَ حَقِيقَةَ مَنْ هَنْدَسُوهَا وَشَيَّدُوهَا وَرَاقَبُوا العَمَلَ فِيهَا، وَقَدْ سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ فَأَجَابَهُ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَنَا وَالمُسْلِمِينَ مِنْ أَسْبَابِ سَخَطِهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَأْن يُعِينَنَا عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ، وَأْن يَجْعَلَ مَا أَعْطَانَا غَيْثًا مُبَارَكًا يُحْيِي به الأَرْضَ، وَيُنْبِتُ بِهِ الزَّرْعَ، وَيَنْفَعُ بِهِ الخَلْقَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي العَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
المرفقات

الماء بين النعيم والعذاب.doc

الماء بين النعيم والعذاب.doc

الماء بين النعيم والعذاب..doc

الماء بين النعيم والعذاب..doc

المشاهدات 3944 | التعليقات 4

أسأل المولى أن يفتح عليك كل أبواب الخير وأن يصرف عنك كل شر وأن يجعل ما تقوم به في موازين حسناتك..


جزاك الله خيرا ونفع بك


كثيرا ما نسمع الخطباء ونقرأ الخطب عن الأمطار والغيث فلا يزيد مضامينها عن أنها نعمة تستحق الشكر أو أنها نقمة تستوجب التوبة إلا أن شيخنا عالج بها أشياء كثيرة وتطرق فيها لمضامين متعددة ولم تخرج عن الوحدة الموضوعية.

شكر الله لشيخنا ولكل المشاركين في هذا المنتدى المبارك


الإخوة الكرام: قلبي دليلي وشبيب القحطاني وزياد الريسي..
أشكركم على مروركم وتعليقكم على الخطبة وأسأل الله تعالى أن يتقبل دعواتكم وأن يعطيكم مثها وخيرا منها وأن ينفع بكم.