المؤامرة القادمة: الكنائس في جزيرة العرب .. أ.شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
مثل القنبلة الانشطارية التي تتطاير شظاياها في كل مكان مصيبة البعض، وقاتلة البعض الآخر، أطلق مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط "وليد فارس" اللبناني الأصل الصهيوني التوجه، قنبلة من على إحدى منصات التواصل الاجتماعي؛ تويتر عن خبر مفاداه: السماح بإعادة افتتاح كنيسة قديمة عمرها 900 سنة في منطقة جبيل، بالتزامن مع زيارة البطريرك الماروني اللبناني بشارة الراعي إلى الرياض.
وقد تلقفت وسائل التواصل الخبر دون تأكيد من مصدر رسمي بكل حماسة، وخاصة الجماعات الليبرالية والعلمانية التي كانت وما زالت تحلم بسعودية علمانية تغيب عنها الشريعة، ولا ترفرف على ربوعها راية التوحيد.
وقد أعادت هذه التغريدة (على كذبها، وخبث صاحبها) الجدل المثار عن قضية لم يعرف السابقون بها جدلاً، بل كانت من مسلمات الشريعة عندهم، إلا وهي: قضية بناء الكنائس في بلاد الإسلام.
ففي فترات التراجع الحضاري والتخلف الجماعي لأمة الإسلام في كل المجالات تظهر العديد من العوارض والأمراض النفسية الناجمة عن هذا التراجع؛ من أبرزها: الانهزام والانبهار بما لدى الغرب من علوم وفنون وثقافات ومنتوجات فكرية ومنهجية.
وهذا الانهزام بدأ مع أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، والحملة الشرسة التي قادتها أوروبا على أقاليم الدولة العثمانية وانتهاش تلك البلاد الواحد تلو الآخر، بداية من الجزائر ثم تونس ثم مصر ثم ليبيا، ثم الشام والعراق، ولم يسلم من عدوان المحتل الصليبي لديار الإسلام سوى بلاد الجزيرة العربية، إذ حفظها الله -عز وجل- من أسر الصليبيين وعدوانهم.
هذه الهزيمة النفسية والانبهار الحضاري دفع بكثير من أبناء المسلمين خاصة من الطبقة المثقفة للافتتان بالقيم الغربية ونمط حياتها وأساليبها في إدارة الحكم والبلاد، وتنظيم العلاقات بين الأفراد، وبدأت المفاهيم الغربية والمصطلحات الأوروبية في الولوج إلى فضائنا الثقافي بعد تنحية الشريعة الإسلامية من المجتمعات الإسلامية، وبدأ الحديث عن العلمانية والحرية المنفلتة والتعايش السلمي والإخوة الإنسانية والدولة المدنية والحداثة وقبول الآخر وحرية الاعتقاد، وأخذت هذه المفاهيم والمصطلحات المستوردة في الحلول تدريجياً مكان مصطلحات المسلمين ومفاهيمهم النابعة في الأساس من دينهم وعقيدتهم، فحلت الدولة المدنية الحديثة بدل الدولة الإسلامية، وحل الدستور والقانون الوضعي مكان مصادر التشريع من قرآن وسنة وإجماع، وحلت العلمانية مكان الشريعة، وحلت المواطنة مكان الإخوة الإسلامية وعقد الذمة، وحل الإلحاد والزندقة مكان حرية الاعتقاد، وحلت الحرية المنفلتة مكان الآداب والأخلاق الإسلامية.. إلخ..
وقضية بناء الكنائس ما هي إلا عرض من أعراض هذا التراجع الحضاري والانهزام النفسي الذي قاد لحلول النموذج العلماني الأوروبي في الحكم والإدارة والتنظيم المجتمعي مكان النموذج الإسلامي الرشيد القائم على الكتاب والسنة.
ونظراً لكثرة الشبهات والتأويلات التي ترد في القضية خاصة بعد أن حاول بعض منتسبي العلم لي أعناق النصوص الشرعية، والتنقيب في بطون الكتب التاريخية للاستدلال على جواز بناء الكنائس في بلاد الإسلام، وإحالة المسألة برمتها إلى باب السياسة الشرعية، نظراً لذلك سوف نعرض في هذا المقال لأبعاد هذه القضية الحساسة لنحسم مادة الخلاف فيها، ونبين مرامي المروجين لها وأهدافهم وأغراضهم من إثارة هذا الكلام في هذا الوقت الحساس في مصير عالمنا الإسلامي والعربي.
أولاً: الكنائس في الغرب والكنائس في الشرق:
من المعلوم أن النصارى لا يذهبون إلى الكنيسة إلا يوم الأحد من كل أسبوع وبقية أيام الأسبوع الستة لا علاقة للنصارى بالكنيسة إلا نادرا، وذلك بعكس ما عليه المسلمون حيث يرتبطون بالمسجد في اليوم الواحد خمس مرات، ورغم ضآلة الفترة الزمنية التي يرتبط فيها النصراني بالكنيسة مما يمكنه من الوفاء بهذا الارتباط لو أراد من غير أن يؤثر على مصالحة وارتباطاته الدنيوية، فإننا نجد أن الإحصاءات المتعددة تبين انحسار إيمان النصراني بالنصرانية، وغلبة الإلحاد على الكثيرين منهم، وأن من بقي منهم على نصرانيته فلا يكاد يذهب إلى الكنيسة منهم إلا أقل القليل، حيث يقدِّر الباحثون أن أعداد المسلمين التي تذهب إلى المساجد يوم الجمعة في لندن أكثر من أعداد النصارى الذين يذهبون للكنائس يوم الأحد، على الرغم من أن أعداد النصارى في لندن تفوق أعداد المسلمين سبع مرات.
وقد ذكرت بعض الإحصائيات: "إن الذين يؤمنون في أوروبا بوجود إله أقل من 14% من السكان، والذين يذهبون في القداس مرة في الأسبوع في فرنسا: "بنت الكاثوليكية وأكبر بلادها" أقل من 5% من السكان، أي أقل من 3 ملايين، أي أقل من نصف عدد المسلمين الفرنسيين".
وجاء في الإحصائية نفسها: "أن10% من كنائس إنجلترا معروضة للبيع، وفي ألمانيا توقف القداس في 100 كنيسة أي 30% من كنائس إبراشية آيسين وحدها، وهناك دول أوروبية بأكملها لا يكاد أهلها يذهبون إلى الكنائس؛ مثل فلندا والنرويج وإيسلندا.
وقد ذكرت دراسة نصرانية بريطانية أنه بعد عقدين من الزمن سوف تقفل ما يقابل العشرين بالمائة (20%) من الكنائس الموجودة هناك، وذلك بسبب ارتفاع تكلفة إصلاحاتها وهجر الكثيرين لها.
وأشارت الدراسة إلى أن كنيستين يتم إغلاقهما أسبوعيًّا، وقامت بعض البلديات في دولة مثل بلجيكا بالموافقة على تحويل بعض الكنائس التي لم يعد يدخلها أحد إلى مساجد، وسبق أن تحولت إحدى الكنائس الكبيرة في ألمانيا إلى مطعم تقدم فيه الخمور نتيجة عدم إمكانية توفير المال لاستمرار عمل الكنيسة، رغم أنها حاولت عن طريق السماح بعمل حفلات زواج ديسكو ماجنة من أجل جمع المال للبقاء بلا طائل، حتى أصبح من الأمور المعتادة تحويل كنائس إلى بنوك ومحلات بيع أثاث الحدائق وأسواق ضخمة (سوبر ماركت).
فلماذا إذاً الإلحاح الأوروبي والأمريكي الذي لا ينقطع من أجل إقامة وبناء الكنائس والمعابد الشركية في بلاد الإسلام عامة، وفي السعودية وجزيرة العرب خاصة؟! إذا كانت الكنائس في عقر دارهم قد فقدت قيمتها وروادها، وعلما هذا الإصرار الذي يبدو أنه له أهداف أخرى الدفاع عن حرية الاعتقاد؟ أهداف تتعلق بالسيادة والأمن الداخلي واستقرار البلاد واستهداف أعز ما تملكه؛ دينها وعقيدتها.
ثانياً: دور الكنائس في التنصير:
التنصير حركة دينية سياسية استعمارية بدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية بغية نشر النصرانية بين الأمم المختلفة في دول العالم الثالث بعامة وبين المسلمين بخاصة بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب.
عندما اجتاح الاحتلال الأوروبي العالم الإسلامي، كان المنصِّرون يُشكِّلون الجناح الموازي للعمل العسكري؛ فحمل الجنود السلاح، وحمل رجال الكنيسة الإنجيلَ لتغيير عقيدة السكان، وهم في غالبيتهم الساحقة من المسلمين السنَّة، ولم تكن بقعة بمنأى عن هذا التيار الذي حاول التأثير على عقائد الناس، ومسْخ هُويتهم، والتأثير في ولاءاتهم الحضارية.
وإذا كان التنصير طيلة الفترة الاستعمارية لم يُحرِز نجاحًا يُذكَر في دفع سكان البلد إلى الردَّة عن دِينهم، غير أن الاحتلال قد أفلح في إحداث تغيير ثقافي من خلال أدوات كثيرة، وخلق طبقة تَدِينُ بالولاء الحضاري للغرب وإن لم تكن نصرانية من حيث العقيدة، وهي الآن التي تنافح عن قضية بناء الكنائس في بلاد الإسلام.
طورت الكنائس المسيحية وسائلها الدعائية من أجل اختراق المجتمعات الإسلامية، وفي سنة 1978 احتضنت أمريكا الشمالية مؤتمرًا يعرف بـ "مؤتمر كولورادو"، هذا المؤتمر حضره نحو 150 من قادة الرأي والفكر، من بينهم نخبةٌ من المنصِّرين العاملين في الميدان، وأكاديميون ومستشرقون لاهوتيون، وأساتذة في علوم الأجناس وعلوم الاجتماع وعلم النفس والدراسات اللغوية، ومن خبراء ومستشارين سياسيين وأمنيين ودبلوماسيين.
المؤتمر وُصِفَ بأنه "من المؤتمرات القادرة على تغيير مجرى التاريخ"، وركز على ما يلي:
أولاً: أن يجد الإنجيل طريقه إلى 720 مليون مسلم.
ثانيًا: أن يتخلى المنصِّرون عن أساليبهم البالية ووسائلهم الفاشلة.
ثالثًا: أن تخرج الكنائس القومية عن عزلتِها وتَقتحم بعزم ثقافات المسلمين.
رابعا: أن يجد المسعى لتحريك المواطنين النَّصارى في البلدان المعنية ليعملوا مع الإرساليات.
خامساً: ضرورة الضغط على حكومات البلاد الإسلامية لتمرير قوانين بناء الكنائس ودور العبادة، واستخدام أدوات الضغط السياسي من أجل ذلك.
وقد اتخذت استراتيجية التنصير في الآونة الأخيرة عدة مسارات متنوعة وبخطوات متسرعة؛ فمن خدعة الحوار بين الإسلام والكاثوليكية، إلى اتهام الإسلام أنه دين إرهابي قائم على العنف والقسوة، إلى شن حرب عسكرية على بلدان إسلامية بزعم القضاء على الإرهاب المتوقع من تلك الدول، إلى محاربة المؤسسات الخيرية التي تعني بفقراء المسلمين، والتي تنشط بالدعوة بين صفوف غير المسلمين، والتدخل في منعها وإغلاقها بزعم أن أموالها تستخدم في تمويل الإرهاب، إلى الطعن في رسول رب العالمين خير من وطئ الثرى -صلى الله عليه وسلم- والاستهزاء به، إلى تمزيق المصحف وإهانته.
كل ذلك بهدف إماتة الغيرة في نفوس المسلمين والحمية لدينهم، حتى يسمع المسلم سب الله -تعالى- وسب رسوله -صلى الله عليه وسلم- ودينه ويهان كتابه، من غير أن يحرك ساكنا أو تتحرك نفسه للدفاع عن دينه.
وآخر وليس أخيرا: السعي في بناء الكنائس في بلاد المسلمين، وكل ذلك يجري في منظومة واحدة وإن تنوعت صورها، حتى يحقق هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها آخر ما يوسوس إليهم شياطينهم به، من تحويل العالم كله إلى النصرانية.
ثالثاً: تقسيم الديار من وجهة النظر الإسلامية:
وقد قسم أهل العلم البلاد بالنسبة لديانة من يسكنها إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الحرم.
الثاني: الحجاز وجزيرة العرب.
والثالث: ما عداهما.
1- الحرم فهو مكة وما طاف بها من جوانبها، وحده من طريق المدينة دون التنعيم على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفة من بطن نمرة على سبعة أميال، ومن طريق جدة على عشرة أميال، فهذا حد ما جعله الله -تعالى- حرما لما اختص به من التحريم وباين بحكمه سائر البلاد.
ويختص الحرم بعدة أحكام باين فيها سائر البلدان والذي يتعلق بموضوعنا من ذلك منع من خالف دين الإسلام من معاهد وذمي من دخوله لا مقيما فيه ولا مارا به، وهذا قول جمهور أهل العلم ويدل له قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا) [التوبة: 28].
وجوز أبو حنيفة دخولهم إليه إذا لم يستوطنوه.
والآية دالة على عكس ذلك إذ هي منعت قربانهم من المسجد وليس من استيطانه فقط.
2- الحجاز وجزيرة العرب: فقد قال الأصمعي: سمي حجازا؛ لأنه حجز بين نجد وتهامة، وما سوى الحرم منه يختص بعدة أحكام، والذي يتعلق بموضوعنا منه أنه لا يستوطنه مشرك من ذمي ولا معاهد، وأجازه أبو حنيفة وهو محجوج بما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما"، وقال صلى الله عليه وسلم في المرض الذي مات فيه: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، وقال صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب"، وكان هذا آخر ما تكلم به.
وأخرج البخاري في صحيحه: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز"، قال مالك في الموطأ: "قال ابن شهاب ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه الثلج واليقين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، فأجلى يهود خيبر"، وضرب لمن قدم من أهل الذمة تاجرا أو صانعا مقام ثلاثة أيام ويخرجون بعد انقضائها فجرى به العمل واستقر عليه الحكم، فمنع أهل الذمة من استيطان الحجاز ولا يمكنون من دخوله ولا يقيم الواحد منهم في موضع منه أكثر من ثلاثة أيام.
قال القرطبي: "وأما جزيرة العرب، وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها، ويحدُّها غربًا: بحر القُلْزُم، وهو المعروف الآن باسم: البحر الأحمر، وجنوبًا: بحر العرب، ويقال له: بحر اليمن، وشرقًا: الخليج العربي، والتحديد من هذه الجِهات الثلاث بالأبحر المذكورة محل اتِّفاق بين المحدِّثين، والفُقهاء، والمؤرِّخين، والجغرافيِّين، وغيرهم.
وممَّن أفصح عن هذا التحديد ابنُ حَوْقَل، والإصطخري، والهَمْداني، والبَكري، وياقوت.
وعلى هذا فدول الخليج جميعها في جزيرة العرب المذكورة في الأحاديث والآثار، ويضم إليها اليمن، وتخرج منها سوريا والأردن والعراق وفلسطين، فقال الإمام مالك: "يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين"، وكذلك قال الشافعي -رحمه الله-، غير أنه استثنى من ذلك اليمن، ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر -رضي الله عنه- حين أجلاهم".
قال النووي في شرح حديث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب": "وأخذ بهذا الحديث مالك والشافعي وغيرهما من العلماء، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سكناها، ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو الحجاز، وهو عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه".
قال العلماء: "ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز، ولا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام".
قال الشافعي وموافقوه: إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال، فإن دخله في خفية وجب إخراجه، فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج ما لم يتغير، هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء".
قال ابن حجر: "الذي يمنع المشركون من سكناه منها (أي جزيرة العرب) والحجاز خاصة: وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب، لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب، هذا مذهب الجمهور".
والمراد من ذلك بيان اتفاق أهل العلم من سائر المذاهب على منع أهل الذمة من سكنى الحرم والحجاز، وإذا كان أهل الذمة من اليهود والنصارى ممنوعون من دخول الحرم مطلقا، ومن البقاء في الحجاز أكثر من ثلاثة أيام، فغيرهم من المشركين من غير أهل الكتاب ممنوعون من باب أولى، وإذا كان المشركون كلهم ممنوعين من البقاء في جزيرة العرب على الوجه المتقدم تفصيله، فمنعهم من بناء كنيسة أو معبد من معابد المشركين في هذه البقعة من الأرض أولى وأولى، إذ ليس كل ما جازت سكناه لأهل الذمة جاز لهم بناء كنيسة فيه، والمنع من بناء كنيسة أو معبد للمشركين في جزيرة العرب مما اتفق عليه أهل العلم.
3- ما عدا الحرم والحجاز وجزيرة العرب: فهو يشمل بالنسبة للمشركين أقساماً ثلاثة: قسم أحياه المسلمون، وقسم ملكه الغانمون عنوة، وقسم صولح عليه أهله.
القسم الأول: فأما القسم الذي أحياه أو مصَّره المسلمون مثل البصرة والكوفة وبغداد والقاهرة، ونحو ذلك، مما أنشأه المسلمون في القديم أو الحديث؛ فهذه البلاد صافية للإمام إن أراد أن يقر أهل الذمة بالسكنى فيها جاز، فلو أقرهم على أن يحدثوا فيها بيعة أو كنيسة أو يظهروا فيها خمرا أو خنزيرا أو ناقوسا لم يجز، وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العهد والشرط فاسدا، وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع.
وحقوق أهل الذمة عند المسلمين أولى وآكد من المعاهدين والمستأمنين؛ لأن أهل الذمة من رعايا دار الإسلام ومواطنيها، فإذا لم يجز لأهل الذمة مع ذلك إحداث كنيسة أو بيعة في المدن التي أنشأها المسلمون، فهو من باب أولى لا يجوز للمعاهدين أو المستأمنين.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في تفسير التمصير: "يكون التمصير على وجوه، فمنها: البلاد التي يسلم عليها أهلها، مثل المدينة والطائف، واليمن، ومنها كل أرض لم يكن لها أهل فاختطها المسلمون اختطاطا ثم نزلوها، مثل الكوفة والبصرة، وكذلك الثغور، ومنها: كل قرية افتتحت عنوة، فلم ير الإمام أن يردها إلى الذين أخذت منها، ولكنه قسمها بين الذين افتتحوها كفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأهل خيبر، فهذه أمصار المسلمين، التي لا حظ لأهل الذمة فيها، إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أعطى خيبر اليهود معاملة لحاجة المسلمين كانت إليهم، فلما استغني عنهم أجلاهم عمر، وعادت كسائر بلاد الإسلام، فهذا حكم أمصار العرب، وإنما نرى أصل هذا من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب".
وقد نقل ابن القيم كثيرا من أقوال أهل العلم التي تدل على ما تقدم، ثم علق عليها بقوله: "وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مقتضى أصول الشرع وقواعده: فإن إحداث هذه الأمور إحداث شعار الكفر، وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير، فإن تلك شعار الكفر، وهذه شعار الفسق، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق، فكيف إحداث موضع الكفر والشرك؟".
وقال ابن قدامة: "وما وجد في هذه البلاد (التي مصَّرها المسلمون) من البيع والكنائس, مثل كنيسة الروم في بغداد، فهذه كانت في قرى أهل الذمة (قبل التمصير)، فأقرت على ما كانت عليه".
القسم الثاني: ما ملكه أو فتحه المسلمون من أرض الكفار عنوة أي بالقوة، فقد اختلف أهل العلم في جواز عقد الإمام الذمة لهم مع إبقاء معابدهم التي وجدت قبل الفتح بأيديهم؛ فمنهم من قال: "لا يجوز تركها بأيديهم بل يملكها المسلمون يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه"، ومنهم من قال: "يجوز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر فيها، وكما أقر الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم"، ومنهم من قال: يخير الإمام بين الأمرين بحسب المصلحة، قال ابن تيمية: "وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلت سنه رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- حيث قسم نصف خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين".
القسم الثالث: الذي صولح عليه أهله فهو على ما صولحوا عليه، فإن صولحوا على إبقاء معابدهم المتقدم بناؤها بأيديهم بقيت بأيديهم ولا يجوز انتزاعها منهم بعد ذلك من غير سبب يوجبه كنقضهم للعقد، وإن صولحوا على جواز أن يحدثوا كنيسة إذا احتاجوا إليها فينبغي الوفاء لهم بما صولحوا عليه "وما فتح صلحا نوعان:
أحدهما: أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها فلهم إحداث ما يحتاجون فيها؛ لأن الدار لهم.
والثاني: أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا، فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من إحداث ذلك وعمارته".
رابعاً: أقوال أهل العلم في بناء الكنائس في بلاد الإسلام وجزيرة العرب:
نقل الشيخ إسماعيل الأنصاري -رحمه الله- أقوال أئمة المذاهب في المسألة فوفى وكفّى، وهذا مختصر ما ذكره -رحمه الله-:
قال أصحاب مالك: "إن كانوا في بلدة بناها المسلمون فلا يمكنون من بناء كنيسة، وكذلك لو ملكنا رقبة بلدة من بلادهم قهرا، وليس للإمام أن يقر فيها كنيسة بل يجب نقض كنائسهم بها.
أما إذا فتحت صلحا على أن يسكنوها بخراج ورقبة الأبنية للمسلمين وشرطوا إبقاء كنيسة جاز.
وأما إن افتتحت على أن تكون رقبة البلد لهم وعليهم خراج ولا تنقض كنائسهم، فذلك لهم ثم يمنعون من رمها، قال ابن الماجشون: ويمنعون من ترميم كنائسهم القديمة إذا رثت إلا أن يكون ذلك شرطا في عقدهم فيوفى لهم، ويمنعون من الزيادة الظاهرة والباطنة، وهذا في أهل الصلح.
وأما أهل العنوة فلا تترك لهم عند ضرب الجزية عليهم كنيسة إلا هدمت ثم لا يمكنون من إحداث كنيسة بعد وإن كانوا معتزلين عن بلاد الإسلام" ا. هـ.
ومن المالكية الذين بحثوا في موضوع الكنائس الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي في كتابه: "سراج الملوك" قال في حكم الكنائس: "أمر عمر بن الخطاب أن تهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام، ومنع أن تحدث كنيسة، وأمر أن لا تظهر عليه خارجة من كنيسة، ولا يظهر صليب خارج من الكنيسة إلا كسر على رأس صاحبه، وكان عروة بن محمد يهدمها بصنعاء، وهذا مذهب علماء المسلمين أجمعين، وشدد في ذلك عمر بن عبد العزيز، وأمر أن لا يترك في دار الإسلام بيعة ولا كنيسة بحال قديمة ولا حديثة. وهكذا قال الحسن البصري قال: "من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة، ويمنع أهل الذمة من بناء ما خرب".
وقال الشافعي في المختصر: "ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجتمعا لصلواتهم، ولا يظهرون فيها حمل الخمر ولا إدخال خنزير، ولا يحدثوا بناء يطولون به على بناء المسلمين، وأن يفرقوا بين هيئاتهم في المركب والملبس وبين هيئات المسلمين، وأن يعقدوا الزنار على أوساطهم، ولا يدخلوا مسجدا، ولا يسقوا مسلما خمرا، ولا يطعموه خنزيرا، وإن كانوا في قرية يملكونها منفردين لم يعرض لهم في مرهم وخنازيرهم هم ورفع بنيانهم، وإن كان لهم بمصر المسلمين كنيسة أو بناء طويل كبناء المسلمين لم يكن للمسلمين هدم ذلك، وترك على ما وجد، ومنعوا من إحداث مثله. وهذا إذا كان المصر للمسلمين أحيوه أو فتحوه عنوة.
وشرط هذا على أهل الذمة.
وإن كانوا فتحوا بلادهم على صلح منهم على تركهم وإياه خلوا وإياه، ولا يجوز أن يصالحوا على أن ينزلوا بلاد الإسلام يحدثون فيها ذلك".
وقال صاحب "النهاية" في شرحه: "البلاد قسمان: بلدة ابتناها المسلمون فلا يمكن أهل الذمة من إحداث كنيسة فيها ولا بيت نار، فإن فعلوا نقض عليهم. فإن كان البلد للكفار وجرى فيه حكم المسلمين فهذا قسمان: فإن فتحه المسلمون عنوة وملكوا رقاب الأبنية والعراص تعين نقض ما فيها من البيع والكنائس، وإذا كنا ننقض ما نصادف من الكنائس والبيع فلا يخفى أنا نمنعهم من استحداث مثلها، ولو رأى الإمام أن يبقي كنيسة ويقر في البلد طائفة من أهل الكتاب فالذي قطع به الأصحاب منع ذلك.
وأما الحنابلة: فقد قال الخلال في كتاب: "أحكام أهل الملل" باب "الحكم فيما أحدثته النصارى مما لم يصالحوا عليه": أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: كان المتوكل لما حدث من أمر النصارى ما حدث كتب إلى القضاة ببغداد يسألهم أبي حسان الزيادي وغيره، فكتبوا إليه واختلفوا، فلما قرئ عليه قال: اكتب بما أجاب به هؤلاء إلى أحمد بن حنبل ليكتب إلي ما يرى في ذلك. فقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ليس لليهود ولا للنصارى أن يحدثوا في مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة، ولا يضربوا فيه بناقوس إلا فيما كان لهم صلحا. وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين على حديث ابن عباس: "أيما مصر مصره المسلمون". وقال: "وإذا كانت الكنائس صلحا تركوا على ما صالحوا عليه. فأما العنوة فلا. وليس لهم أن يحدثوا بيعة ولا كنيسة لك تكن، ولا يضربوا ناقوسا، ولا يرفعوا صليبا، ولا يظهروا خنزيرا، ولا يرفعوا نارا ولا شيئا مما يجوز لهم فعله في دينهم يمنعون من ذلك ولا يتركون. قلت: للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك؟ قال: نعم، على الإمام منعهم من ذلك. السلطان يمنعهم من الإحداث إذا كانت بلادهم فتحت عنوة. وأما الصلح فلهم ما صولحوا عليه يوفى لهم وقال: الإسلام يعلو ولا يعلى.
وأمَّا المذهب الحنفي، والذي يشار إليه على الدوام أنه قد أباح بناء الكنائس، فقد جاء موافقًا لقول جماهير العلماء، إلاَّ ما يُعزَى إلى الإمام أبي حنيفة من القول بجواز إحداث الكنائس في القرى خاصة لا في الأمصار، وقد وجَّه السُّبكي في فتواه في منْع ترميم الكنائس قولَ أبي حنيفة، فقال: "لعلَّ أبا حنيفة إنما قال بإحداثها في القرى التي يَتفرَّدون بالسُّكنى فيها على عادتهم في ذلك المكان، وغيره من العلماء يمنعها؛ لأنها في بلاد المسلمين وقَبْضتهم، وإن انفَرَدوا فيها، فهم تحت يَدهم، فلا يُمَكَّنون من إحداث الكنائس؛ لأنها دار الإسلام، ولا يريد أبو حنيفة أنَّ قرية فيها مسلمون فيُمَكَّن أهل الذِّمة من بناء كنيسة فيها، فإنَّ هذه في معنى الأمصار، فتكون محلَّ إجماع".
وما ذكَره السبكي يؤيِّده الزيلعي في "نصب الراية"؛ حيث قال: "والمروي عن أبي حنيفة كان في قرى الكوفة؛ لأن أكثر أهلها أهلُ الذِّمة".
وهو المشهور من مذهب الأحناف في كُتبهم، فقد قال الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: "ليس ينبغي أن يُتْركَ في أرض العرب كنيسة ولا بَيعة ولا بيت نار".
وجاء في كتاب الهداية: "ولا يجوز إحداث بِيعة ولا كنيسة في دار الإسلام".
وقال الكاساني: "وأما إحداثُ كنيسة أخرى، فيُمْنعون عنه فيما صار مِصرًا من أمصار المسلمين".
وفي شرْح كتاب "السير الكبير": "وتمكينهم من إحداث ذلك (أي: الكنائس) في موضع صار مُعدًّا لإقامة أعلام الإسلام فيه، كتمكين المسلم من الثَّبات على الشِّرك بعد الرِّدَّة، وذلك لا يجوز بحال".
وجاء في "رد المحتار": "لا يجوز إحداث كنيسة في القرى، ومَن أفتَى بالجواز، فهو مُخطئ، ويُحْجَر عليه".
والمجمل من هذا السرد: إن من ضروريَّات الدِّين تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبُّد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه تحريم بناء معابد وَفْق شرائع منسوخة يهوديَّة أو نصرانيَّة أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد (سواء كانتْ كنيسة أم غيرها) تُعتبر معابدَ كُفريَّة؛ لأنَّ العبادات التي تُؤدَّى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمُبطلة لها، والله -تعالى- يقول عن الكفار وأعمالهم: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23].
ولهذا أجمَع العلماء على تحريم بناء المعابد الكفريَّة؛ مثل الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قِبلتين في بلدٍ واحد من بلاد الإسلام، وألاَّ يكون فيها شيءٌ من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها، وأجمَعوا على وجوب هدْم الكنائس وغيرها من المعابد الكفريَّة إذا أُحْدِثت في الإسلام، ولا تجوز معارضة وَلِي الأمر في هدْمها، بل تجب طاعته.
وأجمَع العلماء على أن بناء المعابد الكفريَّة وبالأخص الكنائس في جزيرة العرب أشدُّ إثمًا وأعظمُ جُرْمًا؛ للأحاديث الصحيحة الصريحة بخصوص النهي عن اجتماع دينين في جزيرة العرب، وأهمها منها: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فجزيرة العرب حَرَمُ الإسلام وقاعدته التي لا يجوز السماح أو الإذن لكافر باختراقها، ولا التجنُّس بجنسيَّتها، ولا التملُّك فيها، فضلاً عن إقامة كنيسة فيها لعُبَّاد الصليب، فلا يجتمع فيها دينان إلاَّ دينًا واحدًا هو دين الإسلام، الذي بَعَثَ الله به نبيَّه ورسوله محمدًا -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ولا يكون فيها قِبلتان إلاَّ قبلة واحدة هي قِبلة الإسلام.
خامساً: شبهات وردود:
الشبهة الأولى: وجود الكنائس في بلاد الإسلام عبر التاريخ:
أولاً: لابد من التأصيل لقضية هامة وهي أن التاريخ في ذاته ما هو إلا انعكاس لحركة ونشاط وقوة تمسك المسلمين بالإسلام، ولذلك شهد التاريخ الإسلامي فترات ازدهار وانتصار، وفترات تراجع وانكسار، وكلما تمسك المسلمون بدينهم، واحتكموا إلى شريعتهم كلما زادت قوتهم، وتمت سيادتهم، وانتشر دينهم في ربوع الأرض، والعكس صحيح، لذلك فمحاكمة الشرع إلى الفعل التاريخي هو ظلم وإجحاف ونقص في العقل والوي، إذ العكس هو الصحيح، فالتاريخ يعاير ويقيم ويحاكم وفق القرب، أو البعد من أصول الشريعة ونصوصها.
وبالتالي فالادعاء بوجود الكنائس وبنائها عبر التاريخ يعتبر دليلاً على جواز الأمر، هو ادعاء باطل وواهٍ؛ لأننا لو نظرنا إلى معظم هذه الكنائس لوجدنا بنيت وتوسعت في فترات التراجع الحضاري والديني للمسلمين، وما وجد أيام الصحابة والتابعين إنما كان موجوداً في الأصل، أو صولح عليه أهل المدن المفتوحة صلحاً، ولذلك وفى لهم الصحابة بشروطهم، ولم يتعرضوا لكنائسهم وبيعهم.
ولو وافقنا على التحاكم للتاريخ في هذا الأمر لوجدنا حوادث هدم الكنائس تكررت كثيراً عبر التاريخ، خاصة في فترات تسلط الصليبيين على المسلمين، وأخبار المجازر المروعة التي كانوا يقومون بها ضد المسلمين كانت تدفع جموع الشعب للثورة والتعبير عن ذلك بإحراق الكنائس وتدميرهم، والعهد الفاطمي وحده شهد أكثر من خمسين حادثة إحراق جماعي للكنائس القبطية.
الشبهة الثانية: لماذا نمنع بناء الكنائس في بلاد المسلمين ولا تمنع الدول الكافرة بناء المساجد فيها؟
بداية لابد من الإقرار بأن لكل دولة في العالم لها نظام وقانون ولابد أن يلتزم كل من يأتي لهذه البلاد، وهذا عرف دولي متفق عليه، وهذا القانون نابع من هويتها وبيئتها وثقافة شعبها وجذورها التاريخية وأيضا دينها، ونحن قانوننا ونظامنا هو شريعة ربنا، والشريعة قد أتت بالمنع من بناء الكنائس في بلاد المسلمين، كما بينا في النصوص السابقة.
والدول الكافرة تؤمن بحرية المعتقد لمواطنيها مهما كان المعتقد سماوي أو أرضي أو حتى جنوني، ففي الهند مثلاً أكثر من ثلاثمائة ديانة، ولكل واحدة منها معابد وأتباع، وكذلك الصين واليابان قريب من ذلك، والدول الغربية فتعترف لمواطنيها بكل دين أو جماعة ما دامت في إطار القانون، أما في بلاد الإسلام فلا يوجد مثل هذه الفوضى الدينية، لا يسمح إلا للمواطنين إلا بالإسلام، أو النصرانية واليهودية كأهل الذمة، غير ذلك مرفوض وغير مقبول مهما كانت الضغوط.
ثم إن دعاوي حرية العبادة للمسلمين، وحرية بناء المساجد لهم في المجتمعات الغربية، دعاوى كاذبة باطلة كشفتها الأيام والحوادث، خاصة بعد أحداث سبتمبر؛ فبلد مثل اليونان لا يوجد بها مسجد واحد، وصربيا قريب من ذلك، والمساجد في عموم أوروبا يحظر عليها بناء المآذن أو رفع الصوت بالآذان، والمسلمون لا ينالون إجازة يوم الجمعة، والمسلمون يمنعون من كثير من أمور دينهم، ولا يسمح لهم بها، فالحجاب مثلا تمنع منه النساء المسلمات في كثير من بلاد النصارى كما حدث في فرنسا وغيرها.
والمسلمون ممنوعون أيضا في أمريكا من الزواج بزوجة ثانية؛ لأن القانون الأمريكي يمنع من ذلك، وهناك بلدان تمنع ختان الإناث رغم أنه أمر مشروع في ديننا، بل بلغ من طغيانهم أنهم يحاولون إلزام المسلمين به في بلادهم عن طريق قرارات الأمم المتحدة، بل بلغ الأمر بدولة مثل بريطانيا وأسبانيا أن تفرض عقوبة صارمة بالسجن على من يختنون بناتهم، ولو حدث ذلك خارج البلاد.
ومن جانب آخر فليس من المعقول أن نكافئ دول الغرب على تمسكها بقانونها العلماني الذي يتيح لكل طائفة أن يكون لها معابدها الخاصة بها بأن نخالف (قانوننا الخاص)، ونبيح لهم ما تمنعه الشريعة، وليس معنى أن يوافق هؤلاء على ظهور رموز التوحيد في بلادهم أن نوافق نحن على ظهور رموز الشرك في بلادنا.
أيضا لو ترتَّب على منْعِ بناء الكنائس والمعابد في بلاد المسلمين منعُ بناء المساجد في بلاد الكفَّار؛ فإنَّ دَرءَ مفسدة تلويث بلاد المسلمين (وجزيرة العرب خاصَّةً) بدِين النصارى واليهود والهندوس والبوذيين، أَوْلى مِن المحافظة على مصلحة مكاسب بعض المسلمين في بلاد الكُفر، وعلى المسلمين القادرين على الهِجرة أن يُهاجروا، وعلى العاجزين أن يُصَلُّوا في بيوتهم كما أفتى بذلك جماعة من أهل العلم.
الشبهة الثالثة: عدم السماح ببناء معابد للمشركين يعني رفض الآخر وعدم السماح بحرية التدين أو ممارسة ما يعتقده من عبادات، والإسلام أباح للنصارى واليهود ممارسة شعائرهم التعبدية، فكيف تبيحون التعبد وتمنعون بناء دورها؟!
وهذا تصوير فاسد للقضية فلو كانت المسألة على ما يصورونه من أنه رفض للآخر لما وجد في بلاد المسلمين من يدين بغير الإسلام، ولخُيِّر هؤلاء بين الإسلام، أو ترك البلاد والهجرة منها، أو القتل، كما حدث في الأندلس (أسبانيا) مع المسلمين حينما غلب عليها النصارى.
وأما القول بعدم حرية التدين فقول ساقط فإن أحدا منهم لم يجبر على ترك دينه، وأما المنع من ممارسة ما يعتقده من عبادات فبإمكان الواحد منهم أن يعبد بما شاء -لو أراد- في بيته وسكنه، وليس يمنعه من ذلك إلا تكاسله هو عن أداء ما يعتقده من العبادة، وليس هناك تلازم بين ممارسة ما يعتقده من عبادات وبين بناء معابد للمشركين في بلاد المسلمين.
والإحصائيات الواردة عن تراجع دور الكنائس في الغرب وانحسارها بشدة كفيل ببيان أن الغرض من دعوى حرية بناء الكنائس، غرض آخر خبيث يمس أمن البلاد ويهدد استقرارها وينتهك سيادتها.
الشبهة الرابعة: العديد من العلماء المعاصرين أباحوا الأمر من باب السياسة الشرعية، ومراعاة المصالح الدولية:
هذا لا شك كلام ساقط لا قيمة له، إذ هو مجرد تصورات من قائله ليس فيه قال الله -تعالى- قال رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في الوقت نفسه مخالف لما تقدم نقله من الأدلة، ومن أقوال أهل العلم.
وأما القول: إن هذا السماح من حق ولي الأمر في ذلك انطلاقا من فقه السياسة الشرعية، فالمعلوم أن ولي الأمر مهما بلغ فليس من حقه مخالفة الأحكام الشرعية، وأنه لا طاعة له فيما خالف فيه الشريعة، وأن عصيانه فيما خالف فيه الشريعة هو الواجب المتعين.
وأما الزعم بأن هذا العمل يعد من رعاية مقاصد الشرع فهذا من الكذب على الدين، إذ ليس في السماح بإعلان شعار الكفر في أمصار المسلمين أية رعاية لمقاصد الشرع، بل هي على الضد من مقاصد الشرع.
وأما القول بأن هذا من مصالح الخلق فقد يكون هذا صوابا بالنسبة للكفار، وأن ذلك مصلحة لهم، لكنه في الوقت نفسه ليس فيه مصلحة للمسلمين، بل فيه المفسدة، ولست أدري بأي فقه تغلب مصلحة مئات أو ألوف مصلحة الملايين؟!
وأخيراً: نقول للمطالبين ببناء الكنائس في جزيرة العرب: إنَّ دولة الفاتيكان تمنع من بِناء معابد غير الكنيسة فيه؛ وذلك لِمَا يرونه من كون الفاتيكان معقلا للنصرانية، وملاذًا لأهلها، فالجزيرة العربية (وفيها البلد الحرام، والكعبة المشرفة) أَوْلى بذلك؛ كيف لا وهي ملاذ المسلمين ومنتهى مقاصدهم؟
وعلى هذا الأصل الذي يقر به عقلاء كل ملَّة، جاءتِ النصوصُ النبوية في بيان كون هذه الجزيرة العربيَّة جزيرةَ الإسلام: "لا يجتمع فيها دِينان".
ولكن لو سمح الفاتيكان ببناء المساجد فيه؛ هل يكون هذا مسوِّغًا لنا في الإذن ببناء الكنائس في جزيرة العرب؟ الجواب: لا؛ فلسنا تبعًا للفاتيكان، إنْ مَنَعَ مَنَعْنَا، وإنْ أذن أذِنَّا! فالإسلام يَعلو ولا يُعلى عليه.
وقد تقدم أن التسوية بين دور التوحيد ومعابد الكفر، سفه وضلال، نعيذ منه كل مسلم.