(الله يمنعني منك) 1438/3/17هـ

[align=justify][align=justify](الله يمنعني منك)
لقد ظن المجرم الهالك وزبانيته أنهم قادرون على إبادته، واستئصال شأفته، وقتله هو ومن معه، وغفلوا عن سِرِّ قوته، وما عرفوا أن المهدد يملك قوة تعجز عنها القوى، ويملك صبرًا يعجز الصبر عن صبره، ومع هذا، سعى المجرم لتحريض الناس عليه مدة، ثم أعد له العدة، وكانت الليلة الدامية، والساعة القاسية، واجتمع الفرسان عند باب بيته، وقد اشهروا سلاحهم، وأعلنوا عداءهم، اجتمعوا وهم يشعرون بالكرامة، اجتمعوا وهم يشعرون بالعزة، اجتمعوا ولا يشكون لحظة في قدرتهم عليه، وأنه هالك لا محالة.
لحظات عصيبة أيها الأكارم في هذه المصيبة، فيا ترى ما العمل؟! وهل في النجاة من أمل؟! إن الموقف لا يتحمل التأخير، والحال لا يقتضي التفكير، فإما المجابهة والقتال، وإما الاستسلام بلا نزال، هكذا يا عباد الله يقول العقل في مثل هذا الحدث! غير أن الواقع في تلك المصيبة خالف التوقعات والظنون، وتفاجأ به المجرمون، حيث خرج المهدد من بين أيديهم ظافرًا معززًا، سليمًا مكرمًا، خرج وهو يتلو آيات ربه في قوة يقين، وعزة لا تلين، خرج وهو متفائل بنصر الله، وعزة الله، وتمكين الله له وللمؤمنين في الأرض، خرج لتعلم الأمة أن دوام الحال من المحال، وأن النصر مع الصبر، وأن العدو مهما علا بغيه، واشتد بطشه فإنه هالك لا محالة، خرج المهدد يا عباد الله غير آبه بِعَدُوِّه، خرج وهو ينثر التراب على رؤوسهم، ويتلو آيات ربه: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [يس:9]. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الحادثة لنزداد إيمانًا بربنا، ويقينًا بنصر بارئنا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم وجُنَّ جنون عَدُوِّه، فأخذ المجرم الأفَّاك الأثيم المنَّاع للخير اللئيم الزَّنيم أبو جهل يُرْعد ويزمجر قائلًا: "لَئِنْ رأيتُ مُحَمَّدًا لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ، فَأُنْزِلَتْ: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا) إِلَى قَوْلِهِ: (فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، قَالَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: أَيْنَ هُوَ أَيْنَ هُوَ؟ لَا يُبْصِرُهُ"[1].
أيها المؤمنون، لقد أعزَّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، وأظفره على عدوه فرعون هذه الأمة أبي جهل وزبانيته، غير أن غطرسة العدو كما هو الحال في كل زمان لم تهدأ بعد؛ حتى كان النزال في معركة حاسمة، وغزوة قاصمة، قصمت ظهر العدو وجعلته خاسئًا ذليلًا حقيرًا، وفي هذه الغزوة أيضًا: نرى مشهد الثقة بالله مرة أخرى، واليقين بنصره؛ كما هو ظاهر في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه وتضرعه وانكساره بين يدي خالقه قائلًا: (اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ)، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ)، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ[2].
إخوة الإيمان، نحن نرى واقع العالم الإسلامي اليوم، ونرى ما يفعله أعداء الأمة بأمة الإسلام، ونرى جرائم الرافضة مجوس العصر كيف طغت وبلغت مبلغًا عظيمًا في استباحة الدماء والأعراض والأموال، ولا شك أن هذه الأحداث مؤلمة ومحزنة وتأثيرها على القلب والنفس عظيم، غير أن الثابت في قلب كل مؤمن: أن هذا الحال لن يدوم، وأن ثقافة الإبادة مآلها وخيم، ولابد للظالم المجرم أن يذوق وبال أمره ولو بعد حين، لأننا على يقين بنصر الله وتمكينه لعباده المؤمنين في الأرض مهما بلغ الأذى، (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج:38-40].
فرج الله همَّ المسلمين في كل مكان، ورفع الله البلاء عن أمة الإسلام، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
إن الثقة بالله، والثقة بنصره لعباده المؤمنين ينبغى أن تكون حاضرة في قلوبنا، مستقرة في نفوسنا، أقول هذا حتى لا نصاب بالإحباط، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإليكم الخبر حين جاء رجل من المشركين إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو عند شجرة ظليلة قد علَّق سيفه عليها، فجاء الرجل وأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم ووقف عنده وقال: أَتَخَافُنِي؟ فقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عزة وقوة يقين: (لَا)، قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فقَالَ نبي الله صلى الله عليه وسلم: (اللهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ)[3].
فهذا الشعور العظيم بالعناية الإلهية يورث قوة تهز كيان العدو؛ ولذا لما قال الرجل كلمته مهددًا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل، وجد الجواب الذي أفزعه كما في رواية أحمد في مسنده (اللهُ)، ونعم بالله مانعًا وحافظًا ونصيرًا ومؤيدًا وظهيرًا قال الراوي: فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟) قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ، قَالَ: (أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ، وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ[4].
فلا ينبغي يا عباد الله أن يسري في قلوبنا العجز لما نراه في واقعنا، ولا ينبغي نشعر باليأس، فمهما طال ليل الظلم فلابد لليل أن ينجلي، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم:4،5].
ولنعلم يقينًا أن كل ما يأتي من عند الله لنا ولأمتنا فهو خير لنا، فيشكر المؤمن ربه في السراء، ويصبر ويحتسب في الضراء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)[5].
ولا نسى يا عباد الله سلاح الدعاء، فندع الله بصدق وإخلاص أن يفرج الله همَّ إخواننا المسلمين في كل مكان، وأن يعز الإسلام وأهله أهل السنة في كل بقعة من بقاع الأرض، ندعوه سبحانه ونحن على يقين بالإجابة، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ)[6].
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفرج همَّ المسلمين، ويرد كيد الظالمين، ويجعل تدبيرهم تدميرًا عليهم.
عباد الله، صلوا وسلموا على السراج المنير والهادي البشير ...


[1] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ج/564.

[2] رواه مسلم في صحيحه، رقم (1763)

[3] صحيح مسلم، رقم (843).

[4] مسند أحمد، رقم (14929).

[5] رواه مسلم في صحيحه، رقم (2999).

[6] رواه الترمذي في جامعه، رقم (3479)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ سمِعْت عَبَّاسًا العَنْبَرِيَّ يَقُولُ: اكْتُبُوا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الجُمَحِيِّ فَإِنَّهُ ثِقَةٌ. والحديث أورده الشيخ الألباني في سلسلته الصحيحة، رقم (594).


[/align][/align]
المرفقات

الله يمنعني منك.docx

الله يمنعني منك.docx

المشاهدات 1396 | التعليقات 0