{اللهُ الصَّمَدُ}.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله المتفرد بالعظمة والجلال، المتفضل على خلقه بجزيل النوال، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى الحق، والمنقذُ بإذن ربه من الضلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾. إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.
عباد الله: يقصد المؤمنُ ربَّه في كل حاجاتِه، ويتجهُ إليه لتحقيق رغباتِه، مستجيبًا لما ورد في سورةٍ قصيرةِ الآيات، عظيمةِ المعاني والعظاتِ، لم يثبُتْ لسورةٍ من الفضائلِ ما ثَبَتَ لها، حَشَدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه، وأخرجهم من أعمالهم وبيوتهم؛ ليقرأها عليهم، حينَ قَالَ لهم مرةً: "احْشُدُوا -أي: اجتمعوا- فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، ثُمَّ دَخَلَ. فَقَالَ بَعْضُ الصحابة لِبَعْضٍ: إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"، يا له من موقفٍ، لم يكتفِ عليه الصلاة والسلام بدلالتهم على فضل هذه السورة بندِبهم إلى قراءتها في ركعتي الفجرِ، وركعتي الطوافِ، وركعةِ الوترِ، بلْ جَمَعَهُمْ لِيقرأها عليهمْ، وفي هذا تأكيدٌ بليغٌ على فضْلِها.
من أشهر أسمائها سورةُ الإخلاص، وسميت به لأنها خالصةٌ في صفةِ الله تعالى، أو لأن اللافظَ بها أخلصَ التوحيدَ لله عز وجل، وسميت سورةَ التوحيدِ، وسورةَ الصَّمدِ، وسورة المُقَشْقِشَةِ أي: المبرِّئَةِ من الشرك والنفاق، وأوصل بعض المفسرين أسمائها إلى عشرين اسمًا.
إنها سورةٌ تأمرنا بالحديث عن ربِّنا، فالأمرُ للنبيِّ أمرٌ لأمته، ما لم يأت له مخصص، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالحديث عنه ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾.
﴿أَحَدٌ﴾ منفردٌ في ذاته وصفاته، لا يشبهه شيءٌ من مخلوقاتِه، ﴿أَحَدٌ﴾ في ألوهيته فلا إلهَ سواه، ولا يُعبدُ بحقٍ إلا إيَّاه، وكلُّ ما في القرآنِ، وسنةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل وجميعِ الرسالاتِ، إنَّما جاءَ لتقرير هذا المعنى.
﴿أَحَدٌ﴾ كلمةٌ تُبطل مذاهبَ المنحرفينَ، كالفرسِ المجوسِ القائلينَ بإلهينِ، إلهٍ للظلمةِ وإلهٍ للنورِ، والنصارى القائلينَ بالتثليثِ، والصَّابئينَ المؤَلِّهينَ للأفلاكِ والنجومِ، والمشركينَ المؤلِّهينَ للأصنامِ.
﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾: أي: المصمتُ الذي لا جوف له، المقصودُ في قضاءِ الحوائج والرغائب، وليس أحد يَصْمُدُ إليهِ كلُّ شيءٍ، ولا يصمِدُ هوَ إلى شيءٍ إلا اللهُ تبارك وتعالى.
﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾. لأن الولدَ يُطلبُ ليكونَ ناصرًا ومعينًا، والله سبحانَه غنيٌ عن ذلك، ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ".
وبدأ بقوله ﴿لَمْ يَلِدْ﴾؛ لأنَّ من الناس من ادَّعى لله ولدًا، ولم يدَّعِ أحدٌ أنَّ لهُ سبحانه وتعالى والدًا، فبدأَ بالأهمِّ، وجعلَ ما بَعدهُ حجَّةً عليه، كأنه قيل: الدليلُ على امتناع الولدية، الاتفاق على أنه ما كان ولدًا لغيره.
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾. فلم يوجد له مماثلٌ ولا مكافئ، لا في وجوده، ولا في أفعاله، وهو ختمٌ بليغٌ لما سبقه من الآيات، فبعد أن بيَّن سبحانه أنه الصمد المقصودُ لقضاء الحوائج، وأنه لم يلد ولم يولد، ختمَ السورة بأنَّ سائرَ الموجودات لا تكافئه في شيءٍ من صفاتِ جلاله وعظمته.
إن هذه السورةَ على قِصَرِها، حَوَتْ من الفوائدِ ما لا يُمكن حصره، فأولها يثبت وحدانية الله سبحانه، وينفي عن ذاته أنواع الكثرة، و﴿الصَّمَدُ﴾ يثبت كرمه ورحمته؛ لأنه لا يُصمد إليه حتى يكون محسنًا، وينفي عنه النقص والمغلوبية؛ لأنه لا يقضي الحوائج إلا القوي القادر، و﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ تثبت أنه غني على الإطلاق، لا يبخل بشيء أصلاً، ولا يكون جُودُه لجرِّ نفع أو دفعِ ضُر، بل بمحضِ الإحسانِ والتفضل، وتبطل هذه الآيةُ مذهبَ اليهودِ في عزيرٍ، والنصارى في المسيحِ، والمشركينَ في أنَّ الملائكةَ بناتُ الله، وقولُه ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، يثبت له القدرةَ المطلقةَ، والكمالَ المطلقَ، وينفي ما لا يجوز عليه من الصفات.
وهذه السورة في حق الله تعالى، كسورة الكوثرِ في حقِّ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، لكنِ الطعن في حقِّ الرسول، كان بسببِ قولِهم أنَّه أبترٌ لا ولدَ له، وههنا كانَ الطعنُ بسبب أنهم أثبتوا لله ولدًا، وذلك لأنَّ عدم الولد في حقِّ الإنسانِ عيبٌ، ووجودَ الولد عيبٌ في حقِّ الله تعالى، ولهذا قال ربنا لنبيه ﴿قُلْ﴾، حتى تكون ذابًّا عني، وفي سورة الكوثر ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾ أي: أنا أقول هذا الكلام حتى أكون ذابًّا عنك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فربَّما شعرَ أحدُنا أنه محتاجٌ إلى ربِّه في النوازلِ والمدْلَهمَّاتِ، وعند حُلولِ البلاءِ فقط، أو أنَّ وجودَه بينَ أهلِه وأصدقائِهِ، وضمانَه لنزولِ راتِبِه في حسابِه، يجعلُه أقلَّ حاجةً إلى ربِّه من غيرِه، مع أنه لو تدبر حاله وفقره، وضعفه وعجزه، مع ما يحيط به في كل لحظة من فتن وأخطار، وحوادث ومشكلات، لعلم أنه غير مستغنٍ عن اللطيف جلا وعلا طرفة عين، ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾.
فيا أيها الفقير إلى ربه، المحتاجُ إلى برِّه وعطَائِهِ وحفْظِهِ ولطفه: اعلم أن من هو في البحر -على اللوح- يصارع الغرق، ليس بأحوج إلى الله وإلى لطفه ممن هو في بيته بين أهله وماله؛ فإذا حققت هذا في قلبك فاعتمد على الله اعتماد الغريق الذي لا يَعلم له سببَ نجاةٍ غيرَ الله سبحانه، واعلم أن شعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه عز وجل، يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، ويعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه، والتزام مرضاته، والامتثال لمحبوباته، ومفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطع بالقلوب.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ ».
ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
المرفقات
1669922882_{اللهُ الصَّمَدُ}..docx
1669922891_{اللهُ الصَّمَدُ} للجوال.pdf
1669922892_{اللهُ الصَّمَدُ}.pdf