الله أعلم : كلمتان خفيفتان..حبيبتان.. ثقيلتان، يتردد الكثيرون عن ترديدها فهي كبيرة إلا على اهل التواضع والورع والإيمان.
لم تتلكأ عنها الملائكة حين اعتذرت إلى الله بقولها :(سبحانك لاعلم لنا إلا ماعلمتنا)، والصحابة لم يفتأوا يقولون في مواضع كثيرة حتى في مسائل يسيرة :(الله ورسوله أعلم)، بل كانوا لغلبة علمهم بالله (يتدافعون الفتيأ في المسألة، كلهم يود لو أن أخاه كفاه).
"ومن كان يهوى أن يرى متصدرا ويكره (لاأدري)، أصيبت مقاتله".
# و للأسف فقد تجرأ مؤخرا كثيرون في اقتحام باب الفتيا في الشريعة و ابواب الفكر والسياسة الحساسة بغير تخصص ودراسة، حيث دفعت الأزمات السياسية وانتشار وسائل الإعلام والتواصل المختلفة والمساحة المتاحة لحرية الرأي والتعبير إلى انتشار العلم و الوعي لدى الكثير ، لكن هذه الإيجابية الكبيرة تلبست بسلبيات كثيرة حيث برزت ظاهرة (الرجل السوبرمان)او كما تقول العامة (الفشفشي الذي يعرف كل شي)او بلغة الحديث الشريف (الرويبضة،وهو الرجل التافه السفيه يتكلم في أمر العامة)، وهؤلاء وإن ظنوا أنفسهم مستقلين، لكنهم صاروا تحت تأثير سحر مطابخ الإعلام المشبوهة وضعف الدين وحب الظهور وانتشار ثقافة (السندوتشات) واقعين ،مما زاد من حدة الجهل والتفرق والجدل و قلة العمل.
- وكما أهلك الأديان نصف عالم وأهلك الأبدان نصف طبيب ،فقد أجهز هؤلاء الأنصاف بلا شفقة على الباقي. .قال الإمام ابن حزم: " لاآفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء وهم من غير أهلها ؛فإنهم يجهلون ويظنون بأنهم يعلمون ويفسدون ويحسبون أنهم يصلحون". وقال الحافظ ابن حجر: « إذا تكلم المرء في غير فنه اتى بالعجائب".
# ويعظم الخطر والضرر حين التجرؤ في الخوض في القضايا الفكرية و السياسية الحساسة والمواقف المصيرية المفصلية والتي هي بمثابة منعطفات في حياة الشعوب والمجتمعات،كمسائل (التكفير والتحالفات والثورات) ،فالخطأ فيها أعم وأكبر بكثير من الخطأ في فتاوى الطلاق والحدود والجنايات. ولذا فلايجوز الرجوع فيها إلى آحاد العلماء المتخصصين، فضلا عمن دونهم ، وكما يقال بأن(زلة العالِم زلة العَالَم)،ولكن اعتبار المرجعية فيها إلى (الهيئات والمجامع العلمية المشتملة على تخصصات مختلفة) او مايعرف ب(الاجتهاد الجماعي) ؛ للزوم الإحاطة بالواقع والنصوص والقواعد والمصالح والمفاسد ...، -و نبه سبحانه إلى أهمية اعتبار التخصصات بقوله :(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون)،وأهل الذكر: هم العلماء في كل تخصص وفن و باب بحسبه.
- كما نبه إلى ضرورة توزيع التخصصات و المهام بما يسهم في التنوع و التوازن والتكامل وتغطية فرض الكفاية لرفع الإثم عن الأمة وتحقيق غاية العبودية المشتملة على مهام الاستخلاف في الأرض وعمارتها بما يصلحها بقوله سبحانه :(وماكان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا)(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
# و الناس بطبيعتهم ميول ومواهب وقدرات واستعدادات عقلية وبدنية ونفسية بدلالة حديث مسلم :(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)، مما يلزم توظيفهم في التكامل المذكور،ويبينه قوله صلى الله عليه وسلم : {أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياءً عثمان وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ وأفرضهم زيد، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة} و أقضاهم علي وخالد من سيوف الله.
وتميز أبو هريرة بالحديث والرواية وابن مسعود وابن عباس بالتفسير والدراية ومعاوية بالحكم والسياسة...
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنفَ في ذكاء إياسِ.
وقد ذكروا أن (إينشتاين) على عبقريته في الرياضيات فقد كان بليدا في فنون الرسم والإنشاء،وأخفق (سيبويه) في علم الحديث، لكنه كان إمام علم النحو بلا منازع،.
# ومن هنا تأتي خطورة إكراه النفس على الاشتغال بغير التخصص (دراسة ووظيفة) ولما أدرك (الخليل الفراهيدي) عسر علم (العَروض) على تلميذه (الأصمعي) ألمح إليه بتركه بأمره بتقطيع هذا البيت:
"إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ماتستطيع".
،ومنه قوله لعبدالله بن زيد وقد أري الأذان :(علمه بلالا فإنه أندى منك صوتا)،و منع النبي صلى الله عليه وسلم (أبا ذر) التولية،وقوله له:(إنك ضعيف وإنها أمانة)؛لغلبة عاطفته ومثاليته رغم عظيم مكانته.و قصة(أبي هريرة) دليل للاستفادة من صواب الشيطان. وفي حفر الخندق وهو من فنون الفرس استفاد سلمان ،كما استفاد الخلفاء،الراشدون في بعض الأمور السياسية و الإدارية والاقتصادية من علوم الحبشة والفرس والرومان، ومنه ورود كلمات أعجمية في محكم القرآن،ولا أبلغ من حديث الصحيحين في قصة تأبير النخل : (أنتم أعلم بأمور دنياكم)،،ومن جميل حكم علي رضي الله عنه قوله:(الحكمة ضالة المؤمن ،أنى وجدها فهو أحق الناس بها).
# وأخيرا فإن الأخذ على أيدي المتجرئين على الخوض في العلوم والفنون عامة بغير علم، واجب على عاتق الدول منعا من الضلال والفساد والفتنة. كما تفعل الأنظمة مع الخائضين بغير ترخيص في مثل مهن الطب والهندسة. وفي فقهنا الإسلامي فقد أفتى الفقهاء ب(تضمين الصناع)، وهم العابثون بأدوات وآلات الناس،وقد صح في الحديث(من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن). وهو حكم ربيعة شيخ الإمام مالك حين رؤي وقد بكى بحرقة ،فقيل له : أثم مصيبة؟ فقال:(أستفتي من لاعلم عنده ،وظهر في الإسلام أمر عظيم، ولبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السراق)،
علما بأنه لاتقتصر الأمانة بتحصيل (الكفاءة العلمية) وحدها حتى تنضم إليها (الكفاءة الأخلاقية) لضمان حفظ المصالح الدينية والدنيوية، كما في قول يوسف عليه السلام:(إني حفيظ عليم)،وقول الذي عند علم من الكتاب: (وإني عليه لقوي أمين) وقول بنت الرجل الصالح :(إن خير من استأجرت القوي الأمين).
هذا وأستغفر الله من فتنة القول بلا علم وعمل، والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الأثنين15 إبريل 2019 ميلادى 9 شعبان 1440 هجرى
المشاهدات 552
| التعليقات 0
تسجيل دخول
إذا لم يكن لديك حساب بالفعل قم بالضغط على إنشاء حساب جديد