اللهم لا خير إلا خيرك

الخطبة الأولى : اللهم لا خير إلا خيرك

الحمد لله الذي لا رادَّ لأمره ولا معقّبَ لحكمه، وكلُ شيءٍ بقضائِه وقدره، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيه وألوهيتِه وأسمائه وصفاته، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.                                                أَمَّا بَعْدُ: فأوصيكم...

فاتقوا ربَّكم وعلِّقوا قلوبَكم به، وادْعُوه خوْفاً وطَمَعاً، رَغَباً ورَهَباً لعلَّكم تفلحون.

عن ابن عباسٍ r إنَّ رَسولَ اللَّـهِ r لَمـَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ البَيْتَ وفيهِ الآلِهَةُ، فأمَرَ بهَا فَأُخْرِجَتْ، فأخْرَجُوا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ، وإسْمَاعِيلَ في أَيْدِيهِما الأزْلَامُ، فَقالَ رَسولُ اللَّـهِ r : قَاتَلَهُمُ اللَّـهُ، أَما واللَّـهِ لقَدْ عَلِمُوا أنَّهُما لَمْ يَسْتَقْسِما بهَا قَطُّ... خ.

أيها المسلمون: إن مما ابتُلي به بعضُ الناسِ التَّشاؤمُ بالأيامِ أو الشُّهورِ، أو التشاؤمُ ببعضِ الأشخاصِ أو الحيواناتِ أو الأحداثِ، أو غيرِ ذلك، من المسمُوعاتِ أو المعلوماتِ أو المرْئِيَّاتِ، ولا شكَّ أن التَّشَاؤمَ بهذِه الأشياءِ، واعتقادَ أنها سَبَبٌ للشُّرورِ من الشِّركِ الذي يُذهِبُ الإيمانَ، وينكِّدُ على المرْءِ حياتَه، ويَلحقُه الضِّيقُ والكدَرُ فيها، بلا سببٍ شرعيٍّ ولا مسوِّغٍ حقيقيٍّ. ولقد كان هذا التشاؤمُ دأبَ الجاهليينَ وأعداءِ المرسلينَ فقد قال تعالى حكايةً عن قومِ صالح ( قالوا اطَّيرنَا بك وبمن معكَ قال طائرُكُم عند اللـهِ بل أنتم قومٌ تفتنون ) .

 أيها المؤمنون: لقد نهى النبيُّ r عن التشاؤمِ والتطيُّرِ، فهُما من أعمالِ الجاهليةِ، ومن المحرَّماتِ الشرعيةِ، وتدلُ على فسادٍ في النياتِ وانحرافٍ في المعتقداتِ، وسوءِ ظنٍّ بربِ البريات، إنها أوهامٌ وظنونٌ وخيالاتٌ ووساوسُ، والخيرُ كلُّه بيدِ اللهِ تعالى، لا رادَّ لما أَعطى ولا معطِيَ لما منعَ؛ قال r: «الطيرةُ شِركٌ، الطِّيرةُ شركٌ» أبو داود وغيره .

وقال الصادقُ المصدوقُ r (لا عَدْوى ولا طِيَرةَ ولا هامَّةَ ولا صَفَرَ) خ. م  فنفَى النبيُّ r ما كان يعتقِدُ أهلُ الجاهليةِ من العَدوى أن الشيءَ يعدِي بنفسِه، دون تقديرِ اللـهِ تعالى، ونفى ما كانوا يعتقدونَه من التشاؤمِ بالطُّيورِ وبعض الشهورِ، كشهرِ صفرٍ أو غيرِ ذلك من الأمورِ.

عباد الله: إن ما يجدُه المرءُ من كراهةٍ للشيءِ بسببِ التشاؤمِ والتطيرِ، إنما هو وهْمٌ يجدُه في نفسِه، فلا يجوزُ الالتفاتُ إليه، فعن معاويةَ بنِ الحكمِ رضي الله عنه  يسألُ النبيَّ r: ومِنَّا أناسٌ يتطيَّرون؟ فقال: (ذاك شيءٌ يجدُه أحدُكم في نفسِه فلا يَصدَّنَّكم) أيْ: عمَّا أردْتُم وقصدْتُم من الأعمالِ-رواه مسلم-

إنَّ من رَكَنَ إلى الطِّيرةِ والتشاؤمِ والأبراجِ في أمورِه، واستجابَ لهذه الظُّنونِ الكاذبةِ، والأوهامِ الفاسدةِ، التي يلقيها الشيطانُ في قلبِه بسببِ التشاؤمِ والتطير فرجعَ بسببها من سفرةٍ أو امتنعَ من أجلها عن أمرٍ كانَ قد عزمَ عليه؛ فقد قرعَ بابَ الشركِ ووقعَ فيه، وبرئَ من التوكلِ على اللـهِ، وفتحَ على قلبِه باباً عظيماً من الشَّرِّ، وستنقلبُ حياتُه همَّاً وغمَّا وحزناً ونكداً ، ولهذا نهى النبيُّ r عن الطِّيرةِ، وأمرَ من وَقع في قلبِه شيءٌ من ذلك أن يجاهدَه غايةَ المجاهدةِ، قبل أن يتمكَّنَ فيه فتفسُدَ عليه حياتُه، وليقلْ: اللَّهمَّ لا خيرَ إلا خيْرُك، ولا طيرَ إلا طَيرُك، ولا إلهَ غيرُك ، فإن الطِّيرةَ لا تدلُّ على الغيبِ، ولا تخبِرُ عنه. فدُونَ الغَيبِ أقْفالٌ وأقفال.

لعَمْرُك ما تدْرِي الطوارقُ بالحصى         ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللـهُ صانعُ

والواجبُ على المؤمنِ إذا عزَمَ على أمرٍ وأرادَه، ثم عرَضَ له التشاؤمُ بسببِ مسموعٍ يسمعُه، أو معلومٍ يُدركُه، أو مرئيٍّ يشاهدُه، ألا يرجِعَ عمَّا عزمَ عليه، بل يمضِي متوكِّلاً على الله تعالى. وقد روي عن النبيِّ r لما سُئِل عن الطِّيرةِ، فقالَ: (لا تَردُّ مسلماً، فإذا رأى أحدُكُم ما يَكرَهُ فليقل: اللهمَّ لا يأتي بالحسَناتِ إلا أنتَ، ولا يدفعُ السيئاتِ إلا أنت، ولا حولَ ولا قوة إلا بك) أبو داود وغيره .

عباد الله: إِنَّ مِنَ الْـجَاهِلِيَّةِ الْقَدِيمَةِ الـْحَدِيثَةِ الَّتِي تُنَافِي الْإِيمَانَ بِاللَّـهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَتُنَافِي التَّوْحِيدَ وَسَلَامَةَ الْـمُعْتَقَدِ، إِتْيَانَ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ، وَمِنْهَا مَا يُسَمَّى فِي عَصْرِنَا الْـحَالِيِّ بِالْأَبْرَاجِ، وَالَّذِي شَاعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَبُرْجِ الثَّوْرِ، وَالْعَقْرَبِ، وَغَيْرِهَا، وَهَذِهِ الْأَبْرَاجُ مِنْ مَعَالِمِ وَأَخْلَاقِ الْـجَاهِلِيَّةِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِبْطَالِهَا، وَوُجُوبِ الْكُفْرِ بِهَا، وَالْأَبْرَاجُ لَا يُصَدِّقُهَا إِلَّا جَاهِلٌ باللـهِ ، وهي مذمومةٌ لِأُمُورٍ مِنْهَا: أَوَّلًا:

أَنَّهَا تُعَارِضُ التَّوْحِيدَ، وَتَجْعَلُ لِلَّـهِ شُرَكَاءَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ، وَعِلْمُ الْغَيْبِ خَاصٌّ بِاللَّـهِ جَلَّ وَعَلَا (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللـهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).   

 ثَانِيًا: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْرَاجَ تُصِيبُ النَّاسَ بِالْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الْأَبْرَاجَ تَقُولُ إِنَّ الْـمَوْلُودَ فِي بُرْجِ كَذَا يَتَّصِفُ بِكَذَا وَكَذَا، فَيَجْعَلُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ ثَابِتَةً لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، فَلَا يُمْكِنُ عِنْدَئِذٍ لِمَنْ يُصَدِّقُهَا أَنْ تَتَحَسَّنَ أَخْلَاقُهُ، أَوْ تَتَغَيَّرَ طِبَاعُهُ ، مَعَ أَنَّنَا نَجِدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي يَدَّعُونَهَا يُولَدُ فِي نَفْسِ الْيَوْمِ رَجُلٌ يَكُونُ مِنْ خِيرَةِ خَلْقِ اللَّـهِ فِي دِينِهِ وَعَقْلِهِ وَحِلْمِهِ وَحَيَائِهِ، وَرَجُلٌ يُولَدُ فِي نَفْسِ الْيَوْمِ يَكُونُ مِنْ شَرِّ خَلْقِ اللّـَهِ، وَقِمَّةِ الْحُمْقِ وَالْجَهْلِ، وَهَذَا وَاقِعٌ وَمُشَاهَدٌ.

ثالثا: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْرَاجَ نَشْرٌ لِعَقِيدَةِ الْـجَبْرِيَّةِ الضَّالَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ الْإِنْسَانَ مُجْبَراً عَلَى أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، وَنَفْيٌ لِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالِانْحِرَافِ، وَمُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)

أيها المتوكلون : إن الواجبَ على المسلمِ أن يُعلقَ قلبَهُ بالله وحدَه، وأن يُعْظِمَ الثقةَ به، وأن يلتجئَ إليه في جلبِ المنافعِ ودفعِ المضار، وأن يعلمَ أنَّ كلَّ زمانٍ شغلَهُ العبدُ بطاعةِ اللهِ فهو زمانٌ مباركٌ، وأنَّ كلَّ زمانٍ شغَلُه العبدُ بمعصيةِ اللهِ فهو زمانٌ مشؤومٌ عليه وعلى مجتمعه.

فالشؤمُ في الحقيقةِ هو في معصيةِ الله وكلُ ما شغلكَ عن اللـهِ من أهلٍ أو ولدٍ أو مالٍ فهو عليك مشؤوم ،  قال ابنُ رجبٍ : (وهو في الجملةِ فلا شؤمَ إلا المعاصيَ والذنوب، فإنها تُسخطُ اللـهَ -جلَّ وعلا-، فإذا سخِطَ على عبده شَقِي العبدُ في الدنيا والآخرة، كما أنه إذا رضي عن العبدِ سَعِد في الدارين ).أ.هـ.

والعاصي مشؤومٌ على نفسِه وعلى غيرِه فإنَّه لا يُؤمَنُ أن ينزلَ عليه عذابٌ فيعُمَّ الناس، خصوصًا مَن لم ينكرْ عليه ذلك، وكذلكَ أماكنُ المعاصي يتعينُ البعدُ عنها والهربُ منها، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: ( لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمـُعَذَّبِينَ أَصْحَابِ الْحِجْرِ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا  أَصَابَهُمْ ) خ. م.

ألا فاتقوا الله عباد اللـهِ واحذروا التشاؤمَ والطيرةَ وغيرَهما، والزموا طاعةَ ربِكم تُفلحوا (إن الله يحب المتوكلين ) بارك الله لي ولكم ...

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله ... أما بعد:

أيها المؤمنون: إن من أعظمِ فوائدِ التوحيدِ الصادقِ في هذه الدُّنيا السعادةَ والأمنَ والاهتداءَ، الذي يجدُه المؤمنُ المحقِّقُ لتوحيدِ الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).

إنَّ ربَّكم الذي تعبُدون وإلهَكُم الذي تَرغبُون وتَرهبُون (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) قدَّر الخيرَ والشرَّ، وله في ذلك الحِكمةُ البالغةُ والقُدرةُ النافِذةُ (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللـهِ يَسِيرٌ)، فكلُّ شيءٍ بقضاءٍ وقدَرٍ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ).

فإذا علِمَ المؤمنُ ذلك صَدَقَ في توكُّلِهِ على اللـهِ عزَّ وجل، في جَلْبِ كلِّ خيرٍ ودفعِ الضُّرِّ، وعلِمَ أن ما أصابَه من أقدارِ اللـهِ تعالى لم يكن ليخطِئَه ويَتَعدَّاه إلى غيِره، وما تَعدَّاه وأخطأَه إلى غيرِه لم يكن ليصيبَه، وبهذا كلِّه يتخلصُ العبدُ من أوضارِ الشركِ، ولوثاتِ الوثنيةِ.

عباد الله: إن الشريعةَ حرِصَت غايةَ الحرصِ على دفعِ كلِّ مؤذٍ ومنغصٍّ؛ ولذلك نهتْ عن أسبابِها، وحثَّت على كلِّ ما هو سببٌ للفلاحِ والنجاحِ؛ ولذلك شرعَت طُرُقُها، فقال النبيُّr :(لا عدْوَى ولا طِيَرَةَ، ويعجبني الفألُ). قِيلَ: وما الفألُ؟ قال:( الكَلِمةُ الطيِّبةُ ) خ.م.

 فالفألُ لا حرجَ فيه، بل هو مما يُعجِبُ النبيَّ r، فإذا استبشرَ المؤمنُ بالكلمةِ الطيبةِ، وزادَه ذلك نشاطاً على الخيرِ، أو على ما هو فِيهِ من عملٍ، لم يكنْ في ذلك حرجٌ عليه، وصفةُ ذلك أن يعزِمَ العبدُ على أمرٍ من أمورِه، ثم يسمعَ كلاماً يَسُره، كأنْ يسمعَ: يا راشدُ أو سالمُ أو غانمُ، فيفرحَ بذلك ويستبشرَ، وتزدادَ رغبتُه في ذلك الأمرِ، فليس في ذلك محذور . 

ألا فاتقوا الله -عبادَ الله- وحقِّقوا إيمانَكم بصِدْقِ الاعتمادِ على اللـهِ، في جلبِ كلِّ خيرٍ، ودفعِ كلِّ ضرٍّ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) .

 ثم صلوا ....

المرفقات

1662066482_اللهم لا خير إلا خيرك.pdf

1662066482_اللهم لا خير إلا خيرك.doc

المشاهدات 1148 | التعليقات 0