اللهمّ فرجاً قريباً 1444/7/26ه

يوسف العوض
1444/07/25 - 2023/02/16 08:19AM

الخطبة الأولى

عِبادَ الله: إنَّ شَرَّ ما مَنِيَتْ به النُّفوسُ يَأسٌ يُميتُ القُلوبَ وقُنوطٌ تُظلِمُ به الدُّنيا، تَتَحَطَّمُ معَهُ الآمالُ، وإنَّ الأزَماتِ إذا استَحكَمَتْ، والخُطوبَ إذا تَوالَتْ، والمِحَنَ والمَصائِبَ والشَّدائِدَ والرَّزايا إذا ادلَهَمَّتْ، فلا مَخرَجَ منها إلا بالإيمانِ بالله تعالى وَحدَهُ، وبالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ، وبِحُسنِ الصَّبرِ والتَّصَبُّرِ هذا هوَ الدِّرعُ الوَاقي من اليَأسِ والقُنوطِ أيَّامَ الشَّدائِدِ والمِحَنِ والأزَماتِ.

عِبادَ الله: إنَّ أثقالَ الحَياةِ وتَعَبَها ونَصَبَها وشِدَّتَها لا يُطيقُ على حَملِها الرِّجالُ الضِّعافُ، ولا يَذهَبُ بأعبائِها إلا الرِّجالُ الصَّابِرونَ أولو العَزمِ من النَّاسِ، إلا أصحابُ الهِمَمِ العالِيَةِ إلا الذينَ سَمِعوا قَولَ رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» رواه الإمامُ أحمدُ.

عِبادَ الله: كم من مِحنَةٍ حَمَلَتْ في طَيَّاتِها مِنَحاً ورَحَماتٍ لهؤلاءِ من الرِّجالِ الصَّبَّارينَ في الشَّدائِدِ أولي العَزمِ من النَّاسِ، الذينَ كانَ إيمانُهُم بالله عزَّ وجلَّ أرسى من الرَّاسِياتِ هؤلاءِ الرِّجالِ الذينَ كَانوا يَنتَظِرونَ الفَرَجَ مِنَ الله تعالى بَعدَ الشَّدائِدِ؟!

عِبادَ الله: خُذوا على سَبيلِ المِثالِ يَعقوبَ عَلَيهِ السَّلامُ الذي دَخَلَ في مِحنَةٍ قاسِيَةٍ وشَديدَةٍ ذَهَبَ بها بَصَرُهُ من شِدَّتِها، كما قال تعالى: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم﴾.

عِبادَ الله: يَعقوبُ عَلَيهِ السَّلامُ كانَ معَ الألَمِ يَعيشُ بالأمَلِ الذي ما عَرَفَ اليَأسَ ولا القُنوطَ، كانَ يَشكو هَمَّهُ إلى الله تعالى، ويَبُثُّ حُزنَهُ إلَيهِ، كما قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لا تَعْلَمُون﴾.

ما عَرَفَ اليَأسَ ولا القُنوطَ لأنَّهُ كانَ يَستَعينُ بالله تعالى على تِلكَ الشَّدائِدِ، فلقد قالَ في البَلاءِ الأوَّلِ عِندَما رَجَعَ أولادُهُ إلَيهِ بَعدَ إِلقاءِ يُوسُفَ عَلَيهِ السَّلامُ في الجُبِّ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون﴾.

وقالَ في البَلاءِ الثَّاني عِندَما رَجَعَ أولادُهُ من مِصرَ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم﴾. لقد كَانَ في الابتِلاءِ الثَّاني أعظَمَ أمَلاً منهُ لأنَّ يَقينَهُ بالله تعالى أرسى من الجِبالِ وعِلمَهُ بالله تعالى لا يَرقى إلَيهِ شَيءٌ من الشَّكِّ بأنَّ بَعدَ المِحنَةِ مِنحَةً.

عِبادَ الله: نعم ،، بَعدَ الضِّيقِ جاءَهُ الفَرَجُ، وبَعدَ المِحنَةِ جاءَتِ المِنحَةُ، وجَمَعَ اللهُ تعالى شَملَ العائِلَةِ، وتَحَقَّقَ يوسُفَ عَلَيهِ السَّلامُ ما رَأى في المَنامِ، كما قال تعالى حِكايَةً عنهُ: ﴿يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِين﴾ ، وقال: ﴿يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقَّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم﴾.

عِبادَ الله: المُؤمِنُ الواثِقُ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ لا تُفقِدُهُ الأزمَةُ ولا الشَّدائِدُ والمِحَنُ والمَصائِبُ نورَ الإيمانِ من قَلبِهِ، لأنَّهُ على يَقينٍ بأنَّهُ لا يَستَطيعُ أحَدٌ مهما أوتِيَ من قُوَّةٍ وجَبَروتٍ ومَنزِلَةٍ وعِلمٍ وقُدرَةٍ، ومهما بَلَغَتْ مَنزِلَتُهُ أن يَقطَعَ عنهُ رِزقَهُ، أو يَنتَقِصَ من أجَلِهِ شيئاً، لأنَّهُ على يَقينٍ من قَولِهِ تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، ومن قَولِهِ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾.

هوَ على يَقينٍ بأنَّ رِزقَهُ لا يَجُرُّهُ حِرصُ حَريصٍ، ولا يَرُدُّهُ كَراهِيَةُ كارِهٍ، وهوَ على يَقينٍ بأنَّ أجَلَهُ بِيَدِ الله عزَّ وجلَّ لا يَستَطيعُ أحَدٌ من المَخلوقاتِ أن يُقَدِّمَهُ لَحظَةً أو يُؤَخِّرَهُ لَحظَةً.

عِبادَ الله: لذا نَرى العَبدَ المؤمِنَ في أيَّامِ الأزَماتِ يَدخُلُ أفضَلَ العِبادَةِ، كما جاءَ في الحَديثِ الذي رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ».

عِبادَ الله: المُؤمِنُ الواثِقُ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ يَنتَظِرُ الفَرَجَ أيَّامَ الشِّدَّةِ، فهوَ يُكثِرُ من الاستِرجاعِ: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون﴾. ويُكثِرُ من الحَوقَلةِ : (لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ) ويَحمَدُ اللهَ تعالى على كُلِّ حالٍ مُتَأسِّياً برَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما جاءَ في الحَديثِ الذي رواه ابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: «الْحَمْدُ لله الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ» وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: «الْحَمْدُ لله عَلَى كُلِّ حَالٍ».

 

الخطبة الثانية

عِبادَ الله: لقد كانَ العَرَبُ يَقولونَ" إذا اشتَدَّ الحَبلُ انقَطَعَ" كِنايَةً عن الشَّدائِدِ بأنَّها لن تَدومَ، ولأنَّهُ من المُحالِ دَوامُ الحالِ.

عِبادَ الله: إذا اشتَدَّتِ الأزمَةُ فُرِجَتْ بِإذنِ الله تعالى، فانتَظِروا فَرَجَاً ومَخرَجاً، ونَحنُ على يَقينٍ بذلكَ ، وهذا اليَقينُ جَاءَ من خِلالِ القُرآنِ العَظيمِ، والحَديثِ الشَّريفِ:

قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد * وَمَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَام * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون﴾.

وروى الحاكم عَنِ الحَسَنِ في قَولِ الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾. قال: خَرَجَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوماً مَسروراً فَرِحاً وهوَ يَضحَكُ وهوَ يَقولُ: «لَن يَغلِبَ عُسرٌ يُسرَينِ ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾».

المشاهدات 1006 | التعليقات 0