اللهم ارحم الأنصار
عبدالله اليابس
1437/02/07 - 2015/11/19 12:42PM
اللهم ارحم الأنصار
الحمد لله الذي تقدس عن النظير والشبيه ، وتنزه عن مقالات أهل التمويه ، الغني عن خلقه ، فهو الأحد الصمد الذي لا شك فيه.
واشهد أن لا إله إلا الله , وحده لا شريك له , له الملك , وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, فسبحانه سبحانه إذا أدخل عباده الجنة:
يقول عبادي هل رضيتم بنعمـتي **فها أنا منكم قاب قوسين أو أدنى
تملوا بوجهي وانظروا ما منحتكم فمَن*** نال منـى نظرة فقد استغنى
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.
انتخبه من أشرف القبائل، وزينه بأكمل الفضائل، وجعل اتِّباعه من أشرف الوسائل.
فهو النبي الهاشمـي المصطفى *** من خيرة الأنساب من عدنان
لو حاول الشعراء وصف محمدٍ *** وأتـو بأشعار على الأوزان
ماذا يقـول الواصفـون لأحمد *** بعد الـذي قد جاء في القـرآن
فاللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
لما فُتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة النبوية وأسلمت جموع كبيرة من العرب وغيرهم, وأسلم جمع من صناديد قريش ممن كان يناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء, وأسلمت أيضًا مجموعة من كبار سادات قريش, اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار وهؤلاء المسلمون حديثًا إلى حنين, ولما نصرهم الله تعالى في غزوة حنين, وأفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالأموال الكثيرة, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقسم هذه الأموال على من أسلم حديثًا رجاء أن يتألف قلوبهم ليثبُتوا على الإسلام.
فأوّلُ مَنْ أَعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- من المؤلَّفة قلوبهم أبا سفيان بن حرب، أعطاه أربعين أوقية، ومئة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟ فأعطاه كذلك، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه كذلك، فأخذ أَبو سفيان وابناه ثلاث مئة من الإبل، ومئة وعشرين أوقية من الفضة، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه! لأنتَ كريمٌ في الحرب وفي السلم، لقد حاربتُك فَنِعْمَ المحارِبُ كنتَ، ثم سالمتُك فنعمَ المسالم أنت، هذا غايةُ الكرم، جزاك اللَّه خيرًا .
وأعطى صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثمَّ سأله حكيمٌ مائة أخرى، فأعطاه إياها، ثمَّ سأله مائة أخرى، فأعطاه، وقال له: "يا حَكيمُ! هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوة، مَنْ أخذَهُ بسخاوة نفس، بوركَ له فيه، ومن أخذَهُ بإشرافِ نفسٍ، لم يُبارَكْ له فيه، وكانَ كالذي يأكلُ ولا يشبعُ، واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى"، فأخذ حكيم المئة الأولى، وترك ما عداها، وقال: يا رسول اللَّه! والذي بعثك بالحق! لا أَرْزَأُ -أي: أنقصُ-أحدًا بعدك شيئًا -أي: من ماله-حتّى أفارق الدنيا، فكان أَبو بكر يدعو حكيمًا ليعطيه العطايا، فيأبى أن يقبل منه شيئًا، وكذلك عمر، فأبى أن يقبل، فقال عمر: يا معشر المسلمين! إني أَعرِض عليه حقّه الذي قسم اللَّه له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه.
وفي "الصّحيح" عن صفوان -رضي اللَّه عنه-، قال: ما زال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطيني من غنائم حنين وهو أبغضُ الخلق إليَّ حتى ما خلقَ اللَّه تعالى شيئًا أحبَّ إليَّ منه.
وفي "صحيح مسلم": أنّه أعطاه مئة من النعم، ثمَّ مئة، ثمَّ مئة.
وأعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- جُبير بنَ مطعم، والأخنس بن شُريق، والحارثَ بنَ هشامِ بنِ المغيرة المخزوميَّ، وهو أخو أَبو جهل، و الأقرعَ بنَ حابس التميميَّ.
وأعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- جماعةً غيرَ مَنْ ذُكِر، وتركَ خيار النّاس من المسلمين، لم يعطهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَلَهم إلى حُسْن إسلامهم، ولم يعط الأنصار يومئذ من ذلك النَفَل شيئًا، لا كثيرًا، ولا قليلًا، فكانوا رضي الله عنهم يرون الأموال تقسم ولا يصيبهم منها شيء, فكأنّهم غضبوا ووجدوا في أنفسهم؛ حتّى كثرت فيهم القالَةُ، حتّى قال قائلهم: يغفرُ اللَّه لرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، إنّ هذا لهو العجب، يعطي قريشًا -وفي لفظ: الطلقاء والمهاجرين-، وتركنا وسيوفُنا تقطر من دمائهم! إذا كانت شديدةٌ، فنحن ندعى، ويعطي الغنيمة غيرنا، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا، فإن كان من أمر اللَّه، صبرنا، وإن كان من رأي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، استعتبناه, فقال رجل منهم لأصحابه: لقد كنت أحدثكم أن لو استقامتِ الأمور، لقد آثرَ عليكم غيرَكم، فردُّوا عليه ردًا عنيفًا.
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما أعطَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد يوم حنين ما أعطى من تلك العطايا في قريشٍ وقبائلِ العربِ ولم يكنْ في الأنصارِ منها شيءٌ وجد هذا الحيُّ من الأنصارِ في أنفسِهم حتى كثُرَت فيهم القالةُ حتى قال قائلُهم لقِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قومَه, فدخل عليه سعدُ بنُ عبادةَ فقال: يا رسولَ اللهِ! إن هذا الحيَّ من الأنصارِ وجدوا عليك في أنفسِهم لِمَا صنعتَ في هذا الفيءِ الذي أصبتَ, قسمتَ في قومِك, وأعطيت عطاياً عظامًا في قبائلِ العربِ, ولم يكنْ في هذا الحيِّ من الأنصارِ شيءٌ, قال: فأينَ أنتَ من ذلك يا سعدُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ! ما أنا إلا امرؤٌ من قومي, وما أنا من ذلك. قال: فاجمعْ لي قومَك في هذه الحظيرةِ, قال: فجاء رجلٌ من المهاجرين فتركه يدخل, وجاء آخرونَ فرَدَّهم, فلما اجتمعوا أتاه سعدٌ فقال: قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصارِ. وقال أنس: فأرسل -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أَدَم يعني من جلد، حتّى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له، أتاه، فقال: يا رسول اللَّه! قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصار حيثُ أمرتني بأن أجمعهم، فخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إليهم، قال أنس بن مالك: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل فيكم أحدٌ من غيركم؟ "، قالوا: لا يا رسول اللَّه، إلا ابن أختنا، قال: "ابنُ أخْتِ القومِ مِنْهم"، فقام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فحمِدَ اللهَ وأثنَى عليه بالذي هو له أهلٌ, ثم قال: يا معشرَ الأنصارِ! ما قالةٌ بلغتني عنكم؟ وَوَجدةٌ وجدتموها في أنفسِكم؟ ألم تكونوا ضُلَّالًا فهداكمُ اللهُ بي؟ وعالةً فأغناكم اللهُ؟ وأعداءً فألَّف بينَ قلوبِكم؟ قالوا: بلِ اللهُ ورسولُه أَمَنُّ وأفضلُ. قال: ألا تجيبوني يا معشرَ الأنصارِ؟ قالوا: وبماذا نجيبُك يا رسولَ اللهِ وللهِ ولرسولِه المنُّ والفضلُ؟ قال: أما واللهِ لو شئتم لقلتم فلصَدَقتُم ولصُدِّقتُم.. أتيتنا مُكذَّبًا فصدَّقناك, ومخذولًا فنصرناك, وطريدًا فآويناك, وعائلًا فواسيناك, أوجَدْتُم في أنفسِكم يا معشرَ الأنصارِ في لعاعةٍ من الدنيا تألفتُ قومًا ليُسلِموا ووكَلتُكم إلى إسلامِكم؟ ألا ترضونَ يا معشرَ الأنصارِ أن يذهبَ الناسُ بالشاةِ والبعيرِ وترجعون برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رحالِكم؟ فو الذي نفسُ محمدٍ بيدِه إنه لولا الهجرةُ لكنتُ امرأً من الأنصارِ, ولو سلك الناسُ شِعبًا لسلكتُ شعبَ الأنصارِ, الأنصار شعار, والناس دثار, إنكم ستلقون بعدي أثرة, فاصبروا حتى تلقوني على الحوض, اللهمَّ ارحمِ الأنصارَ, وأبناءَ الأنصارِ, وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ, قال: فبكَى القومُ حتى أخضَلوا لحاهم, وقالوا: رضينا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قِسمًا وحَظًّا, ثم انصرف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتفرَّقوا. رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وأصله في الصحيحين.
ولعلنا نتوقف مع هذا الحديث بعد جلسة الاستراحة بإذن الله تعالى.
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه, والشكر له على توفيقه وامتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه, والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وإخوانه, وسلم تسليمًا كثيرًا,
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
أيها الإخوة: بعد أن استمعنا إلى هذه الحادثة العظيمة, التي امتلأت دروسًا وعبرًا دعونا نتوقف معها بعض الوقفات, ونستخلص منها الدروس والعبر:
فمن فوائد هذا الحديث: فضل الأنصار على غيرهم, فالنبي صلى الله عليه وسلم أولاً وكلهم لما يعلم من قوة إيمانهم وفي هذا تزكية لهم, وثانيًا فقد اختار العودة معهم إلى المدينة بعد أن فتحت مكة حبًا لهم, وثالثًا: فقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه واحد منهم لولا الهجرة, وأخبرهم أنهم لو اختاروا أية طريق أو وادٍ فهو معهم, جاء عند البخاري ومسلم "آية الإيمان حب الأنصار, وآية النفاق بغض الأنصار", رضي الله عنهم أجمعين.
ومن فوائد هذا الحديث جواز صرف الغنائم وأموال الزكاة للمؤلفة قلوبهم, سواء كانوا من الكفار الذين يرجى إسلامهم أو كانوا ممن أسلم ويرجى بذلك تثبيت إسلامهم, كما قال تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}.
ومن فوائد الحديث أهمية الاستعجال في حل المشاكل قبل تفاقمها, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاه سعد بن عبادة رضي الله عنه يخبره بما يتكلم به القوم لم يقل له: انتظر حتى نرجع إلى المدينة, وإنما بادر مباشرة إلى حل الموضوع قبل أي شيء, وهذا منهج نبوي في التعامل مع المشكلات, فإن المشاكل في العموم تتفاقم وتكبر مع تقدم الوقت وتأخر الحل, وكلما تأخرت المبادرة في الحل كلما صعبت وتعقدت.
ومن فوائد الحديث أهمية التماس الأعذار للآخرين, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا لم يجب القومُ أجاب عنهم وقال: (إنكم لو شئتم لقلتم كذا وكذا), فالتمس لهم الإجابة, ولم يكن همه ومقصده صلى الله عليه وسلم أن يفحمهم أو يقطع حجتهم بقدر ما كان مقصده أن يوصل الفكرة التي أرادها.
ومن فوائد الحديث أن المكاسب الحقيقية في هذه الدنيا هي المكاسب الدينية الأخروية, فإن الإنسان قد أمره الله تعالى أولاً بالسعي لتحصيلها {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} ثم جاءت الدنيا تبعاً بذلك في الدرجة الثانية: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}, فينبغي للإنسان أن يحزن ويألم عند فوات المكاسب العظمى .. مكاسب الدين, ويعلم أن مكاسب الدنيا تأتي وتذهب, ولا يبقى له إلا ما ينفعه غدًا.
ومن فوائد الحديث فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي, وعالة فأغناكم الله بي) فرسول الله صلى الله عليه وسلم خير على أمته في دينها ودنياها صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث أهمية اعتراف الإنسان بجميل غيره عليه, وذكر ذلك, والثناء عليه به, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترف بجميل النصار معه حيث آووه ونصروه وصدقوه, وفي هذا رقي وحسن أدب وطيب معاملة.
ومن فوائد الحديث أهمية إنصاف الإنسان من نفسه, حيث تفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف الطرف الآخر في هذا الحوار, وأدلى عنهم بالحجة التي لم يتكلموا بها, فأوردها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبدى تفهمه لها, ثم طرح لهم الفكرة السامية التي يريدها صلى الله عليه وسلم.
وهكذا ينبغي أن تكون حواراتنا ومناقشاتنا, مقصدها الوصول للحق, وتفهم وجهة نظر المخالف, وإنصاف الإنسان من نفسه, مع بقاء المودة قبل الحوار وبعده.
أيها الإخوة هذه جملة من بعض فوائد الحديث, ولعل فيها كفاية إن شاء الله تعالى, جعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
الحمد لله الذي تقدس عن النظير والشبيه ، وتنزه عن مقالات أهل التمويه ، الغني عن خلقه ، فهو الأحد الصمد الذي لا شك فيه.
واشهد أن لا إله إلا الله , وحده لا شريك له , له الملك , وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, فسبحانه سبحانه إذا أدخل عباده الجنة:
يقول عبادي هل رضيتم بنعمـتي **فها أنا منكم قاب قوسين أو أدنى
تملوا بوجهي وانظروا ما منحتكم فمَن*** نال منـى نظرة فقد استغنى
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.
انتخبه من أشرف القبائل، وزينه بأكمل الفضائل، وجعل اتِّباعه من أشرف الوسائل.
فهو النبي الهاشمـي المصطفى *** من خيرة الأنساب من عدنان
لو حاول الشعراء وصف محمدٍ *** وأتـو بأشعار على الأوزان
ماذا يقـول الواصفـون لأحمد *** بعد الـذي قد جاء في القـرآن
فاللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
لما فُتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة النبوية وأسلمت جموع كبيرة من العرب وغيرهم, وأسلم جمع من صناديد قريش ممن كان يناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء, وأسلمت أيضًا مجموعة من كبار سادات قريش, اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار وهؤلاء المسلمون حديثًا إلى حنين, ولما نصرهم الله تعالى في غزوة حنين, وأفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالأموال الكثيرة, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقسم هذه الأموال على من أسلم حديثًا رجاء أن يتألف قلوبهم ليثبُتوا على الإسلام.
فأوّلُ مَنْ أَعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- من المؤلَّفة قلوبهم أبا سفيان بن حرب، أعطاه أربعين أوقية، ومئة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟ فأعطاه كذلك، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه كذلك، فأخذ أَبو سفيان وابناه ثلاث مئة من الإبل، ومئة وعشرين أوقية من الفضة، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه! لأنتَ كريمٌ في الحرب وفي السلم، لقد حاربتُك فَنِعْمَ المحارِبُ كنتَ، ثم سالمتُك فنعمَ المسالم أنت، هذا غايةُ الكرم، جزاك اللَّه خيرًا .
وأعطى صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثمَّ سأله حكيمٌ مائة أخرى، فأعطاه إياها، ثمَّ سأله مائة أخرى، فأعطاه، وقال له: "يا حَكيمُ! هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوة، مَنْ أخذَهُ بسخاوة نفس، بوركَ له فيه، ومن أخذَهُ بإشرافِ نفسٍ، لم يُبارَكْ له فيه، وكانَ كالذي يأكلُ ولا يشبعُ، واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى"، فأخذ حكيم المئة الأولى، وترك ما عداها، وقال: يا رسول اللَّه! والذي بعثك بالحق! لا أَرْزَأُ -أي: أنقصُ-أحدًا بعدك شيئًا -أي: من ماله-حتّى أفارق الدنيا، فكان أَبو بكر يدعو حكيمًا ليعطيه العطايا، فيأبى أن يقبل منه شيئًا، وكذلك عمر، فأبى أن يقبل، فقال عمر: يا معشر المسلمين! إني أَعرِض عليه حقّه الذي قسم اللَّه له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه.
وفي "الصّحيح" عن صفوان -رضي اللَّه عنه-، قال: ما زال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطيني من غنائم حنين وهو أبغضُ الخلق إليَّ حتى ما خلقَ اللَّه تعالى شيئًا أحبَّ إليَّ منه.
وفي "صحيح مسلم": أنّه أعطاه مئة من النعم، ثمَّ مئة، ثمَّ مئة.
وأعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- جُبير بنَ مطعم، والأخنس بن شُريق، والحارثَ بنَ هشامِ بنِ المغيرة المخزوميَّ، وهو أخو أَبو جهل، و الأقرعَ بنَ حابس التميميَّ.
وأعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- جماعةً غيرَ مَنْ ذُكِر، وتركَ خيار النّاس من المسلمين، لم يعطهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَلَهم إلى حُسْن إسلامهم، ولم يعط الأنصار يومئذ من ذلك النَفَل شيئًا، لا كثيرًا، ولا قليلًا، فكانوا رضي الله عنهم يرون الأموال تقسم ولا يصيبهم منها شيء, فكأنّهم غضبوا ووجدوا في أنفسهم؛ حتّى كثرت فيهم القالَةُ، حتّى قال قائلهم: يغفرُ اللَّه لرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، إنّ هذا لهو العجب، يعطي قريشًا -وفي لفظ: الطلقاء والمهاجرين-، وتركنا وسيوفُنا تقطر من دمائهم! إذا كانت شديدةٌ، فنحن ندعى، ويعطي الغنيمة غيرنا، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا، فإن كان من أمر اللَّه، صبرنا، وإن كان من رأي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، استعتبناه, فقال رجل منهم لأصحابه: لقد كنت أحدثكم أن لو استقامتِ الأمور، لقد آثرَ عليكم غيرَكم، فردُّوا عليه ردًا عنيفًا.
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما أعطَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد يوم حنين ما أعطى من تلك العطايا في قريشٍ وقبائلِ العربِ ولم يكنْ في الأنصارِ منها شيءٌ وجد هذا الحيُّ من الأنصارِ في أنفسِهم حتى كثُرَت فيهم القالةُ حتى قال قائلُهم لقِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قومَه, فدخل عليه سعدُ بنُ عبادةَ فقال: يا رسولَ اللهِ! إن هذا الحيَّ من الأنصارِ وجدوا عليك في أنفسِهم لِمَا صنعتَ في هذا الفيءِ الذي أصبتَ, قسمتَ في قومِك, وأعطيت عطاياً عظامًا في قبائلِ العربِ, ولم يكنْ في هذا الحيِّ من الأنصارِ شيءٌ, قال: فأينَ أنتَ من ذلك يا سعدُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ! ما أنا إلا امرؤٌ من قومي, وما أنا من ذلك. قال: فاجمعْ لي قومَك في هذه الحظيرةِ, قال: فجاء رجلٌ من المهاجرين فتركه يدخل, وجاء آخرونَ فرَدَّهم, فلما اجتمعوا أتاه سعدٌ فقال: قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصارِ. وقال أنس: فأرسل -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أَدَم يعني من جلد، حتّى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له، أتاه، فقال: يا رسول اللَّه! قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصار حيثُ أمرتني بأن أجمعهم، فخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إليهم، قال أنس بن مالك: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل فيكم أحدٌ من غيركم؟ "، قالوا: لا يا رسول اللَّه، إلا ابن أختنا، قال: "ابنُ أخْتِ القومِ مِنْهم"، فقام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فحمِدَ اللهَ وأثنَى عليه بالذي هو له أهلٌ, ثم قال: يا معشرَ الأنصارِ! ما قالةٌ بلغتني عنكم؟ وَوَجدةٌ وجدتموها في أنفسِكم؟ ألم تكونوا ضُلَّالًا فهداكمُ اللهُ بي؟ وعالةً فأغناكم اللهُ؟ وأعداءً فألَّف بينَ قلوبِكم؟ قالوا: بلِ اللهُ ورسولُه أَمَنُّ وأفضلُ. قال: ألا تجيبوني يا معشرَ الأنصارِ؟ قالوا: وبماذا نجيبُك يا رسولَ اللهِ وللهِ ولرسولِه المنُّ والفضلُ؟ قال: أما واللهِ لو شئتم لقلتم فلصَدَقتُم ولصُدِّقتُم.. أتيتنا مُكذَّبًا فصدَّقناك, ومخذولًا فنصرناك, وطريدًا فآويناك, وعائلًا فواسيناك, أوجَدْتُم في أنفسِكم يا معشرَ الأنصارِ في لعاعةٍ من الدنيا تألفتُ قومًا ليُسلِموا ووكَلتُكم إلى إسلامِكم؟ ألا ترضونَ يا معشرَ الأنصارِ أن يذهبَ الناسُ بالشاةِ والبعيرِ وترجعون برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رحالِكم؟ فو الذي نفسُ محمدٍ بيدِه إنه لولا الهجرةُ لكنتُ امرأً من الأنصارِ, ولو سلك الناسُ شِعبًا لسلكتُ شعبَ الأنصارِ, الأنصار شعار, والناس دثار, إنكم ستلقون بعدي أثرة, فاصبروا حتى تلقوني على الحوض, اللهمَّ ارحمِ الأنصارَ, وأبناءَ الأنصارِ, وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ, قال: فبكَى القومُ حتى أخضَلوا لحاهم, وقالوا: رضينا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قِسمًا وحَظًّا, ثم انصرف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتفرَّقوا. رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وأصله في الصحيحين.
ولعلنا نتوقف مع هذا الحديث بعد جلسة الاستراحة بإذن الله تعالى.
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه, والشكر له على توفيقه وامتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه, والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وإخوانه, وسلم تسليمًا كثيرًا,
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
أيها الإخوة: بعد أن استمعنا إلى هذه الحادثة العظيمة, التي امتلأت دروسًا وعبرًا دعونا نتوقف معها بعض الوقفات, ونستخلص منها الدروس والعبر:
فمن فوائد هذا الحديث: فضل الأنصار على غيرهم, فالنبي صلى الله عليه وسلم أولاً وكلهم لما يعلم من قوة إيمانهم وفي هذا تزكية لهم, وثانيًا فقد اختار العودة معهم إلى المدينة بعد أن فتحت مكة حبًا لهم, وثالثًا: فقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه واحد منهم لولا الهجرة, وأخبرهم أنهم لو اختاروا أية طريق أو وادٍ فهو معهم, جاء عند البخاري ومسلم "آية الإيمان حب الأنصار, وآية النفاق بغض الأنصار", رضي الله عنهم أجمعين.
ومن فوائد هذا الحديث جواز صرف الغنائم وأموال الزكاة للمؤلفة قلوبهم, سواء كانوا من الكفار الذين يرجى إسلامهم أو كانوا ممن أسلم ويرجى بذلك تثبيت إسلامهم, كما قال تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}.
ومن فوائد الحديث أهمية الاستعجال في حل المشاكل قبل تفاقمها, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاه سعد بن عبادة رضي الله عنه يخبره بما يتكلم به القوم لم يقل له: انتظر حتى نرجع إلى المدينة, وإنما بادر مباشرة إلى حل الموضوع قبل أي شيء, وهذا منهج نبوي في التعامل مع المشكلات, فإن المشاكل في العموم تتفاقم وتكبر مع تقدم الوقت وتأخر الحل, وكلما تأخرت المبادرة في الحل كلما صعبت وتعقدت.
ومن فوائد الحديث أهمية التماس الأعذار للآخرين, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا لم يجب القومُ أجاب عنهم وقال: (إنكم لو شئتم لقلتم كذا وكذا), فالتمس لهم الإجابة, ولم يكن همه ومقصده صلى الله عليه وسلم أن يفحمهم أو يقطع حجتهم بقدر ما كان مقصده أن يوصل الفكرة التي أرادها.
ومن فوائد الحديث أن المكاسب الحقيقية في هذه الدنيا هي المكاسب الدينية الأخروية, فإن الإنسان قد أمره الله تعالى أولاً بالسعي لتحصيلها {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} ثم جاءت الدنيا تبعاً بذلك في الدرجة الثانية: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}, فينبغي للإنسان أن يحزن ويألم عند فوات المكاسب العظمى .. مكاسب الدين, ويعلم أن مكاسب الدنيا تأتي وتذهب, ولا يبقى له إلا ما ينفعه غدًا.
ومن فوائد الحديث فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي, وعالة فأغناكم الله بي) فرسول الله صلى الله عليه وسلم خير على أمته في دينها ودنياها صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث أهمية اعتراف الإنسان بجميل غيره عليه, وذكر ذلك, والثناء عليه به, فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترف بجميل النصار معه حيث آووه ونصروه وصدقوه, وفي هذا رقي وحسن أدب وطيب معاملة.
ومن فوائد الحديث أهمية إنصاف الإنسان من نفسه, حيث تفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف الطرف الآخر في هذا الحوار, وأدلى عنهم بالحجة التي لم يتكلموا بها, فأوردها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبدى تفهمه لها, ثم طرح لهم الفكرة السامية التي يريدها صلى الله عليه وسلم.
وهكذا ينبغي أن تكون حواراتنا ومناقشاتنا, مقصدها الوصول للحق, وتفهم وجهة نظر المخالف, وإنصاف الإنسان من نفسه, مع بقاء المودة قبل الحوار وبعده.
أيها الإخوة هذه جملة من بعض فوائد الحديث, ولعل فيها كفاية إن شاء الله تعالى, جعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
اللهم ارحم الأنصار 1-2-1437.docx
اللهم ارحم الأنصار 1-2-1437.docx