اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين ......
عبدالله اليابس
1436/03/08 - 2014/12/30 03:12AM
التحذير من الديون
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}, {ياَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً},(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد: جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: " كنت أخدم النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, والعجز والكسل, والبخل والجبن, وضلع الدين, وقهر الرجال "، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من الهموم, فإن الهموم تتنوع وتختلف ، ومن أشد الهموم وطأة على المرء همُّ الدين ، فمن الأمثلة السائرة عند العرب في ذلك قولهم :
لا همَّ إلا همُّ الدين ، وكان يقال : الدَّين يُنقص من الدِّين والحسب، ويقال : الدَّين همٌّ بالليل ومذلة بالنهار ، وروي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : إياكم والدَّين فإن أوله همّ وآخره حرب ، ويقال : الدَّين رِقٌ ، فليختر أحدكم أين يضعُ رِقَّه ، وكان يقال : الأذلة أربعة : النمام والكذاب والفقير والمديان ، ويقال : حرية المسلم كرامته، وذُلُّه دَينُه، وعذابه سوء خلقه. وبث أحدهم معاناته مع الدَّيْن شعراً فقال :
ألا ليت النهار يعود يومــــاً * فإن الصبح يأتي بالهموم
حوائج ما نطيق لها قضـــــــــــــــــــــــــــــــاءً * ولا دفعـــــــــــــــــــــــــــــــــــاً وروعاتُ الغريم
وإذا كان هذا حال الدَّين وأهله, فاسمحوا لي أن أتوقف مع الدُيون عدة وقفات:
الوقفة الأولى: لقد شدد الإسلام في مسألة الدَّين تشديداً يحمل المرء على عدم الاقتراب منه إلا عند الضرورة القصوى ؛ إذ الدين مانع من مغفرة الذنب وإن كانت الخاتمة شهادة في سبيل الله ، ففي صحيح مسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قام في أصحابه فذكر لهم أن الإيمان بالله والجهاد في سبيله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال : يا رسول الله أرأيتَ إن قُتلت في سبيل الله تُكفَّر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله : " نعم ، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر " ، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " كيف قلتَ ؟ " ، قال : أرأيتَ إن قتلتُ في سبيل الله أتكفَّر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله : " نعم ، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر.. إلا الدَّين! فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك " .
أيها الإخوة.. إن الدَّين مما لا ينتهي همه في الحياة, بل يعاقَب عليه الإنسان ويتبعه في قبره, فعن جابر بن عبد الله قال : توفي رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ثم أتينا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليصلي عليه ، فقلنا : تصلي عليه ؟ فخطا خطوة ثم قال: " أعليه دين ؟ " قلنا : ديناران ، فانصرف ، فتحملهما أبو قتادة ، فأتيناه ، فقال : أبو قتادة : الديناران عليّ ، فقال رسول الله : " قد أوفى الله حقَّ الغريم وبرئ منهما الميت ؟ قال : نعم ، فصلى عليه ، ثم قال بعد ذلك بيومين : " ما فعل الديناران ؟ " قلت : إنما مات أمس ، قال : فعاد إليه من الغد فقال : قد قضيتها ، فقال رسول الله : الآن بَرَدَت جِلدتُه " رواه أحمد وصححه الحاكم وحسنه المنذري.
إن نفس المؤمن محبوسة حتى يقضى عنه دينه ، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – : " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " رواه الترمذي وحسنه البغوي.
أيها المقترض.. إذا لم تقض الديون في الدنيا فإن قضاء الديون في الآخرة سيكون بالحسنات والسيئات يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : "من مات وعليه دين فليس بالدينار والدرهم لكن بالحسنات والسيئات " رواه أحمد وصححه الألباني . ودخول الجنة معلق بقضاء الدين ، فقد قال محمد بن عبد الله بن جحش – رضي الله عنه – : كان رسول – صلى الله عليه وسلم – قاعداً حيث توضع الجنائز فرفع رأسه قبل السماء ثم خفض بصره فوضع يده على جبهته فقال : "سبحان الله سبحان الله ما أُنزل من التشديد " قال : فعرفنا وسكتنا, حتى إذا كان الغد سألتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلنا : ما التشديد الذي نزل ؟ قال : " في الدَّين ، والذي نفسي بيده لو قتل رجل في سبيل الله ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى دينه " رواه النسائي وصححه الحاكم وحسنه الألباني ، وقال أبو هريرة – رضي الله عنه– : " من كان عليه دين ، فأيسر به فلم يقضه فهو كآكل السحت " رواه عبد الرزاق.
الوقفة الثانية: إن المتأمل للهدي الإسلامي الشامل لجوانب الحياة في تعامله مع همِّ الدين يجد الدواء الناجع لهذا الداء دفعاً له قبل وقوعه ، ورفعاً له بعد الوقوع ، وحسماً لأثره عند القضاء وبعدَه ، فمن الإجراءات الوقائية المانعة من الدين: الاقتصاد وحسن التدبير إذ أكثر الديون تصرف في الكمالات ، فقد قال الله – تبارك وتعالى – : {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء : 29]، وذلك يستلزم ضبط المصروف وحسن تقسيمه ، وعدم الانصياع لبهرج الدعاية والإعلان، أو الانسياق لإعلانات القروض الميسرة, أو التقسيط المريح, فكلها ديون وإن سميت بغير اسمها, كما ينبغي التخلص من العادات السيئة وإن جرى بها العمل في المجتمع, وعدم مجاراتهم في عاداتهم المباحة إن لم تطق، ومن حسن التدبير إبقاء جزء من المال للظروف الطارئة كما كان هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ إذ يقول : " لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني ألا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء, إلا شيئاً أرصده لدين " رواه البخاري ومسلم, ومن الإجراءات الوقائية المانعة من الدين أن يعوّد المرء نفسه وأهله على عدم الاستجابة لرغبات النفس في تحقيق كل ما تريد, والقناعة بما رزقوا، فقد مرّ جابر على عمر بن الخطاب بلحم قد اشتراه بدرهم فقال له عمر : ما هذا ؟ قال : اشتريت بدرهم ، قال : كلما اشتهيت شيئاً اشتريته . رواه ابن أبي شيبة وما عولج الطمع بمثل اليأس :
وإذا غـلا شـيء عـلـيّ تركـتــه * فيكونُ أرخصَ ما يكونُ إذا غلا
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ : الوقفة الثالثة: إلى كل مستدين.. إليك يا من ولغت في الدين, ووقع الفأس في الرأس, إني موصيك بوصايًا فاحفظها:
الوصية الأولى/ الصدق في نية الوفاء والعزم عليه : فبهذه النية يسلم المرء من مغبة الدين وخطره ، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم– : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها ، أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " رواه البخاري ومسلم .
بهذه النية يعان المرء في قضاء دينه, وهذه النية لا تكون صادقة إلا بفعل الأسباب الممكنة في السداد وإن كانت قليلة, فمن ذلك : توثقة الدين وكتابته في الوصية (والوصية حينئذٍ واجبة) وإعطاءُ الدائنِ الفائض من المال عن حاجتك وإن كان قليلاً ، ومنها: الاقتصاد في النفقة ؛ ليَفضُل ما يكون به السداد .
الوصية الثانية/ حسن الظن بالله والاستعانة به ، فالله عند ظن عبده به ، وقد أوصى الزبير بن العوام ابنه عبد الله بقضاء دينه وقال له : "يا بني إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه بمولاي " فقال له : "يا أبتِ من مولاك ؟ " فقال : " الله "، قال عبد الله : " فو الله ما وقعت في كربة من دَينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه " رواه البخاري .
الوصية الثالثة/ ذكر الله ودعاؤه ، فمن ذلك دعاء يونس عليه السلام ، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : " دعوة ذي النون إذ دعاه وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فإنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له " رواه الترمذي وصححه الحاكم ، ومنها دعاء الكرب الذي يدعو به النبي – صلى الله عليه وسلم – كما روى ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : " لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم " رواه البخاري ومسلم.
وهناك أدعية خاصة بقضاء الدين ، منها : ما روى أبو داود وسكت عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة ، فقال : يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة ؟ فقال: هموم لزمتني, وديون يا رسول الله ، قال : أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك, وقضى عنك دينك ؟ قال : قلت : بلى يا رسول الله ، قال : " قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن, وأعوذ بك من العجز والكسل, وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " ، قال : ففعلت ذلك ، فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني ، ومنها ما رواه أحمد والترمذي وصححه الحاكم وحسنه الألباني أن علي بن أبي طالب قال لرجل جاء يطلب أن يعينه في دينه ، فقال له : ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل صَبِيرٍ (اسم جبل في اليمن) ديناً لأداه الله عنك ، قل : " اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضل عمن سواك" . ومنها ما رواه الطبراني في الصغير وجوّده المنذري وحسنه الألباني أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لمعاذ: ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً لأداه الله عنك ، قل : يا معاذ : اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير, رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما, تعطيهما من تشاء, وتمنعهما من تشاء, ارحمني رحمةً تغنيني بها عن رحمة من سواك " .
الوصية الرابعة للمستدينين/ إذا حلَّ الدين فإن الإسلام قد حض على حسن الوفاء ، وذلك بأدائه في موعده المحدد ، والزيادة عليه.. كرماً من المدين دون طلب من الدائن أو شرط ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رجلاً أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – يتقاضاه بعيراً ، فقال النبي : أعطوه ، فقالوا : ما نجد إلا سناً أفضل من سنه ، فقال الرجل : أوفيتني أوفاك الله ، فقال رسول الله: "أعطوه فإن من خيار الناس أحسنهم قضاءً " رواه البخاري ومسلم, وبهذا التعامل الراقي يحسم هم الدين وينقلب محمدة للإنسان.
الوقفة الرابعة : إلى الدائنين.. يامن يسر الله عليك, وأكرمك بتفريج كُرَب إخوانك, وأقرضت بعضهم شيئًا من مالك, لا تفوّت فضيلة إنظار المدين ، وإسقاطِ الدَّين كلِّه أو بعضِه عنه إن تيسر ذلك ، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حوسِبَ رجلٌ ممن كان قَبلَكُم . فلم يوجَدْ له منَ الخيرِ شيءٌ, إلا أنَّه كان يُخالِطُ الناسَ, وكان موسِرًا, فكان يَأمُرُ غِلمانَه أنْ يَتَجاوَزوا عنِ المُعسِرِ, قال : قال اللهُ عز وجل : نحن أحَقُّ بذلك منه, تَجاوَزوا عنه)
وعليك بالسماحة في الاقتضاء للدَّين وإياك والفجر في الخصومة، بأن تعتدي في خصومتك لمدينك, فتشتكيه وأنت تعلم عسرته, أو تدعو على ولده, أو زوجه أو قريبه, أو تتلفظ عليه أمام الناس, وتذكر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعا بالرحمة لمن كان سمحاً في قضائه, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللهُ عبدًا سَمْحًا إذا باعَ ، سَمْحًا إذا اشْتَرى ، سَمْحًا إذا قَضَى ، سَمْحًا إذا اقْتَضَى) .
يقول الله تبارك وتعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون).
فاللهم اشرح صدورنا, ويسر أمورنا, واقض عنا الدين, وأغننا من الفقر.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}, {ياَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً},(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد: جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: " كنت أخدم النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, والعجز والكسل, والبخل والجبن, وضلع الدين, وقهر الرجال "، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من الهموم, فإن الهموم تتنوع وتختلف ، ومن أشد الهموم وطأة على المرء همُّ الدين ، فمن الأمثلة السائرة عند العرب في ذلك قولهم :
لا همَّ إلا همُّ الدين ، وكان يقال : الدَّين يُنقص من الدِّين والحسب، ويقال : الدَّين همٌّ بالليل ومذلة بالنهار ، وروي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : إياكم والدَّين فإن أوله همّ وآخره حرب ، ويقال : الدَّين رِقٌ ، فليختر أحدكم أين يضعُ رِقَّه ، وكان يقال : الأذلة أربعة : النمام والكذاب والفقير والمديان ، ويقال : حرية المسلم كرامته، وذُلُّه دَينُه، وعذابه سوء خلقه. وبث أحدهم معاناته مع الدَّيْن شعراً فقال :
ألا ليت النهار يعود يومــــاً * فإن الصبح يأتي بالهموم
حوائج ما نطيق لها قضـــــــــــــــــــــــــــــــاءً * ولا دفعـــــــــــــــــــــــــــــــــــاً وروعاتُ الغريم
وإذا كان هذا حال الدَّين وأهله, فاسمحوا لي أن أتوقف مع الدُيون عدة وقفات:
الوقفة الأولى: لقد شدد الإسلام في مسألة الدَّين تشديداً يحمل المرء على عدم الاقتراب منه إلا عند الضرورة القصوى ؛ إذ الدين مانع من مغفرة الذنب وإن كانت الخاتمة شهادة في سبيل الله ، ففي صحيح مسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قام في أصحابه فذكر لهم أن الإيمان بالله والجهاد في سبيله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال : يا رسول الله أرأيتَ إن قُتلت في سبيل الله تُكفَّر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله : " نعم ، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر " ، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " كيف قلتَ ؟ " ، قال : أرأيتَ إن قتلتُ في سبيل الله أتكفَّر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله : " نعم ، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر.. إلا الدَّين! فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك " .
أيها الإخوة.. إن الدَّين مما لا ينتهي همه في الحياة, بل يعاقَب عليه الإنسان ويتبعه في قبره, فعن جابر بن عبد الله قال : توفي رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ثم أتينا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليصلي عليه ، فقلنا : تصلي عليه ؟ فخطا خطوة ثم قال: " أعليه دين ؟ " قلنا : ديناران ، فانصرف ، فتحملهما أبو قتادة ، فأتيناه ، فقال : أبو قتادة : الديناران عليّ ، فقال رسول الله : " قد أوفى الله حقَّ الغريم وبرئ منهما الميت ؟ قال : نعم ، فصلى عليه ، ثم قال بعد ذلك بيومين : " ما فعل الديناران ؟ " قلت : إنما مات أمس ، قال : فعاد إليه من الغد فقال : قد قضيتها ، فقال رسول الله : الآن بَرَدَت جِلدتُه " رواه أحمد وصححه الحاكم وحسنه المنذري.
إن نفس المؤمن محبوسة حتى يقضى عنه دينه ، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – : " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " رواه الترمذي وحسنه البغوي.
أيها المقترض.. إذا لم تقض الديون في الدنيا فإن قضاء الديون في الآخرة سيكون بالحسنات والسيئات يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : "من مات وعليه دين فليس بالدينار والدرهم لكن بالحسنات والسيئات " رواه أحمد وصححه الألباني . ودخول الجنة معلق بقضاء الدين ، فقد قال محمد بن عبد الله بن جحش – رضي الله عنه – : كان رسول – صلى الله عليه وسلم – قاعداً حيث توضع الجنائز فرفع رأسه قبل السماء ثم خفض بصره فوضع يده على جبهته فقال : "سبحان الله سبحان الله ما أُنزل من التشديد " قال : فعرفنا وسكتنا, حتى إذا كان الغد سألتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلنا : ما التشديد الذي نزل ؟ قال : " في الدَّين ، والذي نفسي بيده لو قتل رجل في سبيل الله ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى دينه " رواه النسائي وصححه الحاكم وحسنه الألباني ، وقال أبو هريرة – رضي الله عنه– : " من كان عليه دين ، فأيسر به فلم يقضه فهو كآكل السحت " رواه عبد الرزاق.
الوقفة الثانية: إن المتأمل للهدي الإسلامي الشامل لجوانب الحياة في تعامله مع همِّ الدين يجد الدواء الناجع لهذا الداء دفعاً له قبل وقوعه ، ورفعاً له بعد الوقوع ، وحسماً لأثره عند القضاء وبعدَه ، فمن الإجراءات الوقائية المانعة من الدين: الاقتصاد وحسن التدبير إذ أكثر الديون تصرف في الكمالات ، فقد قال الله – تبارك وتعالى – : {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء : 29]، وذلك يستلزم ضبط المصروف وحسن تقسيمه ، وعدم الانصياع لبهرج الدعاية والإعلان، أو الانسياق لإعلانات القروض الميسرة, أو التقسيط المريح, فكلها ديون وإن سميت بغير اسمها, كما ينبغي التخلص من العادات السيئة وإن جرى بها العمل في المجتمع, وعدم مجاراتهم في عاداتهم المباحة إن لم تطق، ومن حسن التدبير إبقاء جزء من المال للظروف الطارئة كما كان هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ إذ يقول : " لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني ألا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء, إلا شيئاً أرصده لدين " رواه البخاري ومسلم, ومن الإجراءات الوقائية المانعة من الدين أن يعوّد المرء نفسه وأهله على عدم الاستجابة لرغبات النفس في تحقيق كل ما تريد, والقناعة بما رزقوا، فقد مرّ جابر على عمر بن الخطاب بلحم قد اشتراه بدرهم فقال له عمر : ما هذا ؟ قال : اشتريت بدرهم ، قال : كلما اشتهيت شيئاً اشتريته . رواه ابن أبي شيبة وما عولج الطمع بمثل اليأس :
وإذا غـلا شـيء عـلـيّ تركـتــه * فيكونُ أرخصَ ما يكونُ إذا غلا
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ : الوقفة الثالثة: إلى كل مستدين.. إليك يا من ولغت في الدين, ووقع الفأس في الرأس, إني موصيك بوصايًا فاحفظها:
الوصية الأولى/ الصدق في نية الوفاء والعزم عليه : فبهذه النية يسلم المرء من مغبة الدين وخطره ، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم– : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها ، أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " رواه البخاري ومسلم .
بهذه النية يعان المرء في قضاء دينه, وهذه النية لا تكون صادقة إلا بفعل الأسباب الممكنة في السداد وإن كانت قليلة, فمن ذلك : توثقة الدين وكتابته في الوصية (والوصية حينئذٍ واجبة) وإعطاءُ الدائنِ الفائض من المال عن حاجتك وإن كان قليلاً ، ومنها: الاقتصاد في النفقة ؛ ليَفضُل ما يكون به السداد .
الوصية الثانية/ حسن الظن بالله والاستعانة به ، فالله عند ظن عبده به ، وقد أوصى الزبير بن العوام ابنه عبد الله بقضاء دينه وقال له : "يا بني إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه بمولاي " فقال له : "يا أبتِ من مولاك ؟ " فقال : " الله "، قال عبد الله : " فو الله ما وقعت في كربة من دَينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه " رواه البخاري .
الوصية الثالثة/ ذكر الله ودعاؤه ، فمن ذلك دعاء يونس عليه السلام ، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : " دعوة ذي النون إذ دعاه وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فإنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له " رواه الترمذي وصححه الحاكم ، ومنها دعاء الكرب الذي يدعو به النبي – صلى الله عليه وسلم – كما روى ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : " لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم " رواه البخاري ومسلم.
وهناك أدعية خاصة بقضاء الدين ، منها : ما روى أبو داود وسكت عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة ، فقال : يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة ؟ فقال: هموم لزمتني, وديون يا رسول الله ، قال : أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك, وقضى عنك دينك ؟ قال : قلت : بلى يا رسول الله ، قال : " قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن, وأعوذ بك من العجز والكسل, وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " ، قال : ففعلت ذلك ، فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني ، ومنها ما رواه أحمد والترمذي وصححه الحاكم وحسنه الألباني أن علي بن أبي طالب قال لرجل جاء يطلب أن يعينه في دينه ، فقال له : ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل صَبِيرٍ (اسم جبل في اليمن) ديناً لأداه الله عنك ، قل : " اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضل عمن سواك" . ومنها ما رواه الطبراني في الصغير وجوّده المنذري وحسنه الألباني أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لمعاذ: ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً لأداه الله عنك ، قل : يا معاذ : اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير, رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما, تعطيهما من تشاء, وتمنعهما من تشاء, ارحمني رحمةً تغنيني بها عن رحمة من سواك " .
الوصية الرابعة للمستدينين/ إذا حلَّ الدين فإن الإسلام قد حض على حسن الوفاء ، وذلك بأدائه في موعده المحدد ، والزيادة عليه.. كرماً من المدين دون طلب من الدائن أو شرط ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رجلاً أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – يتقاضاه بعيراً ، فقال النبي : أعطوه ، فقالوا : ما نجد إلا سناً أفضل من سنه ، فقال الرجل : أوفيتني أوفاك الله ، فقال رسول الله: "أعطوه فإن من خيار الناس أحسنهم قضاءً " رواه البخاري ومسلم, وبهذا التعامل الراقي يحسم هم الدين وينقلب محمدة للإنسان.
الوقفة الرابعة : إلى الدائنين.. يامن يسر الله عليك, وأكرمك بتفريج كُرَب إخوانك, وأقرضت بعضهم شيئًا من مالك, لا تفوّت فضيلة إنظار المدين ، وإسقاطِ الدَّين كلِّه أو بعضِه عنه إن تيسر ذلك ، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حوسِبَ رجلٌ ممن كان قَبلَكُم . فلم يوجَدْ له منَ الخيرِ شيءٌ, إلا أنَّه كان يُخالِطُ الناسَ, وكان موسِرًا, فكان يَأمُرُ غِلمانَه أنْ يَتَجاوَزوا عنِ المُعسِرِ, قال : قال اللهُ عز وجل : نحن أحَقُّ بذلك منه, تَجاوَزوا عنه)
وعليك بالسماحة في الاقتضاء للدَّين وإياك والفجر في الخصومة، بأن تعتدي في خصومتك لمدينك, فتشتكيه وأنت تعلم عسرته, أو تدعو على ولده, أو زوجه أو قريبه, أو تتلفظ عليه أمام الناس, وتذكر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعا بالرحمة لمن كان سمحاً في قضائه, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللهُ عبدًا سَمْحًا إذا باعَ ، سَمْحًا إذا اشْتَرى ، سَمْحًا إذا قَضَى ، سَمْحًا إذا اقْتَضَى) .
يقول الله تبارك وتعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون).
فاللهم اشرح صدورنا, ويسر أمورنا, واقض عنا الدين, وأغننا من الفقر.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
التحذير من الديون.doc
التحذير من الديون.doc
المشاهدات 3497 | التعليقات 2
جزاك الله كل خير
عبدالله اليابس
استفدت كثيراً من مقالة للشيخ محمد السحيم وفقه الله في موقع صيد الفوائد
تعديل التعليق