الكبارُ أولاً

عبدالله الغامدي
1446/04/08 - 2024/10/11 10:04AM

الـخطبة الأولى:

إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

حَصلتْ حَادثةُ قَتلٍ غامضةٍ في عَهدِ النبيِّ ﷺ، وُجِدَ الصحابيُّ المقتولُ في بئرٍ لليهود، ولم يُرَ ولم يُعرفْ القاتل، فجاءَ إلى النبيِّ ﷺ ثَلاثةٌ ممَّن له عَلاقةٌ بالحادثة، عبدالرحمن بن سهل -أخو المقتول- وحُويِّصة -مَنْ كانَ مرافق المقتول- ومُحيِّصة الذي لم يشهد الحادثة ولم يكنْ قريبًا منها وقتَ حدوثها، لكنَّه كانَ أكبرهم، فذهبَ حُويِّصة -الأصغر- ليتكلِّم باعتبارِ أنَّه هو الأحقُّ بروايةِ الحدثِ لكونه كانَ أقربَ النَّاسِ عهدًا بالمقتول قبيلَ حصولِ الحادثة، فإذا بالنبيِّ ﷺ يُوقفه ويُوجِّهه قائلاً: (كبِّر كبِّر!) أي: وكّل الكلامَ إلى أخيك الأكبر مُحيِّصة، ولا تتقدَّم عليه.

 إنَّه التَّوجيهُ النبويُّ الشَّريف والأدبُ الـمُحمديُّ الرَّفيعُ، الذي يُعلِّمُ أفرادَ أُمَّةِ مُحمَّد ﷺ قيمةَ ومكانة الكبار!

تجدُ في كثيرٍ من بلدان الغرب أنَّ الإنسانَ كُلَّما كَبرُ سنّه وزاد عُمره قلّتْ قيمته ونقصت مكانته، وأمَّا في الإسلامِ فكُلّما كَبر عمرك وزاد سنّك؛ علتْ قيمتك وارتفعَ شأنك وزادت التَّوجيهات في العنايةِ بك واحترامك؛ فهنيئًا لنا بنعمةِ هذا الدَّينِ العَظيم!

ومجتمعنا -بحمد الله- فيه من مظاهرِ احترامِ الكبير الشيء الكثير الذي لا يَخفى، لكن حتى لا تُصبح العِبادةُ الربّانيّة مُجرّدَ عادةٍ اجتماعيّة بعدَ فترة، أو تُصبحَ بَعضُ الحالاتِ الشاذّة التي نسمعَ بها ونراها من قلّة احترامِ الكبار، حالاتٍ متكاثرةٍ بعدَ مُدّة؛ فعلينا أن نُذكِّرَ أنفسنا وأبناءنا وشبابنا دائمًا بحقِّ كبارنا ومكانتهم في ديننا.

فيا معشر الشباب: أكرموا الكبار وأجلّوهم ووقّروهم؛ فإنَّ احترامهم دِين، وإجلالهم مِنْ إجلالِ رَبِّ العالمين؛ قالَ ﷺ: (إنَّ من إجلالِ الله: إجلالُ ذي الشيبة المسلم).

يا معشر الشباب: أعينوا كبار السنّ واخدموهم فيما يحتاجون إليه؛ فخدمةُ كبارِ السنِّ وكفايتهم من سننِ الأنبياء والمرسلين: لما قالت الفتاتان لموسى: ﴿لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير﴾ قال الله: ﴿فَسَقَى لَهُمَا.

يا معشر الشباب: استفيدوا من تجارِب كبارِ السنِّ وخبراتِهم في الحَياة، ولا يزهدنّكم في الاستفادةِ من بعضهم أنَّه لم يكمل تعليمه في المدارسِ أو الجامعات؛ فهؤلاء قد درسوا عقودًا في مدرسة الحَياة، وتعلّموا من أحداثها ومواقفها ما لا يمكنُ أن تجده عندَ طُلاّب أكبرِ الجامعاتِ العالميّة وأصحابِ الدرجات العلميّة؛ ولذلك قالَ ﷺ: (البركةُ مع أكابركم)؛ فالتمسوا البركةَ في مشورتهم والرجوعِ إليهم والأخذ برأيهم.

يا معشر الشباب: لا تُهينوا كبارَ السنِّ بجعلهم محلاً للمحتوى التَّافه في وسائل التَّواصل؛ بعملِ المقالبِ فيهم، أو السخرية من كثرةِ نسيانهم، أو محاولةِ إظهار جهلهم بمستجداتِ الواقعِ والتقنية؛ فإكرامُ الكَبيرِ دِينٌ ودَين، رُويَ عنه ﷺ أنَّه قال: (مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ)، ورُويَ في المقابلِ عن يحيى بن سعيد -رحمه الله- أنه قال: "بلغنا أن من أهان ذا شيبةٍ؛ لم يمت حتى يبعث الله له مَنْ يُهين شَيبه إذا شابْ!".

يا معشر الشباب: بادروا مع كباركم بالاتصالِ والوصالِ والسَّلام؛ ولا تتقدِّموا عليهم بالحديثِ والكلام؛ لما أتى أبو بكرٍ -رضي الله عنه-  بوالده عامَ الفتحِ ليُسلم؛ قالَ ﷺ: (هلاّ تركت الشيخ في بيته حتى أجيئه؟!)، وكانَ يقولُ للصحابة مُوجِّهًا: (وليُسلِّم الصَّغيرُ على الكبير)، ويقولُ ﷺ إذا اجتمعَ كبيرٌ وصغيرٌ وأرادَ الصغيرُ الكلام: (كبِّر كبِّر!).

يا معشر الشباب: لا تختبروا كبارَ السنِّ في ذاكرتهم فتحرجوهم وتؤلموهم بضعفِ ذاكرتهم وتلاشي الأسماءِ والذكرياتِ منها، وإنّما بادروا بالتَّعريفِ بأنفسكم، وأظهروا الاهتمامَ بالاستماعِ إلى أحاديثهم ولو تكرَّرت، فهو رُبّما يَعلمُ بتكرارها وترداده لها، ولكنَّه لم يتبقَ من ذاكرته ليشارككم الأحاديث إلا هذه الذكريات؛ فلا تُفسدوا هذه الرغبةَ بالمشاركة بإظهارِ التضجّر من تكرار هذا الحديث؛ فضلاً عن التَّصريحِ بالمللِ منه، بل أحاديثُ هؤلاء الكبار ممَّا يَصدقُ فيه قولُ القائل:

يُعادُ حديثه فيزيد حسنًا *** وقد يُستقبحُ الشيء الـمُعادُ!

يا معشر الشباب: لا تظهروا لكبار السنِّ شفقةً عليهم؛ فهم ليسوا بحاجةٍ إلى ذلك، وإنّما ما يحتاجون إليه هو الاحترام والتوقير الذي يَليقُ بمكانتهم وخبرتهم العريضة في رحلةِ الحَياةِ وسبقهم لنا في سلوكِ طريقِ الطاعةِ والعَبادة.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه غفور رحيم.

point.pngpoint.pngpoint.png

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

كأنِّي بكبارنا -حفظهم الله- تَعتلجُ في صدورهم حَسراتُ الندمِ على فواتِ الشباب، وتخرجُ منهم زفراتُ الهمِّ من تقدِّم العُمر، ولسانُ حالهم:

ولقد بكيتُ على الشبابِ ولُـمّتي *** مُسوّدةٌ ولماءِ وجهي رَونقُ

حذرًا عليه قبلَ يومِ فراقهِ *** حتى لكدتُ بماءِ جفني أَشرقُ!

ولكن يا كبارنا: لا تحزنوا من تقدّم سنكم وذهابِ شبابكم؛ فهذا العمر كلُّه شَاهدٌ لكم عندَ اللهِ، وأنتم خيرُ النَّاسِ إذا أحسنتم العَمل؛ سأل أعرابيٌّ النبيَّ ﷺ فقال: يَا رَسُولَ اللهِ ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: (مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ).

يا كبارنا: لا تحزنوا لظهورِ شعراتِ الشَّيب عليكم؛ فإنَّ هذا الشعرات المنيرة، تزيدكم بهاءً وجمالاً في الدُّنيا، وتضيء لكم وترفعُ درجاتكم غدًا في الآخرة، في الحديث الصَّحيح: (الشَّيبُ نور المؤمن، لا يَشيبُ رجلٌ شيبةً في الإسلامِ إلا كانتْ له بكلِّ شيبةٍ حسنة، ورُفعَ بها دَرجة).

يا كبارنا: لا تحزنوا على ما أصابكم من الأمراض والأدواء وكثرة مراجعة العيادات والأطباء؛ فإنَّ هذا لا يَضيعُ عندَ الله، وستجدونه مثقلاً لحسناتكم وماحيًا لسيئاتكم إن احتسبتموه، وستنسيكم أولُ غمسةٍ في أنهارِ الجنّة -بإذن الله-كلَّ ألمٍ ومرضٍ قد مرَّ بكم في الدُّنيا، وتعودون فيها في كاملِ قوتكم وشبابكم أبناءَ ثلاثٍ وثلاثين؛ فاصبروا واحتسبوا.

يا كبارنا: إن ماتَ بعضُ أصدقائكم أو أحبابكم أو زوجاتكم؛ فلا تكرهوا الحَياة ولا تتمنّوا لذلك الموت، فإنَّ في اللهِ ربِّكم أُنسًا عَنْ كلِّ ذاهب، وفي طاعتهِ عوضًا عن كلِّ فائت؛ فأنسوا بالله يُؤنسكم، واستغنوا باللهِ يشرح صدروكم.

يا كبارنا: استمروا على ما أنتم عليه من الإقبالِ على الطَّاعة، وجدّدوا التوبة، وأبشروا بالخيرِ مِنْ ربٍّ رحيمٍ؛ فإنَّ من عادةِ الملوك إذا كبر عبيدهم في خدمتهم أن يكرموهم بعتقهم، واللهُ أبرُّ بعباده وأكرم، ورحمتهُ منكم بإذن الله أدنى وأقرب:

إنَّ الملوك إذا شابتْ عبيدُهُمُ *** في الرقِّ عتقوهم عتقَ أبرارِ

وأنتَ يا سيدي أولى بذا كرمًا *** قَدْ شبتْ في الرقِّ فاعتقني من النَّارِ!

هذا وصلّوا وسلّموا على من أمركم الله بالصلاةِ والسَّلامِ عليه....

 

المرفقات

1728630232_احترام الكبير عبادة ربانية لا عادة اجتماعية.docx

1728630233_احترام الكبير عبادة ربّانية وليس عادة اجتماعية.pdf

المشاهدات 700 | التعليقات 0