القول على الله بغير علم ... خطبة في زمن بات فيه الدين كلأ مباحا لكل عابث

عبدالرحمن اللهيبي
1440/11/09 - 2019/07/12 04:49AM

هذه الخطبة جُمعت بتصرف نسأل الله تعالى أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم

أما بعد ، أيَّها المسلمون :  فإن من مظاهرِ غربة الدين في هذا الزمان ، أن استهان كثيرٌ من الناسِ بالكلام في الحلالِ والحرام, والحديث في مسائل الشريعة من غير علم ولا هدى ولا بصيرة, وتصدَّر للإفتاءِ في كثير من القنوات الإعلامية والصحف المحلية والمنتديات على الشبكة العنكبوتية , جماعةٌ من الجهلة المتعالمين في جرأةٍ بالغة ، متناسين ذلك الوعيدَ الشديد ، الذي يُزلزلُ القلوبَ الحية, ويتهددُ المُجترئين على الفتيا في المسائل الشرعية، فيقولُ الحقُ تباركَ وتعالى : (( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)) فحرم المولى ـ عز وجل ـ القول عليه بغير علم، وجعله من أعظم المحرمات، ويقولُ سبحانه : (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ))  فالتقوُّل على الشرع والكلام في مسائل الدين بغير علم من الظواهر التي انتشرت في مجتمعنا وبين الناس في المجالس أو في وسائل التوصل كتطبيق الواتس ..

إذ أسهل شيء على المرء أن يتكلم في دين الله بالحلال والحرام وذلك وربي من الآفات الخطيرة ، والآثام العظيمة , وهي تدل على الجهل وضعف الإيمان ورقة الدين، فالله تعالى يقول(( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)) وقال جل في علاه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـئُـولاً} فبالله عليك كيف تجترئ على الكلام في دين الله من غير علم ونبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن أمور وهو نبي هذه الأمة وأعلمها بكتاب الله فَيسكت ولا يجيب ويَكِلُ فيها العلم إلى الله تعالى، قال الإمام مالك: «كـان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إمـامَ المسلمـين وسيـدَ العالمين يُسألُ عـن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحيُ من السماء» فإذا كان هذا هو حال أعلم الناس بالشريعة وهو المبلغ عن الله  فكيف بمن هو دونه!!         عباد الله كلُ هذه الآياتِ الكريمات والنصوص المرويات, ضرب بها كثير من الناس في هذا الزمان عرضَ الحائط, واستخفوا بأمر ربهم ، حتى أصبحتَ ترى بعضَ المتعجٍلين ممن لا يكادُ يحفظُ شيئاً من كتابِ الله ،أو ربما لا يعرف حتى أركان الصلاة وواجباتها وشروطها , أصبحتَ تراهُ يفتي بغيرِ علم, بل ربما انتقد فتاوى العلماء وازدرى رأيهم وانتقص قولهم.. بل إنَّ بعضهم ليخوضونَ في قضايا مصيرية تتعلق بالأمة ، ويجترئون على الفتيا في مسائل مستعصية والله لو وقعت في عهدِ عمرَ t لجمع لها كبار الصحابة , بينما ذلكَ الجاهل يُصدرُ فيها رأَيهُ بكلِّ عجلةٍ وتسرع, ولا يجدُ في صدره من ذلك حرجاً, أو غضاضة .. لقد أصبح الرجل منا حين تٌعرض المسألة الشرعية في المجلس تجده يبتدر لها متحدثا فيها بالحلال أو الحرام دون أدنى تأهيل علمي أو تأصيل شرعي وهو لا يعي خطورة ما يخوض فيه ولو استشعر أنه مبلغ عن الله وأنه ينقل عن الله حكمه في هذه المسألة فكأنه يقول بأن حكم الله في هذه المسألة كذا كذا ... ولو أدرك عظمة الله وجلاله ما تحدث بحرف في شرعه من غير علم

والله لقد رأينا هؤلاء المجترئين على الفتيا في مجالسنا وقرأنا لهم في صحفنا واستمعنا لهم في قنواتنا فتجد ذلك يُفتي بل قد يطعن في صحة البخاري ومسلم وهو كاتبٌ صحافي, وذاك يُفتي وهو لاعبُ كرة وآخر يفتي وهو ممثل أو مطرب...

 والقائمة تطول من هؤلاء المرتزقة الذين صدرهم الإعلام وجعلهم نجوما وأعلاما وما هم إلا من الرويبضة الذين أخبر عنهم المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال ((سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ ))

والله لقد ابتلينا في هذا الزمن بكثير من هؤلاء الرويبضة من  كتاب الصحف ورواد الفضائيات ومشاهير وسائل التواصل حيث خاضوا في المحكمات الدينية , والمسلمات المرعية ، وتسوروا محراب العلم على أهله , فهذا يفتي بجواز الغناء , وذاك يفتي بإباحة السفور , وآخر يبيح الاختلاط .. , وعبثوا بالمصطلحات الشرعية وسموا الأشياء بغير اسمها تدليسا وتزييفا للحقائق فالربا يسمونه فوائد وضرورة اقتصادية، والخمر مشروبات روحية، والحجاب تخلف ورجعية , والغناء والرقص فن وحضارة ,وقرار المرأة في المنزل لرعاية الجيل البشري الثمين تعطيل لنصف المجتمع وتنفس برئة واحدة , والحدود الشرعية عقوبات وحشية ..

ووعظ الناس عن الحرام وتذكيرهم بالآخرة خطاب ديني متشنج , وتذكير الناس بالموت والقبر نشر لثقافة الرعب والموت ، ورد الباطل من الآراء المخالفة للشرع مصادرة وإقصاء لآراء الآخرين , وإنكار ما تأتي به الطوائف المخالفة من البدع والخرافات منافٍ للتعددية الفكرية , ورفض العري والتفسخ جمود وانغلاق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض وصاية على الآخرين واعتداء على الحريات الشخصية، وقصر الثوب وإعفاء اللحية والاستياك بالمسواك سلوك غير حضاري, وهذا كله ليس تهويلا من عندي أو مبالغة مني  بل هذا ما نقرأه ونشاهده في الصحف والفضائيات ووسائل التواصل, فبالله عليكم ماذا تركوا من شعائر الدين دون لمز وسخرية واستهزاء

ثم أين احترام التخصص الذي ينادي به هؤلاء الكتاب , هل يسمح لرجل يطبب الناس وهو ليس بطبيب ,أو يهندس المباني وهو ليس بمهندس  بالتأكيد لا , وذلك من أجل حماية  أبدان الناس من التلف وذلك حق لا مرية فيه ..ولكن أوليست حماية الدين من التحريف والتبديل والعبث أولى من حماية الأبدان من التلف, فإن مصيبة المرء في دينه أعظم من مصيبته في بدنه .

«رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفْتِي من لا عِلْمَ لَهُ، وظهرَ في الإسلام أمرٌ عظيمٌ. قال: ولَبعض من يُفتي ها هنا أحق بالسجن من السُّراق» قال ابن القيم رحمه الله «فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس لَهُ في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب؛ وكيف الحال بأزماننا المتأخرة، وقد تجرأ في التقوُّل على الشرع من هَبَّ ودَبَّ بدون علم ولا ورع ولا أدب)  وأقول كيف إذا لو رأى ابن القيم المتعالمين في زماننا من كتاب الصحف والعامة والدهماء حتى أن بعضهم قد يطعن في صحيح البخاري وهو لا يحفظ حديثا وحدا بنصه ولا يعرف شرطا واحدا من شروط الحديث الصحيح..        ولا حول ولا قوة إلا بالله .......  

أقول قولي ....

 

أيَّها المسلمون :  لقد كانَ سلفُ هذه الأمةِ من الصحابةِ والتابعين, يتورعونَ غاية الورعِ من الفُتيا، ويُقدِّرون خُطورةَ القولِ على اللهِ بلا علم, ويودُّ الواحدُ منهم أن يكفيَه غيرُه شأن الفتيا ، فإذا رآى أنَّها قد تعينتْ عليه ، بَذَلَ وسعَهُ واستفرغ طاقتهُ في معرفةِ حكمهِا، ثم أفتى بكلِ حيطةٍ وحذر . هذا وهم من خيار علماء الأمة وأئمتها يقول ابنُ أبن ليلى : أدركتُ عشرينَ ومائة من أصحابِ رسول الله r فما كان منهم مفتٍ، إلاَّ ودَّ أنَّ أخاهُ قد كفاهُ الفتيا. وفي لفظ: «كانت المسألة تُعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخرُ إلى الآخر، حتى تعود إلى الأول»  وكذا وصفهم الإمام سفيان الثوري: «أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بُدّاً من أن يفتوا»

وقال عبدُ اللهِ بن أحمد بن حنبل : كنتُ أسمعُ أبي كثيراً يُسألُ في المسائلِ فيقولُ: لا أدري، وكثيراً ما كان يقولُ للسائلِ : سَلْ عن ذلكَ غيري . وسألَ رجلٌ الإمامَ مالكاً في مسألة, فقال :لا أدري . فقال يا أبا عبد الله تقولُ لا أدري! قال : نعم ، قال فبماذا أبلغ من ورائي ,قال فأبلغ من وراءاك أنِّي لا ادري ..

وأحسن الإمام الشافعي إذ قال: «لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمُحكمه ومتشابهه، ومكيه ومدنيه، وما أُريد به وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وبالناسخ والمنسوخ منه، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة العربية، وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويكون بعد هذا عارفا باختلاف أهل الأمصار، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلم في العلم ولا يجوز له أن يفتي».

فاتقوا الله عباد الله واحذروا من الحديث في مسائل الشريعة بدون علم ولا بصيرة فإن ذلك عند الله عظيم , واحذروا من أخذ العلم من غير أهله فكما أنك لا تستطب إلا عند طبيب حاذق فلا تتلق دينك وهو أعز ما لديك إلا من عالم عامل يوثق في دينه وعلمه فالله يقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ويقول ابن سيرين : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم

هذا وصلوا وسلموا...

المشاهدات 2000 | التعليقات 0