القولُ المُبَجَلْ - في سيرةِ أحمدِ بنِ حنبلْ
خالد علي أبا الخيل
القولُ المُبَجَلْ - في سيرةِ أحمدِ بنِ حنبلْ
التاريخ: الجمعة:14 –ذو القعدة-1439 هـ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
عباد الله: فاتقوا ربكم يُصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم.
عباد الله: لقد سطَّر التاريخ عظماء بمدادٍ من الدماء رسخت في الأذهان وانصبغت بالوجدان، إن هذه الأمة أمة الأصالة والأمجاد والريادة أمةٌ معطاء، وسجلها حافلٌ بالعظماء والعلماء ورثة الأنبياء، علماءٌ كرام وأئمةٌ عظام نجوم هدى ومصابيح دُجى، شموسٌ ساطعة ونجومٌ لامعة سطَّروا المواقف البطولية وسجلوا العلوم والحكمة الذكية، وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ودلُّوا عباد الله إلى الله.
تتعجبوا من أعمارهم تارة، وتتفكروا في أوقاتهم تارةً أخرى أهؤلاء الذين ملأوا الدنيا عِلمًا! أهؤلاء الذين كأنهم بيننا أحياء! وليت الأمر في مجالٍ واحد وتخصصٍ واحد لانتهى العجب وبطل اللهب، لكن في كل ميدانٍ وقفة، وفي كل فنٍ دُرة، وفي كل مجالٍ عِبرة تعلمًا وتعليمًا، تعبدًا وصلاحًا، دعوةً ونصحًا، حفظًا وتأليفًا، اجتهادًا وبذلًا.
فالحديث عنهم يربط الجيل الحديث بهؤلاء القوم في الجد والحديث، فيرتبط الأجيال بهؤلاء الأبطال، والحاضر بالماضي فعندها يتخرج النشء ويسيرون على النهج الصحيح، ويقتدون بسيَرهِم ومواقفهم، وعلومهم وأخبارهم، ويقتبسون من نورهم، فصفاتهم ناصعة وأخبارهم صادقة، ودروسهم نافعة، فالنفوس لحديثهم تشتاق، وأهل الهمم في أخبارهم في لحاق، فهم بسيَرهِم يبعثون الهِمة، ويقودون الأمة؛ ولهذا الحديث عنهم يُغتفر فيه التطويل، والنفوس لحديثهم يذهب عنها الملل والتحويل.
ففي جُمعتنا هذه نأخذ بطلًا من الأبطال، وعَلمٌ صال وجال، حسن الأقوال والفعال في حلقته الأولى.
فمن هؤلاء العظام والأئمة الكرام فريد العصر وزينة الدهر إنه الجبل الأشم والبدر الأتم نصر الله به دينه، وحمى به كتابه، وصان به سُنَّة رسوله، ونفع الله به أمته حبرٌ عَلم، وعِلمٌ وأثر في الفقه لا يُبارى، وفي العبادة لا يُجارى، وفي الحديث والعلل لا يُسابق، وفي الورع والتواضع والزهد لا يُلاحق، إمامٌ حجة، وقدوةٌ ومحجة في العقيدة لقبه إمام أهل السُّنَّة والجماعة، في التأصيل والتوحيد إمام، وفي التفسير واللغة بحرٌ هُمام، ذِكره شاع وذاع وملأ الفيافي والأصقاع، وتروَّت بعلومه وأخباره الأسماع، أجمعت الأمة على جلالته وإمامته وإجلاله، نادرةُ دهره وعطر زمانه قَلَّ أن يوجد الزمان بمثله، عزَّ أن تلد النساء من جنسه، وأجمعت الأمة على علو كعبه وقدره.
أتدرون مَن هو؟ وأي شخصٌ هو؟ إنه إمام القرن الثالث بلا منازع، وإمام أهل السُّنَّة والجماعة بلا ممانع، إذا ذُكِرت العقيدة فهو تاج رأسها، وإذا ذُكر الحديث وعلومه وعلله فهو دُر كوكبها، أمةٌ في رجل، وعَلمٌ على رأس جبل، إمام أهل السُّنَّة، والصابر يوم المحنة الإمام العَلم المبجَّل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل إنه العالم الرباني أبو عبد الله الشيباني قامع البدعة وناصر السُّنَّة.
قال عنه شيخه وتلميذه الشافعي $: خرجت من العراق فما خلَّفت فيه رجلًا أفضل ولا أعلم ولا أتقى لله منه، وتلك شهادةٌ جليلة من عارفٍ عالمٍ بقيله.
وقال عنه الإمام الذهبي $: عالم العصر، وزاهد الدهر، ومحدِّث الدنيا، وعَلم السُّنَّة، وباذل نفسه في المحنة قَلَّ أن ترى العيون مثله، كان رأسًا في العلم والعمل والتمسك بالأثر، ذا عقلٍ رزين، وصدقٍ متين، وإخلاصٍ مكين، انتهت إليه الإمامة في الفقه والحديث، والإخلاص والورع، وهو أَجل من أن يُمدح بكلمي أو أن أفوه بذكره بفمي. انتهى.
وقال عنه إمام الجرح والتعديل يحيى بن معينٍ $: أراد الناس منَّا أن نكون مثل أحمد لا والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد، ولا على طريقة أحمد. انتهى.
وقال عنه ابن النحاس $: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشُّبه فنفاها.
وقال عنه المحدِّث إسحاق بن راهوية $: هو حجةٌ بين الله وبين عباده في أرضه.
هذا الإمام الجليل والعالم النحرير ولِد في بغداد سنة أربعٍ وستين ومائة عاش يتيمًا، توفي والده وعمره ثلاث سنين، الله أكبر! إنه الدرس من هذه الولادة المباركة، والثروة العلمية، والهِمة القوية، إنها العصامية المثالية.
نعم العصامي الذي شرف بنفسه، فنال العُلا بكدِّه، ونبغ باجتهاده وذكائه، وفي المثال أيها الرجال: كُن عصاميًّا ولا تكن عظاميًّا أي: أُشرُف بنفسك لا بآبائك، وبالاكتساب لا بالانتساب.
يتيم الأب، لكنه علا وجدَّ وطلب، وهذا درسٌ من سيرته حيث تربى في أحضان والدته الصالحة، فربته وعلمته وأدبته الآداب الناجحة، فلم يكن فقيد الأب عائقًا، ولم يكن للأم وحدها ناقصًا مانعًا، بل المرأة مخرِّجة الأجيال، ومدرسة الأبطال، وصانعة الرجال، ألا فالتسمع النساء فتُربي البنات والأبناء على العلم والتقوى، والعفاف والحشمة والحياء، والصلاح والهدى، فالأم الصالحة مدرسة، وفي أحضانها الفوائد المنجعة.
حفَّظته أمه أعلى العلوم، وما فيه ذكاءٌ وذكاء الفهوم إنه القرآن وهو ابن عشر سنين من الزمان، كانت أمه تُلبسه اللباس الجميل، وتوقظه في الليل وتُدفئ له الماء قبل الفجر ليتوضأ، ثم تخرج معه إلى المسجد، وتجلس عند باب المسجد؛ حتى ينتهي من الصلاة لتعود هي وإياه في أمنٍ وأمان، هذا في صلاة الفجر، فكيف بغيرها كالعصر والظهر؟ وهذا من الدروس وتهذيب النفوس.
وانظر إلى هذه الأم الحنون كيف تُربيه على الصلاة؛ لعلمها أنه لا حياة، ولا نجاة، ولا سعادة، ولا تربية إلا بالصلاة، فبدونها لا عيشٌ ولا هناء، ولا تربيةٌ للأبناء، فأين الآباء والأمهات في تربية النشء على الصلاة ؟!
ولما بلغ السادسة عشرة من عمره أرسلته لطلب الحديث، ورغَّبته في طلب العلم، والأخذ من العلماء، بل وجهزته وزودته لسفره والرحلة فيه، أتدرون ماذا زودته في رحلته ذات الشهور والأعوام؟ لقد كانت لا تملك من حطام الدنيا شيئًا امرأةٌ فقيرة وضعت له ما يُقارب عشرة أرغفة، ووضعتها في جرابٍ من قماش، وقالت تلك العبارات المؤثرة والتوجيهات المؤصِّلة: يا بني إن الله إذا استودع شيئًا لا يُضيعه أبدًا استودعك الله الذي لا تضييع ودائعه، فذهب من بغداد عاصمة الدنيا في وقتها، ودار السلام في زمانها، وهاجر ورحل على صِغر سِنه وقِلة ذات يده إلى الحجاز واليمن وغيرهما، فطاف البلاد وجمع وكتب وحفظ ونفع العباد، فأقر الله عين أمه بصلاحه وعلمه وإمامته فهنيئًا في الصحيفة (أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ).
فأخذ وتتلمذ وسمع على أئمة الإسلام، سمع على سفيان، وبشرٍ، ويحيى بن معين، وهشيمٍ، ووكيعٍ، وابن مهدي، وعبد الرزاق وخلائق لا يُحصرون، كما أنه تتلمذ عليه وأخذ عنه فحول العلماء، وعظماء الدنيا: كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، وأبي زُرعة، وابن المديني، وابنيه عبد الله وصالح، وخلائق لا حصر لهم، حتى ذكر الحفاظ أنه كان يجتمع في مجلسه أكثر من خمسة ألاف.
أما إن سألت عن إنتاجه ومؤلفاته، وأثره بعد تعليمه ورحلاته فمع أن وقته وقتٌ عصيب وفتنٌ ومحن، وسجنٌ وإيذاء إلا أن له قصد السبق فألَّف أكبر مسندٍ في الدنيا، كتبه من حِفظه سندًا ومتنًا، زهاء ثلاثين ألف حديثٍ غير المكرر، وقد طُبِع في خمسين مجلد مرتبًا على مسانيد الصحابة، وأصبح مسند الإمام أحمد نارٌ على عَلم طارت به الرُّكبان، وانتشر وطُبِع ونُسِخ في جميع البلدان، قيل: انتقاه من سبعمائةٍ وخمسين ألفًا استغرق في جمعه خمسة عشرة سنة؛ ولعظمه عنده ومكانته في صدره، وإخلاصه في انتقائه وقيده، قال لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سوف يكون للناس إمامًا، وصدق $ فهو مرجعٌ ومصدرٌ من مصادر أهل الإسلام قَل حكمٌ أو مسألةٌ أو استدلال إلا والمسند يتصدر الاستدلال.
فاشتهر صيته وذاع حفظه ومدارسته ولو لم يكن للإمام أحمد إلا المسند لكفى دليلًا على علمه وطول باعه، وقد نال الإمام أحمد النَّصب والتعب في البذل والطلب، لكن من طلب العُلا سهر الليالي.
والصَّبرُ مثل اسمه مرٌّ مذاقته |
|
لكن عواقبه أحلى من العسل |
ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل ويرغب، والعبرة بالنهاية لا بالبداية.
يقول $: مضيت من بغداد إلى مكة، فضعت في الطرق ثلاث مرات، وكنت كلما ضيعت الطريق استغفرت ودعوت الله وقلت: يا دليل الحائرين دلني، قال: فوالله ما أنتهي من دعائي إلا ويدلني ربي.
ولما وصل إلى مكة والمدينة ارتشف من علوم كبار علمائها وفقهائها ومحدثيها، فأخذ وطلب وحفظ، ثم ارتحل إلى اليمن يطلب الحديث على إمامها ومحدثها عبد الرزاق الصنعاني $ وفي الطريق حصل حادثة، وفي الطريق نفذ زاده وانتهى طعامه وذهبت نفقته، فنزل إلى قومٍ يزرعون وأجَّر نفسه، ثم تابع رحلته.
ومن اليمن عاد إلى مكة، ثم إلى حمصٍ، ومن أراد الراحة ترك الراحة، ولكم أن تتخيلوا تلك الرحلة ومتاعبها، وقطع الفيافي والقفار فيها إنها عجب، إنك لا تدري أتعجب من صِغر سِنه، أم أتعجب من قِلة زاده، أم أتعجب من طول مسافة طريقه، فلا سيارة ولا طائرة، وإنما راجلًا تارةً وراكبًا تارة.
واليوم الإنسان العلم بين يديه والعلماء في مدينته، بل العلم في جيبه في التواصلات وسِعة المعلومات، وترى العجز، والإعراض والجهل، وضعف الهِمة وسوء العمل.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وكان $ على سِعة علمه وأصبح مشايخه تلاميذه إلا أنه لم ينقطع عن العلم حتى آخر حياته، وقال مقالته الشهيرة: مع المحبرة إلى المقبرة، وهكذا الطالب لا يستغني ولا ينتهي، كيف لو رأى من انعزل عن العلم وترك الطلب! بل لا يسأل عن مهمات دينه، بل يتصدر للإفتاء والتعليم لمجرد أنه حفظ أحاديث معدودة أو تخرَّج من الجامعة أو تولى منصبًا، فيتحاشى من الاستفادة لمنزلة الرياسة.
وكيف لو رأى من يقرأ أول النهار ويتصدر للناس في آخر النهار أو يُهمِّش العلماء الكبار!
أما إن أردت معرفة سعة علمه وتحصيله فاسمع علماء وقته وإشادتهم بذكره:
قال أبو عبيدة القاسم بن سلام $: لست أعلم في الإسلام مثله.
وقال إبراهيم الحربي $: رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين.
وقال عبد الملك الميموني $: ما رأت عيني أفضل من أحمد بن حنبل، وما فقهه ومسائله، ونقولاته وتلاميذه إلا دليلٌ على غزارة علمه وإدراكه.
وإن سألت عن حفظه فيُحدثك علماء وقته ومن حضره وشاهده، فقد جمع من السُّنَّة ما لم يستطع أحدٌ جمعه فهو حافظة الإسلام لسُنَّة سيد الأنام، كان يحفظ ألف ألف حديثٍ كما شهد له بذللك الإمام المحقق وصاحب الجرح والتعديل المدقق أبو زُرعة $.
قال الذهبي معلقًا: هذه حكايةٌ صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المُقرر والأثر وفتوى التابعي وما فُسِّر ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عُشر معشار ذلك. انتهى.
وقال عنه ابن المديني: ليس في أصحابنا أحفظ منه.
ولما قيل لأبي زرعة $: من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟ فقال: أحمد بن حنبل حُزرت كُتبه في اليوم الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر جملًا وعدلًا، ما كان على ظهر كتابًا منها حديث فلانٍ ولا في بطنه حدثنا فلانٌ، وكل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلب. انتهى.
ومع علمه وحفظه وبروزه وذكره، وشهادة أقرانه له إلا أنه كان بعيدًا عن الشهرة والتصدر والرفعة، حتى قيل: إنه لم يجلس للتدريس إلا بعد الأربعين من عمره كما قاله ابن الجوزي في مناقبه، وكان لا يُحدِّث إلا من كتاب خشية الخطأ والزلل مع قوة حافظته وشدة عارضته، وكان لا يسمح بتدوين فتاواه، وينهى عن الكتابة عنه، ومع ذلك كله وشدة ورعه وزهده إلا أن المخلص يُظهِر الله علمه وأثره، نشر فضله، ونصره وأعزه وتصدرت إمامته $ فقيل: أجاب عن ستين ألف مسألة ب قال الله وقال رسوله ﷺ، وقال أصحابه رضي الله عنهم
وكان لورعه في العلم وإجلاله لأهل العلم يقول: إياك أن تتكلم في مسألةٍ ليس لك فيها إمام، كل ذلك حرصًا منه على الورع والنغط والتألي، والإجلال للعلماء والتروي، بل اسمع قرينه وجليسه عنه قال يحيى بن معين $: صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيءٍ مما كان فيه من الصلاح والخير.
الله أكبر! إنه التواضع للعلم وطلابه، والبعد عن الشهرة والبروز والإخلاص لله، فأين من حفظ حديثًا أو حديثين ويُعارض ويُصنِّف، ويجرح ويُعدِّل، ويُخطئ ويُصوِّب، ويتصدر ويُفتي، ويرمي بقول العلماء عرض الحائط، بل يغتابهم ويسخر بهم، ويُهمِّش أقوالهم، وكأن علمه وحيٍّ نزل عليه؟!
هذا وجوانب سيرة هذا الإمام لا تنتهي، ومآثره وعلومه لا يستغني عنها المنتهي فضلًا عن المبتدي؛ ولقصر المقام فللحديث حلقةٌ ثانية في الجمعة القادمة -بإذن الله- في جوانب أخرى، ومناقب تترى.
هذا وصلوا وسلموا على النبي المرتضى كما أمركم ربكم جلَّ وعلا (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(الأحزاب:56).
ونؤمِن أنك خير الورى |
|
ومسكَ الحياة وخير الأنَام |
تفيض بحبك أرواحنا |
|
عليك الصلاة عليكَ السلام |