القول السديد في بيان صفات الشهيد
الشيخ السيد مراد سلامة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وسلم، حامل لواء العز في بني لؤي، وصَاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المؤيد بجبريل، المعلم الجليل، صلى الله وسلم عليه كلما تضوَّع مسك وفاح، وما غرد حمام وصاح، وكلما سجى بلبلٌ وناح، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته مرة ثانية و ثالثة .
يقول جل في علاه - { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم } ( فصلت 10 - 13 )
عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة من دمه - أو يرى مقعده من الجنة - ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، يشفع في سبعين من أقاربه (1)
العنصر الثاني صفات الشهيد
أمة الإسلام إن الشهادة منزلة عالية ومكانة سامية كما ذكرنا أنفا و للشهادة في سبيل الله مؤهلات و صفات فليس كل أحد ينال تلك المنزلة و لا يصل إلى هذه المكانة و إليكم عباد الله بعض هذه الصفات
الصفة الأولى: الإيمان والصدق العميق
الإيمان الذي هو المحرك للمشاعر والأعضاء الذي يدفع المرء إلى بذل مهجته في سبيل إعلاء كلمة الحق
إيمان بانه على الحق
إيمان بان واجبه نصرة ذلك الحق
إيمان بما وعد الحق جل جلاله
عن أبي موسى قال سئل النبي {صلى الله عليه وسلم} عن الرجل يقاتل شجاعة ً ويقاتل حمية ً ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا في حديث ابن المثنى لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله(2)
الواقع التطبيقي لهذه الصفة
وتأملوا عباد الله إلى الإيمان العميق كيف يسمو بصاحبه إلى درجة الشهادة:
عن شداد بن الهاد - رضي الله عنه - قال: جاء رجل من الأعراب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه , ثم قال: أهاجر معك , " فأوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه , فلما كانت غزوة , " غنم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيا , فقسم , وقسم له , فأعطى أصحابه ما قسم له " , وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه , فقال: ما هذا؟ , قالوا: قسم قسمه لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟ , قال: " قسمته لك " , فقال: ما على هذا اتبعتك , ولكني اتبعتك على أن أرمى بسهم هاهنا - وأشار إلى حلقه - فأموت فأدخل الجنة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن تصدق الله يصدقك " , فلبثوا قليلا , ثم نهضوا في قتال العدو , فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحمل , قد أصابه سهم حيث أشار , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أهو هو؟ " , قالوا: نعم , قال: " صدق الله فصدقه , ثم كفنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جبته , ثم قدمه فصلى عليه , فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك , خرج مهاجرا في سبيلك , فقتل شهيدا , أنا شهيد على ذلك(3)
أنس بن النضر (رضي الله عنه) .
عن أنس بن مالك قال : غاب عمي أنس بن النضر ، عن قتال بدر فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين : لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد أنكشف المسلمون ، قال :اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد ، قال : سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس : فوجدنا بضعا وثمانين ضربه بالسيف أو طعنه بالرمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ، ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه (4)
الصفة الثانية: الثبات والإقدام
ومن صفات الشهداء أنهم يثبتون في ميدان المعركة ولا يولون الأدبار لإيمانهم بقول العزيز الجبار {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) } [الأنفال: 45]
يقول الشيخ محمد رشيد رضا- رحمه الله- والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار ، وكذا البغاة في القتال فاثبتوا لهم ، ولا تفروا من أمامهم - ولم يصف الفئة للعلم بوصفها من قرينة الحال ، وهي أن المؤمنين لا يقاتلون إلا الكفار أو البغاة - فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت هي السبب الأخير للنصر والغلب بين الأفراد أو الجيوش : يتصارع الرجلان الجلدان فيعيا كل منهما ، وتضعف منته ، ويتوقع في كل لحظة أن يقع صريعا فيخطر له أن خصمه ربما وقع قبله فيثبت ، حتى يكون بثبات الدقيقة الأخيرة هو الصرعة الظافر (5)
الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق (ص: 271)
الواقع التطبيقي لهذه الصفة
- «أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب
عن البراء بن عازب-رضي الله عنهما-أنه قال لرجل قال له: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟
فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة. فرموهم برشق من نبل. كأنها رجل من جراد. فانكشفوا. فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته. فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: «أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب. اللهم نزل نصرك». قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به. وإن الشجاع منا للذي يحاذي به- يعني النبي صلى الله عليه وسلم)(6)
ثبات الشهداء بمعركة اليمامة
وتقدم خالد - رضي الله عنه - بالمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يشرف على اليمامة فضرب به عسكره، واصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد، وهموا بقتل أم تميم حتى أجارها مجاعة، وقال: نعمت الحرة هذه، وقد قتل الرَّجَّال بن عنفوة لعنه الله في هذه الجولة قتله زيد بن الخطاب، ثم تذامر الصحابة بينهم وقال ثابت بن قيس بن شماس: لبئس ما عودتم أقرانكم ونادوا من كل جانب: أخلصنا يا خالد، فخلصت ثلة من المهاجرين والأنصار وحمى وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يعهد مثله، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه وهو حامل لواء الأنصار بعدما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتًا حتى قتل هناك.
وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن تؤتى من قبلك؟
فقال: بئس حامل القرآن أنا إذًا.
وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قدمًا. وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيدًا - رضي الله عنه -.
وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال، وحمل فيهم حتى أبعدهم، وأصيب - رضي الله عنه -، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم وسار لقتال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ثم وقف بين الصفين ودعا البراز، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه، وجعل لا يبرز له أحد إلا قتله ولا يدنو منه شيء إلا أكله، وقد ميز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بنى أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبر الصحابة في هذه المواطن صبرًا لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم وولى الكفار الأدبار واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم محكم اليمامة -وهو محكم بن الطفيل لعنه الله- بدخولها فدخلوها وفيها عدو الله مسيلمة لعنه الله، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم وأحاط بهم الصحابة. (7)
الصفة الثالثة: الشجاعة
ومن صفات الشهداء أنهم لا يهابون ولا يخفون يخوضون معمعة القتال ببسالة وشجاعة لا نظير لها حالهم كما قال قطري:
ويقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -وهو من أبطال الأمة وشُجعانها: "لقد رأيتُنا يوم بدر ونحن نلُوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربُنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يَومئذ بأسًا"؛(9)
وقد حثَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم -أمَّته على الشجاعة، وجعَلها مَجلبة لحب الله ورضاه؛ يقول -صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة يُحبُّهم الله - عز وجلَّ - وذَكَر منهم: ورجل كان في سريَّة، فَلقوا العدوَّ، فهُزِموا، فأقبَل بصدره؛ حتى يُقتلَ، أو يَفتحَ الله له))(10)
يَقول السموْءَل:
وإنَّا لَتَسْتَحْلِي المَنَايا نُفُوسُنا وَنَتْرُكُ أُخْرَى مُرَّةً لا نَذُوقُهَا
ويَقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سيِّد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمَره ونهاه، فقتَله))؛ مُسند أبي حنيفة)(11)
الواقع التطبيقي
الزبير يوم اليرموك.
يقول ابن كثير -رحمه الله-: (وقد كان فيمن شهد اليرموك الزبير بن العوام وهو أفضل من هناك من الصحابة وكان من فرسان الناس وشجعانهم فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ فقالوا :ألا تحمل فنحمل معك ، فقال : أنكم لا تثبتوا فقالوا : بلي فحمل وحملوا : فلما واجهوا صفوف الروم أحجموا وأقدم هو فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الأخر وعاد إلى أصحابه ، ثم جاء وإليه مرة ثانية ففعل كما فعل في الأولى وجرح يومئذ جرحين بين كتفيه وفي رواية جرح ، وقد روي البخاري معني ما ذكرناه في صحيحة . (12)
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد:
شجاعة نادرة. وقصة أعجب من الخيال:
وانظر- بربك - ما فعل هذا المغوار الذي يعدل جيشًا بأسره قبل معركة القادسية , بعث سعد طلحة بن خويلد وعمرو بن معدي كرب الزبيدي في غير قوة من خيل، كالطليعة في دورية استكشافية، فكان طليحة وحده مكلفًا بعسكر رستم، وكان عمرو في خمسة من أصحابه مكلفًا بعسكر جالينوس، وأمرهم أن يصيبوا له رجلاً منهم ليستخبره، فلما تجاوز طليحة وعمرو قنطرة القادسية لم يسيروا إلا فرسخًا وبعض فرسخٍ - حوالي سبعة كيلو مترات - حتى رأوا خيلاً عظيمةً، وقوات المجوس تتحرك بسلاحها قد ملئوا الطفوف , قال بعضهم : ارجعوا إلى أميركم فإنه سرحكم، وهو يرى أن القوم بالنجف، فأخبروه بالخبر، وقال بعضهم : ارجعوا، لا ينذر بكم عدوكم , فقال عمرو : صدقتم، وقال طليحة : كذبتم، ما بُعثتم لتخبروا عن السرح، وما بعثتم إلا للخبر، قالوا: فما تريد ؟ قال : أريد أن أخاطر القوم أو أهلك فقالوا : أنت رجل في نفسك غدر، ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن؛ فارجع بنا. فأبى، ثم فارقهم يريد معسكر رستم في مغامرة خطيرة (تاريخ الطبري) «ومنذ فارق طليحة عمرًا وهو يعمل للدخول إلى قلب معسكر رستم بمفرده، مع العلم أن معسكر رستم يضم ثمانين ألف مقاتل، ومثلهم من الخدم والحرس الخاص، ولكنها شجاعة وجرأة بطل الأبطال طليحة فقد مضى يعارض المياه المنبثقة من الأنهار حتى دخل عسكر رستم، دخله في ليلة مقمرة، وبات ليلة يتخبر، وكان يحب الخيل كعاشق للفروسية فرأى فرسًا لم ير مثلها في خيل رستم، ورأى فسطاطًا أبيض لم ير مثله، فامتشق حسامه (سيفه) فقطع به مقود ذلك الفرس ثم ربطه إلى مقود فرسه، ثم مشى بفرسه وخرج يعدو به، وأحس الفرس بما حدث فتنادوا، وركبوا الصعبة والذلول،وتعجل بعضهم فلم يسرج فرسه، وخرجوا يجدون في أثره. ولحقه فارس منهم مع الصباح، فلما أدركه صوب إليه رمحه ليطعنه عدل طليحة فرسه ومال به عن تصويب الفارسي، فانصب الفارسي بين يديه وصار أمامه، فكر عليه طليحة وطعنه برمحه فقصم ظهره، وانطلق يعدو بفرسه، فلحق به أعجمي آخر ففعل به مثل ما فعل بالأول وانطلق يعدو، فلحق به ثالث وقد رأى مصرع صاحبيه، وهما ابن عمه فازداد حنقًا، فلما لحق بطليحة وبوأ له الرمح ليطعنه عدل طليحة فرسه فانصب المجوسي أمامه، وكر عليه طليحة وقد شرع رمحه ودعاه إلى الأسر، وأدرك المجوسي أنه مقتول فاستسلم، وكانا قد اقتربا من معسكر المسلمين، فأمره طليحة أن يركض بين يديه، وهو يسوقه من خلفه برمحه، وهو على فرسه فامتثل للأمر. وأقبل جمع آخر من العجم يجدون في آثارهما فرأوا فارسيهم وقد قتلا، وشاهدوا الثالث يركض مستسلمًا أمام طليحة، وقد أوشكا على دخول معسكر المسلمين فأحجموا ونكصوا، ثم عادوا من حيث أتوا. وجاء طليحة على فرسه يسحب وراءه الفرس التي غنم، وأسيره يعدو بين يديه، ودخل عسكر المسلمين ففزعوا منه، ثم أجازوه حين عرفوه، فدخل على سعد. قال له سعد: ويحك، ما وراءك؟ قال طليحة: دخلت عسكرهم وجستها منذ الليلة، وقد أخذت أفضلهم توسمًا، وما أدري: أصبت أم أخطأت، وها هو ذا فاستخبره» .
لم أر ولم أسمع بمثل هذا:
واستدعى - سعد بن أبي وقاص - المترجم ليقوم بالترجمة بين الاثنين،فقال الأسير الفارسي : أتؤمنني على دمي إن صدقتك؟ قال سعد : نعم، الصدق في الحرب أحب إلينا من الكذب , قال الأسير الفارسي : أخبركم عن صاحبكم هذا -يعني طليحة- قبل أن أخبركم عمن قبلي , باشرت الحروب وغشيتها وسمعت بالأبطال ولقيتها ومنذ أنا غلام إلى أن بلغت ما ترى، ولم أر ولم أسمع بمثل هذا أن رجلاً قطع عسكرين لا يجترئ عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفًا، يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة، إلى ما هو دون، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فارس الجند، وهتك أطناب بيته، فأنذره فأنذرنا به، فطلبناه فأدركه الأول وهو فارس الناس، يعدل ألف فارس فقتله، فأدركه الثاني وهو نظيره فقتله، ثم أدركته و أظن أنني خلفت بعدي من يعدلني، وأنا الثائر بالقتيلين وهما أبناء عمي، فرأيت الموت فاستأسرت، ثم أخبر سعدًا عن أهل فارس بأن الجند عشرون ومائة ألفٍ، وأن الأتباع مثلهم خدام لهم؛ ورغب الأعجمي في الإسلام فأسلم بمحض إرادته، فسماه سعد مسلمًا، فكان يوم القادسية وغيرها من أهل البلاء، فقد استفاد منه المسلمون لخبرته بأرض فارس؛ ولأنه فارسي يعدل بألف.(13)
الصفة الرابعة: أنهم رهبان ليل
ومن صفات الشهداء والمجاهدين أنهم رهبان ليل إذا جن عليهم الظلام يقومون بين يدي رب الأنام
الواقع التطبيقي لهذه الصفة
* هذا سيدنا عباد بن بشر في غزوة ذات الرقاع تناوب هو وعمار بن ياسر الحراسة، وكانت النوبة على عباد بن بشر ، فأتى رجل من المشركين فضربه بسهم من الخلف وهو يصلي، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فلما ضربه بالسهم الثالث استيقظ عمار وولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عباداً وقال: يرحمك الله! ما الذي منعك من أول سهم أن توقظني؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها.(15)
وهذا عبد الله بن المبارك كان في غزوة من الغزوات فتلثم وغطى وجهه، ودعا داعي الروم: من يبارز؟ فخرج عبد الله بن المبارك في لثامه، فقتل فارس الروم، ثم قتل الثاني والثالث والرابع، فتعجب الناس من بطولته، فأتى إليه رجل ورفع لثامه فإذا هو عبد الله بن المبارك وما كانوا يظنون أنه عبد الله المبارك ، فقال لمن رفع لثامه: وأنت ممن يشنع علينا يا أبا عمرو!
وكان محمد بن أعين رفيقاً لـعبد الله بن المبارك في غزواته كلها، وكان كريماً عليه، قال محمد بن أعين : فذهب ليرني أنه ينام، قال: فوضعت رأسي على رمح، وذهبت أريه أني نائم، فلما ظن أني قد نمت قام فصلى إلى قبل طلوع الفجر، ثم أيقظني عند الفجر، فقلت له: إني لم أنم الليلة، فعرفت الغضب في وجهه، وما زال مجافياً لي إلى الممات.
الصفة الخامسة: التضحية والبذل
و من صفات الشهداء التضحية و البذل اعني بذل النفس في سبيل الله فه قوم باعوا انفسهم لله تعالى و جعلوا ثمنها الجنة قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 111]
يقول ابن القيم –رحمه الله-
فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وأن لها شأنا فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار وقالوا والله لا نقيلك ولا نستقيلك
فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل له مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معا ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضل(16)
الواقع التطبيقي هذه الصفة
البراء وحديقة الموت
يقول الذهبي-رحمه الله -: بلغنا أن البراء يوم حرب مسيلمة الكـذاب أمر أصحــابه أن يحمــلوه على ترس على أسنة رماحهم، ويلقوه في الحديقة فاقتحم إليهم وشد عليهم وقاتلهـم حتى فتــح باب الحديقة فجرح يومئذ بضعة وثمانين جرحا، ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهرا يداوي جراحه حاله.(17)
سقيناهموا كأسا سقونا بمثلها ولكننا كنا علي الموت أصيرا .
من يبايع على الموت؟
وعن سيف بن عمر عن أبي عثمان عن أبيه (رضي الله عنه) قال : قال عكرمة بن أبي جهل (رضي الله عنه) يوم اليرموك ، قاتلت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) في مواطن وأفر منكم اليوم ، ثم نادي : من يبايع علي الموت ؛ فبايعه عمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور (رضي الله عنهما) في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم قدام فسطاط خالد رضي الله عنه حتى أثبتوا جميعا جراحا وقتل منهم خلق منهم ضرار ابن الأزور - رضي الله عنه- قال الذهبي : قال أبو إسحاق السبيعي : نزل عكرمة يوم اليرموك فقاتل قتالا شديدا ، ثم استشهد فوجـــدوا به بضعــا وسبعين من طعنة ورمية وضربة .( ([1])
18
الساعة أكفي المسلمين شره
ذكروا أنه كان للعرب فارس يقال له ابن فتحون، وكان أشجع العرب والعجم في زمانه.
وكان المستعين يكرمه ويعظمه ويجري له في كل عطية خمسمائة دينار. وكانت جيوش الكفار تهابه وتعرف منه الشجاعة، وتخشى لقاءه. فيحكى أن الرومي كان إذا سقى فرسه ولم يشرب يقول له: ويلك لم لا تشرب هل رأيت ابن فتحون في الماء، فحسده نظراؤه على كثرة العطاء ومنزلته من السلطان. فوشوا به عند المستعين فأبعده ومنعه من عطائه، ثم إن المستعين أنشأ غزوة إلى بلاد الروم فتقابل المسلمون والمشركون صفوفا، ثم برز علج إلى وسط الميدان ونادى وقال: هل من مبارز؟
فبرز إليه فارس من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله الرومي، فصاح المشركون سرورا، وانكسرت نفوس المسلمين، وجعل الكلب الرومي يجول بين الصفين وينادي: هل من اثنين لواحد؟ فخرج إليه فارس من المسلمين فقتله الرومي. فصاح الكفار سرورا، وانكسرت نفوس المسلمين، وجعل الكلب يجول بين الصفين وينادي ويقول: ثلاثة لواحد، فلم يجترئ
أحد من المسلمين أن يخرج إليه، وبقي الناس في حيرة، فقيل للسلطان: ما لها إلا أبو الوليد بن فتحون فدعاه وتلطف به، قال: الساعة أكفي المسلمين شره، فلبس قميص كتان واستوى على سرج فرسه بلا سلاح وأخذ بيده سوطا طويلا، وفي طرفه عقدة معقودة، ثم برز إليه فتعجب منه النصراني. ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه فلم تخطأ طعنة النصراني سرج ابن فتحون. وإذا ابن فتحون متعلق برقبة الفرس، ونزل إلى الأرض لا شيء منه في السرج، ثم انقلب في سرجه وحمل على العلج، وضربه بالسوط فالتوى على عنقه فجذبه بيده من السرج فاقتلعه، وجاء به يجره حتى ألقاه بين يدي المستعين. فعلم المستعين أنه كان قد أخطأ في صنعه مع أبي الوليد بن فتحون فاعتذر إليه، وأكرمه، وأحسن إليه، وبالغ في الإنعام عليه، ورده إلى أحسن أحواله، وكان من أعز الناس إليه»)*([2])(19)
الدعاء
الهوامش
==============
********************
(1) أخرجه أحمد (4/131، رقم 17221)، والترمذي (4/187، رقم 1663 (2) أخرجه: البخاري 1/42 (123)، ومسلم 6/46 (1904) (149) و(150).
(3) صححه الألباني في (س) 1953، وصحيح الترغيب والترهيب: 1336
(4) أخرجه البخاري جـ7/354-355 ومسلم، وأخرجه الطيالسى (ص 272، رقم 2044)، والترمذي (5/348
(5) تفسير المنار (10/ 20)
(6) البخاري-الفتح 7 (4317). ومسلم (1776) واللفظ له.
(7) البداية والنهاية: 6/ 329.
(8) الجهاد؛ لابن أبي عاصم، رقم (250)
(9) مسند أحمد، رقم (654).
(10) النسائي، رقم (2570)؛ مسند أحمد، رقم (21355).
(11) رواية أبي نُعيم، (1/ 187).
(12) البداية والنهاية جـ4 ص16 .
(13) (القادسية لبشاميل)
(14) البداية والنهاية ط إحياء التراث (7/ 20)
(15) إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع (1/ 199)
(16) مدارج السالكين (3/ 9)
(17) سير أعلام النبلاء (1/ 196)
(18)) السير للذهبي ح 3 ص193، و الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء - (3 / 285)
(19) (المستطرف (1/ 313-314).
المرفقات
السديد-في-بيان-صفات-الشهيد
السديد-في-بيان-صفات-الشهيد