القوة في الإسلام
فهد عبدالله الصالح
الحمد لله القوي العزيز، الفعال لما يريد، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من سار على نهجه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله - أيها المسلمون - ففي تقوى الله الفرج من كل هم والمخرج من كل ضيق, وصلاح أمر الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة: حديث عظيم القدر, جامع للأمر، معالج للهم والغم موجه للأمة والأفراد، أخرج الإمام مسلم في صحيحه وابن ماجة في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف, وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وان أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان).
إن الإيمان - أيها الإخوة - حين يتمكن من القلوب, فهو معين لا ينضب من لنشاط المتواصل والعمل الدؤوب والحماس الذي لا ينقطع.
إن صدق الإيمان والمعتقد وصحتهما تضيفان على صاحبهما قوة تظهر في أعماله كلها، فإذا تكلم كان واثقاً وإذا عمل كان ثابتاً وإذا جادل كان واضحاً وإذا فكر كان مطمئناً لا يعرف التردد ولا تتمايل به الرياح، يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها وفي الآيات الكريمات: ﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾ ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ ﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾، إنه آخذ بعزيمة لا رخاوة معها لا قبول لأنصاف الحلول ولا هزال ولا استهزاء، هذا هو عهد الله مع أنبيائه الكرام عليهم الصلاة والسلام ومع المؤمنين الأبرار جد وحق وصراحة ووضوح.
هذا جانب من القوة في رجل الإيمان، وجانب آخر - معاشر المسلمين - يتمثل في ثبات الخطى، حين يكون المؤمن مستنير الدرب، يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إذا رآهم على الحق أعانهم، وإن رآهم على الخطأ جانبهم ونأى بنفسه عن مسايرتهم، متمثلاً التوجيه النبوي المروي (لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا)، إنه توطين للنفس وقسر لها على المسار الصحيح لا التحاكم إلى الأعراف والتقاليد التي لا تستند إلى شرع وإنما متابعة للغير، كما حكي الله عن قوم ضلوا بقوله تعالى ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾.
ينضم إلى ذلك - أيها الإخوة - القوة في الحق والقوة في المصارعة فيه حين يبتعد المؤمن القوى عن المداهنة والمجاملة المذمومة، فتراه يواجه الناس بقلب مفتوح ومبادئ واضحة، لا يصانع على حساب الحق، ومن يحيا بالحق لا يتاجر بالباطل، المؤمن القوي غني عن التستر بستار الدجل والاستغلال أو الاسترزاق على حساب الحق والمبادئ، سيرته مبنية على ركائز ثابتة من القوة والفضيلة والكمال.
ومن أجل هذا فإن الصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبثق من هذا السمو النفسي ومن القوة الإيمانية وقوة الاستمساك بالحق والرضا به ولو كره الكافرون وفي الحديث (ولَتأخذُنَّ على يد الظالم ولتأطرُنّه على الحق أطراً) رواه الترمذي.
إنها قوة في مصارعة المخالفين وتنبيه الخاطئين، إنها نقد مع الاحترام لا خوف على الآجال والأرزاق، ولا حياء من قريب ولا خجل من صديق وبعبارة جامعة مانعة: لا تأخذه في الله لومه لائم.
ويقترن بذلك - أيها الإخوة - نوع من القوة آخر، إنه القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة التي تنشأ من كمال السجايا وحميد الخصال، كإباء الضيم وعزة النفس والتعفف وعلو الهمة، وإنك لترى فقيراً قليل ذات اليد ولكنه ذو إرادة قوية ونفس عازمة، شريف الطبع نزيه المسلك بعيد عن الطمع والتذلل.
إن القوة في ضبط النفس، أخذة بصاحبها بالسير في مسالك الطهر ودروب النزاهة والاستقامة الجادة، أما الرجل الخرب الذمة الساقط المروءة فلا قوة له ولو لبس جلود السباع ومشي في ركاب الأقوياء، وقد قال هود عليه السلام لقومه آمراً لهم بالاستغفار، والبعد عن مزالق الخاطئين ﴿ (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) ﴾، وابن آدم إذا انحرف فقد يتعرض للعنة أهل الأرض والسماء ويكون في ضعفه وحقارته أقل من الذرة والهباء، ولمثل هذا جاء الحديث الصحيح (ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، وقد قال بعض أهل العلم في هذا الباب: إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو, وإذا ملك الإنسان نفسه فقد قسر شيطانه.
أما القوة العسكرية فمطلب في الشريعة معلوم وفي التنزيل ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾، إنها القوة التي تحفظ الإسلام وأهل الإسلام وتوجه للمعتدين الكفار.
وفي مجالات القوة - أيها الإخوة - يكون الخير وتكون المحبة الإلهية (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، وأما قوله صلى الله عليه وسلم (استعن بالله ولا تعجز)، فإنه يمثل صورة أخرى من صور القوة إنها قوة العزم والأخذ بالأسباب على وجهها، يستجمع المؤمن في ذلك كل ما يستطيع في سبيل تحقيق غاياته، باذلاً قصارى جهده في بلوغ مآربه غير مستسلم للحظوظ (استعن بالله ولا تعجز).
إن المرء مكلف بتعبئة قواه وطاقاته لمغالبة مشكلاته إلى أن تنزاح عن طريقه فإذا استطاع تذليلها فذلك هو المراد وما وراء ذلك فيكله إلى ربه ومولاه، أما التردد والاستسلام للهواجس وتغليب جوانب الريب والتوجس فهذا مجانب للقوة ولصدق العزيمة, فالقوة في الجزم والحزم والأخذ بكل العزم، لهذا كان من أعظم المصائب الهدامة: العجز والكسل والجبن والبخل إنها صور من صور الضعف والخور وقد استعاذ منها جميعاً نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في دعاء رفعه إلى مولاه قائلاً (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) رواه البخاري في صحيحه إنها كلها تصب في مصاب الضعف والانهزام النفسي والعلمي.
أما استعادة الأحزان والتحسر على ما فات والتعلق بالماضي وتكرار التمني بـ(ليت) والتحسر في الزفرات بـ(لو) فليس من خلق المؤمن القوي فإن (لو) تفتح عمل الشيطان, وما عمله أي الشيطان إلا الهواجس والوسواس فهو الوسواس الخناس, فلا التفات إلى الماضي إلا بقدر ما ينفع الحاضر ويفيد المستقبل.
فاتقوا الله - رحمكم الله - واستمسكوا بعرى دينكم وخذوا أمركم بقوة وسيروا في درب الحق بعزيمة متوكلين على ربكم معتصمين بحبله تكونوا من الراشدين.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب المبين....
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة في الله: لا زلنا مع هذا الحديث العظيم وهو يرسم جانباً أخر من جوانب القوة إلى جانب قوة الأخذ بالأسباب وشدة العزائم، إنها قوة اليقين المتمثلة في عقيدة المسلم أمام الأحداث والمتغيرات (وإن أصابك شيء فلا تقل: لو إني فعلت كان كذا وكذا)، ثقة بالله واعتماد عليه حين تتوالى الظروف المحرجة، أو تحل المصائب والنوازل ويلتفت المرء يمنة ويسرة فلا يرى عوناً ولا أملاً ولا ملجأ ولا ملاذاً إلا إلى الله وبالله وعلى الله، ذلك هو مسلك النبيين والمرسلين والصالحين من بعدهم ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾.
وجماع ذلك - أيها الإخوة - إن القوة هي عزيمة النفس، وإقدامها على الحق في أمور الدنيا والآخرة، وصبر على الأذى في الدعوة إلى الله واحتمال المشاق في ذات الله، واصطبار على أقام الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر المفروضات ونشاط ودأب في طلب الخيرات والمحافظة عليها، وهي بعد ذلك قوة في القيام بمهمة الاستخلاف في هذه الأرض واستعمارها كما طلب ربنا الذي أنشأنا فيها.
فاتقوا الله - رحمكم الله - وخذوا بعزائم الأمور واعتصموا بحبل الله وتوكلوا عليه، وصلوا على نبيكم امتثالاً لأمر ربكم.