القناعة كنز لا يفنى
الشيخ نواف بن معيض الحارثي
القناعة
الخطبة الأولى :
الْـحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي شَرَحَ صُدُورَ الْـمُؤْمِنِينَ لِلطَّاعَةِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَفَّقَ أَوْلِيَاءَهُ لِلرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ وَالْقَنَاعَةِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، صَاحِبُ الْـحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ، الَّذِي حَثَّ عَلَى الزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ، وَحَذَّرَ مِنَ الْحِرْصِ وَالْإِضَاعَةِ، صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. أَمَّا بَعْدُ:
فأوصيكم .... فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللـهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ.
عن عَمرُو بنِ عوفٍ المُـزنيِّ t:أنَّ رَسولَ اللَّـهِ r بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ إلى البَحْرَيْنِ يَأْتي بجِزْيَتِهَا،
وكانَ رَسولُ اللَّـهِ r صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ، وأَمَّرَ عليهمُ العَلَاءَ بنَ الحَضْرَمِيَّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مع النبيِّ r فَلَمَّا صَلَّى بهِمُ الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا له، فَتَبَسَّمَ رَسولُ اللَّـهِ r حِينَ رَآهُمْ، وقالَ: أَظُنُّكُمْ قدْ سَمِعْتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قدْ جَاءَ بشيءٍ؟ قالوا: أَجَلْ يا رَسولَ اللَّـهِ، قالَ: فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّـهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ. خ.
عباد الله: إِنَّ مِنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّـهِ تَعَالَى، وَمِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِاللـهِ رَبًّا، وَالرِّضَا بِهِ سُبْحَانَهُ رَازِقًا وَقَاسِمًا:
أَنْ يَعْلَمَ الْـمُسْلِمُ أَنَّ النَّفْعَ وَالضَّرَّ، وَالْـخَيْرَ وَالشَّرَّ؛ بِيَدِ اللـهِ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَ الْغِنَى غِنَاهُ، وَلَا يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ مُنَاهُ: إِلَّا اللـهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (اللهمَّ لا مانِعَ لمِا أعطَيتَ ولا مُعطِيَ لمِا منَعتَ ولا يَنفَعُ ذا الجَدِّ مِنكَ الجَدُّ).
وَلَقَدْ أرادَ اللـهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَكُونَ الدُّنْيَا دَارَ امْتِحَانٍ وَاعْتِبَارٍ، وَالْآخِرَةُ دَارَ جَزَاءٍ وَقَرَارٍ، وَلَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيَا دَارَ كَرَامَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ، وَالصَّالِحُونَ وَالْأَتْقِيَاءُ، بَلْ جَعَلَهَا سُبْحَانَهُ دَارَ فِتَنٍ وَشُرُورٍ، وَقَنْطَرَةَ عُبُورٍ لِدَارِ الْآخِرَةِ دَارِ الْأَفْرَاحِ وَالسُّرُورِ، فَالسَّعِيدُ حَقَّ السَّعَادَةِ مَنْ سَعِدَ فِي الْآخِرَةِ، وَالشَّقِيُّ شَرَّ الشَّقَاءِ مَنْ شَقِيَ فِيهَا .
وَمِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللـهِ تَعَالَى: أَنَّهُ سَاقَهَا لِلْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَتَرَكَهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِحَقَارَتِهَا لَدَيْهِ وَلِهَوَانِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ، قال r «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّـهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ: مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» التِّرْمِذِيُّ.
ولَـمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا بِهَذَا الْـهَوَانِ عَلَى اللـهِ؛ لَمْ يَغْتَرَّ بِهَا الصَّالِحُونَ، وَلَمْ يَطْلُبُوا مِنْهَا الْـمَزِيدَ، بَلْ قَنَعُوا مِنْهَا بِحَدِّ الْكَفَافِ، وَأَخَذُوا مِنْهَا بُلْغَتَهُمْ بِغَيْرِ إِسْرَافٍ، وَقَدْ عَدَّهَا النَّبِيُّ r كَمَقِيلِ قَائِلٍ، أَوْ سَرَابٍ زَائِلٍ، وَأَعْطَى وِجْهَتَهُ اللـهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ: اضْطَجَعَ النَّبِيُّ r عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جِلْدِهِ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّـهِ لَوْ كُنْتَ آذَنْتَنَا فَفَرَشْنَا لَكَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَقِيكَ مِنْهُ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ r «مَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» أَحْمَدُ وغيرُه.
وَكَانَ r يَدْعُو اللـهَ أَنْ يَجْعَلَ رِزْقَهُ وَرِزْقَ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى حَدِّ الْكِفَايَةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ r: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» أي : اكْفِهم من القوتِ بما لا يُرهِقُهم إلى ذُلِّ المسألةِ، ولا يكونُ فيه فُضولٌ تبعَثُ على التَّرفُّهِ والتَّبسُّطِ في الدُّنيا. والحديث في خ. م .
بل جَعَلَ r الْقَنَاعَةَ بِالْكَفَافِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ، قال r: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللـهُ بِمَا آتَاهُ». م.
وَعَلَى نَهْجِهِ r سَارَ أَصْحَابُهُ الْكِرَامُ؛ إِذْ رَضُوا بِمَا قَسَمَ اللـهُ لَـهُمْ، وَلَمْ يُنَافِسُوا أَحَدًا فِي الدُّنْيَا بَلْ كَانَ هَمُّهُمُ الآخِرَةَ؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ، فَدَعَوْهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ:(خَرَجَ رَسُولُ اللَّـهِ r مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ) خ.
وَهُوَ الَّذِي رَوَى لَنَا وَصِيَّةَ النَّبِيِّ r بِالْقَنَاعَةِ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ r «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا؛ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا؛ تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ..." الْتِّرْمِذِيُّ وغيرُه.
وَهَكَذَا كَانَ حَالُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللـهِ عَلَيْهِمْ؛ زَاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا، رَاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ، رَاضِينَ بِمَا قَسَمَ اللـهُ لَـهُمْ، قَانِعِينَ بِمَا لَدَيْهِمْ مِنْ قُوتٍ وَكَفَافٍ.
عِبَادَ اللـهِ: إِنَّ نَظْرَةً فَاحِصَةً لِوَاقِعِنَا الْـمَعِيشِ لَتُبْدِي لَنَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ حَالُ النَّاسِ الْيَوْمَ -إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللـهُ وَرَحِمَ-
مِنَ اللَّهَثِ وَرَاءَ سَرَابِ الدُّنْيَا، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ لَذَّاتِهَا، وَالتَّنَافُسِ فِي شَهَوَاتِهَا، وَالْـمُسَارَعَةِ إِلَى التَّبَاهِي بِمَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالٍ وَأَرْصِدَةٍ وَقُصُورٍ، وَالتَّكَالُبِ عَلَى الْـجَاهِ وَالْمـَنَاصِبِ وَحُبِّ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ!! فَهَلْ هَذَا إِلَّا انْغِمَاسٌ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَغَفْلَةٌ عَنِ الْآخِرَةِ، وَتَرْكٌ لِجَوَهِرِ الْـحَيَاةِ وَتَمَسُّكٌ بِالْقُشُورِ؟! فَمَا لِهَذَا خُلِقْنَا، وَلَا بِهَذَا أُمِرْنَا! حَتَّى إِنَّكَ لَا تَكَادُ تَرَى مَنْ يَقْنَعُ بِمَا آتَاهُ اللـهُ مِنَ الْـمَالِ أَوِ الزَّوْجَةِ أَوِ الْوَلَدِ أَوِ الْـجَاهِ أَوِ الْـمَنْصِبِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ النُّفُوسِ إِلَى الْـمَزِيدِ مُشْرِفَةٌ، وَمِنَ الْعَوَزِ وَالْفَقْرِ مُتَخَوِّفَةٌ، فَلَا تَشْبَعُ مِنْ مُرَادٍ، وَلَا تَتَفَكَّرُ فِي مَعَادٍ، وَهِيَ بِرَغَائِبِهَا تَهِيمُ فِي كُلِّ وَادٍ، لَا تَقْنَعُ بِقَلِيلٍ، وَلَا تَشْبَعُ مِنْ كَثِيرٍ، فَلَا أَصْحَابُ الْـمَلَايِينِ قَنَعُوا بِمَلَايِينِهِمْ،
وَلَا الْـمُلَّاكُ وَأَهْلُ الْعَقَارَاتِ وَالثَّرَوَاتِ اكْتَفَوْا بِمَا عِنْدَهُمْ، بَلْ لِسَانُ حَالِهِمْ يُرَدِّدُ دَائِماً: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟! فَمَتَى يَشْبَعُ ابْنُ آدَمَ؟!
لَقْدَ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْبَعُ مِنَ الدُّنْيَا –وَلَوْ حِيزَتْ لَهُ بِحَذَافِيرِهَا -حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنَّهُ لَيَمُوتُ دُونَ أَنْ تَتَحَقَّقَ أَمَانِيُّهُ وَآمَالُهُ؛ قَالَ r «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللـهُ عَلَى مَنْ تَابَ» خ.م.
فمَنِ ابْتَغَى السَّلَامَةَ لِنَفْسِهِ، وَالنَّجَاةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَلْيَأْخُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا يَكْفِيهِ، وَلْيَقْنَعْ بِمَا رَزَقَهُ اللـهُ تَعَالَى مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَإِنَّ غِنَى النَّفْسِ هُوَ الْغِنَى الْـحَقِيقِيُّ، وَلَيْسَ بِمَا أُوتِيَ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا؛
قَالَ r «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ».خ.م. (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَـهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) بَارَكَ اللـهُ لِي وَلَكُمْ فِيمَا رَزَقَنَا، وَقَنَّعَنَا بِمَا آتَانَا...
الخطبة الثانية
الْـحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ... أَمَّا بَعْدُ: فيا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
القناعةُ هي الرِّضا بما دونَ الكفايةِ، وتَركُ التَّشوُّفِ إلى المفقودِ، والاستغناءُ بالموجودِ .
القناعةُ هي الرِّضا بما أعطى اللـهُ ، وعلى هذا فلْيَنْظُر المرءُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِيهَا؛ لِيَعْرِفَ نِعْمَةَ اللـهِ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَقِرَهَا؛ قَالَ r «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللـهِ عَلَيْكُمْ» م.
وَأَمَّا فِي الدِّينِ فَلْيُنَافِسْ مَنْ يُنَافِسُهُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ سِبَاقٌ مَحْمُودٌ فِي الْـمَيْدَانِ، وَسَيْرٌ إِلَى الْـجِنَانِ، وَمُسَارَعَةٌ يُحِبُّهَا اللـهُ وَيَرْضَاهَا فِي كُلِّ آنٍ (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْـمُتَنَافِسُونَ).
وَلْيَنْظُرِ الْعَبْدُ كذلكَ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ نِعَمٍ لا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَلْيُقَارِنْهَا بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِ اللـهِ: يَجِدْ فَضَلَ اللـهِ عَلَيْهِ كَبِيرًا: نِعَمٌ مِنْ فَوْقِهِ، وَنِعَمٌ مِنْ تَحْتِهِ: إِيمَانٌ وَأَمَانٌ، وَأَمْنٌ فِي الْأَوْطَانِ، وَأَمْوَالٌ وَأَوْلَادٌ، وَآلَاتٌ وَأَدَوَاتٌ، وَخَدَمٌ وَحَشَمٌ مع العافيةِ ، أَلَا يَدْعُونَا ذَلِكَ لِلشُّكْرِ وَالْقَنَاعَةِ؟!
قال r «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ -أَيْ: فِي نَفْسِهِ أَوْ قَوْمِهِ-مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ: فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» التِّرْمِذِيُّ. فَكَمْ مِنَّا مَنْ يَعِيشُ عِيشَةَ الْـمُلُوكِ، وَيَحْيَا حَيَاةَ الْأُمَرَاءِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي!!
قَالَ عَبْدُ اللـهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ y وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْـمُهَاجِرِينَ؟ أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْـمُلُوكِ . م.
ولْيَعْلَمِ الْعَبْدُ – أَيْضاً– أَنَّ اللـهَ يُحَاسِبُهُ عَلَى مَالِهِ مِنْ أَيْنَ؟ وَإِلَى أَيْنَ؟ فَحَلَالُهُ حِسَابٌ، وَحَرَامُهُ عَذَابٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يُلَامُ عَلَى قَدْرِ الْـحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ، قَالَ r «يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ» م.
وَمَنْ جَعَلَ الدُّنْيَا هَمَّهُ: أَتْعَبَ نَفْسَهُ وَأَضْنَى غَيْرَهُ، وَأَسْخَطَ رَبَّهُ، وَمَنْ جَعَلَ الْآخِرَةَ هَمَّهُ: أَرَاحَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ، وَأَرْضَى رَبَّهُ؛
قال r «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ: جَعَلَ اللَّـهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ: جَعَلَ اللَّـهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» التِّرْمِذِيُّ .
هِيَ الْقَنَاعَةُ فَالْزَمْهَا تَعِـشْ مَلِكـاً لَوْ لَمْ يَكُـنْ مِنْكَ إلَّا رَاحَةُ الْبَــدَنِ
وَانْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا هَلْ رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ الْقُطْنِ وَالْكَفَنِ
ثم صلوا ...
المرفقات
1705556596_القناعة كنز لا يفنى.docx
1705556596_القناعة كنز لا يفنى.pdf