القلوب الصغيرة ومنهج النبوة// خالد رُوشه

احمد ابوبكر
1435/08/01 - 2014/05/30 02:25AM
يخطىء من يظن أن ابناءه الصغار غافلون عما يحيط بهم من أحداث وما يتم حولهم من تصرفات و وما يتكرر أمامهم من مواقف , بل إن الأبناء لديهم قدرة عالية على التسجيل والمراقبة والمتابعة ولديهم ذاكرة حفظ بارعة كما أن لديهم نفوسا رقيقة وقلوبا صغيرة تتأثر بتلك المواقف والحوادث فربما اثرت فيها تأثيرا لايمكن محوه ..
المنهج التربوي الإسلامي اهتم كثيرا بهذا المفهوم من تأثير الحوادث والسلوكيات والمواقف على نفوس الأطفال وقلوبهم وقدم تصورا رائعا وتوجيهات خبيرة من التصرف برفق ورحمة قادرة أن تنشىء قلوبا صغيرة كريمة نقية , لاتحمل غلا ولاحقدا ولا أذى لأحد , بل تنشأ على معاني المودة والنقاء والشفافية والمروءة .
فعلى الرغم من مشاغله ومسئولياته صلى الله عليه وسلم قائدا للأمة ومعلما لها ومربيا لأجيالها فهو لا يغفل عن رعاية الأطفال ولو كانوا رضعا صغارا , وكان يظهر من عطفه ورحمته وشفقته بهم الشىء الكثير , يقول أنس بن مالك رضي الله عنه : " ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان إبراهيم – ولده - مسترضعاً في عوالي المدينة وكان ينطلق ونحن معه فيدخل إلى البيت.... قال : فيأخذه ويقبله ثم يرجع " مسلم .
ولم يكن ذلك مشهورا بين الناس حينها و خصوصا أصحاب المكانات والمسئوليات , حتى إن رجلا رآه يوماً يقبل بعض ولده فقال : أتقبلون أبناءكم ؟ فوالله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم , فرد عليه صلى الله عليه وسلم غاضبا بقوله : " من لا يرحم لا يُرحم "البخاري .
لقد بني في حس الأطفال رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه وشفقته بهم , وشعروا منه بقلب رؤوم قريب منهم , ونفس صادقة .
يروي البراء رضي الله عنه موقفا آخر فيقول : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي – حفيده – على عاتقه , وهو يقول : اللهم إني أحبه فأحبه " البخاري .
إن هذه القلوب الرقيقة الصافية لا تعرف مكرا ولاخداعا , ولم تتدرب على سوء ولا شر , إنها نبتة كريمة تجب رعايتها من أول يوم لينبت فيها نبت الأخلاق الكريمة والسلوكيات المثالية المتميزة .
إنهم دوما يحبون من يتبسط معهم ويعايشهم وكأنه واحد منهم , وينفرون من الغليظ العبوس الغاضب , ويتحفزون للجاد الوقور .
وقد علم صلى الله عليه وسلم طبائع ذلك العمر وكان يتعامل معه بما يحبه , ويحاول أن يبث من خلال بساطته معهم ومزاحه وتلطفه بهم معان مهمة في تقويم السلوك وتكوين الشخصية الناجحة ..
يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه يقول : " كنا نصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فإذا سجد رسول الله وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذا رقيقا ووضعهما على الأرض فإذا عاد إلى السجود عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته ثم اقعد أحدهما على فخذيه , يقول أبو هريرة : فقمت إليه فقلت يا رسول الله أردهما ؟ فبرقت برقه في السماء فقال لهما الحقا بأمكما " فمكث ضوءها حتى دخلا " مسند أحمد .
ويلفتنا المنهج النبوي إلى أسلوب رقيق في بث المبادىء والقيم في نفوس الصغار , إذ يطلب الحبيب صلى الله عليه وسلم من أنس رضي الله عنه حاجة يقوم بها وينبهه أنها خاصة فيفهم أنس ذلك بمفهومه الخاص فعن أنس، قال: أتى عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلَّم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأتُ على أمي، فلما جئت قالت: ما حبَسَك؟ قلت: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة، قالت: ما حاجتُه؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدِّثنَّ بسرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا، قال أنس: والله لو حدثت به أحدًا، لحدثتُك يا ثابت أخرجه مسلم .
وكان يداعب أنسا رضي الله عنه فما عبس في وجهه يوما ولا عنفه ولا قال له عن شىء لم فعلت ذلك , فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلقاً، فأرسلني يوما لحاجة، قلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: (يا أنيس اذهب حيث أمرتك) قال: قلت نعم أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا شيء تركته هلا فعلت كذا وكذا؟ يعني لم يعاتب وكان يصفح , وعن أنس، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا ذا الأذنين" أبو داود .
ومن ذلك مارواه البخاري ومسلم بسنديهما إلى أبي البتاح قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟)، والنغير: تصغير النغر وهو طائر أحمر يجمع على نغران.
ومن ذلك أي ممازحته للصغار ما رواه الزهري عن محمود بن الربيع قال: (عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا بن خمس سنين من دلو " البخاري .
وتحكي لنا صحابية كريمة اسمها أم خالد عن مشهد كان في طفولتها لازالت تذكره وتقول : " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وأنا صغيرة , وعلىّ قميص أصفر , فقال رسول الله : " سنه سنه " أي حسن حسن , قالت : فذهبت ألعب بخاتم النبوة على ظهر رسول الله فزجرني أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبلى واخلفي وكررها ثلاثا – يعني يدعو لها أن تبلى ثيابها فيطول عمرها – "البخاري ,
إنه مشهد متميز ومعبر عما نريد أن نقوله , يأتي الرجل ومعه ابنته إليه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم حبه للأطفال وأنه لا يتبرم ولا يتأفف من لقائهم , بل يبش لهم ويسعد بهم , وتجترىء البنت عليه وتتعلق على ظهره وتلعب , وهو يضحك ولا يتأفف بل يدعو لها ويكرر دعاءه ثلاث مرات ..
وتحكي لنا أم قيس بنت محصن أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطفل لها صغير رضيع لم يأكل الطعام بعد فحمله صلى الله عليه وسلم فبال الصغير على ثوبه , فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله .
وقد تكررت مواقف بول الأطفال الصغار على ثيابه وفي حجره صلى الله عليه وسلم من كثرة حبه لهم وحمله لهم , فتحكي أم الفضل زوجة عمه العباس أنه صلى الله عليه وسلم حمل الحسين بن علي فبال على ثوبه فأرادت أن تغسله له فاكتفى بنضحه أيضا .
بل كان قلبه الرحيم صلى الله عليه وسلم الوضاء ليتواضع بينما هو في الطريق فيأبى أن يسير بغير أن يترك بسمة على شفاه طفل أو أثرا إيجابيا على ذاكرته التي لم تمح عبر الايام
يقول يعلى بن مرة خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم على طعام فإذا الحسين بن على يلعب في الطريق فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه فطفق الغلام يفر هنا ويفر هنا , ورسول الله يلاحقه ويضاحكه , بل كان يأخذ أسامه بن زيد والحسن بن علي فيقعدهما على فخذه كل على ناحية ثم يضمهما ويقول : " اللهم ارحمهما فإني أرحمهما " البخاري
حتى في أوقات التعبد و لم يكن ليقسوا على الصغار فيكرهون انصرافه إلى العبادة و أو يحصل بينهم وبين أوقاتها حواجز نفسية و بل كان ربما ترفق بهم في صلاته , واهتم بألا تطول الصلاة فتشق عليهم , ففي الصحيح أن أمامة بنت ابنته زينب جاءته فحملها في صلاته فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها .الموطأ
ويقول الصحابي الجليل جابر بن سمرة رضي الله عنه :" صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى ثم خرج الى أهله وخرجت معه , فاستقبله ولدان , فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا , قال : وأما أنا فمسح خدي فوجدت ليديه بردا وريحا كأنما أخرجها من جونة عطر " مسلم .
لقد ترسخ حبه صلى الله عليه وسلم في قلوب الصغار فكبروا وحبه يكبر معهم و فاختلط بلحمهم وعظامهم وسار مع دمائهم , فقدموا للعالم أروع مثال .
المشاهدات 1001 | التعليقات 0