القلب السليم

الخطيب المفوه
1433/05/07 - 2012/03/30 06:40AM
القلب السليم
خطبة ألقيت في جامع أبي عبيدة بحي الشفا
ألقاها : د / سعد بن عبد العزيز الدريهم .
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فلا مضلَّ له ، ومن يضللْ ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .

أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أيها الأحبةُ في الله ، من أَبخَسِ الأَحكام وأكثرِها انحرافاً عن جادة الصواب ؛ ذلك الحكمُ المبنيُّ على ظاهر الإنسان ، أو عمله الظاهر دون النظر في البواطن . والبواطن أمرها إلى الله ؛ لذا فالتوقف وردُّ الحكم على الأشخاص إلى الله بالنسبة للمآل الأخروي من صفات عباد الله الموفقين ؛ لأن ناساً من الناس ربما لا ترى فيهم تميزاً ظاهرياً ، وهم ممن وضعوا رحالهم في الجنة ، وهناك من ترى فيهم مؤهلاتِ الظفر بالجنان ، وهو عند الله من الأشقياء ؛ لأن مرد التفضيل عند الله عائد إلى ما في القلب من سلامة ؛ فمن سلم قلبه ، فهو السعيد ، ومن مرض قلبه بأدغاله ؛ فهو الشقي ، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل السعادة ، وأن يرزقنا قلوباً سليمة ، لا دغل فيها ولا غش إنه جواد كريم .
أيها الأحبة في الله ، إن أمر القلوب قد أشغل الصالحين وأرباب السلوك ؛ فالصالحون يعالجون قلوبهم في منطلقاتها وفي نياتها ، ويحرصون أشد الحرص أن تكون منقادة إلى ربها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، وأرباب السلوك يَصِفُون العلاج الناجع لمن اشتط قلبُه ومالَ عن جادة الصواب ؛ حتى يعود إلى ربه مخبتاً منقاداً ، وحق لهم هذا الاهتمام أيها الجمع الكريم ؛ لأن الأمر عليه مدار السعادة والشقاء ، وهو مُورِثٌ لرياض الجنان أو حفر النيران ، والقلوب ذات تقلب ؛ وما سمي القلب قلباً إلاَّ لتقلبه ؛ لذا كان النبي r كثيراً ما كان يدعو ربه فيقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، فإذا كانت هذه حال محمد r ؛ فنحن والله أشد حاجة لذلك ؛ فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ..
والقلوب أيها الجمع الكريم ، لها تعامل مع ربها الذي خلقها إخلاصاً وإخباتاً وتوجهاً إليه بالكلية ، ولها تعامل كذلك مع عباد الله حباً وبغضاً ، ونصيحة وغشاً ، وسيكون حديثنا هنا عن النوع الثاني ، وهو ما يتعلق بسلامة القلب تجاه العباد بعد قيامه بأمر الله . وغير خافٍ عليكم أن هذا أمر يهبه الله من يشاء من عباده ؛ فبعض الناس خلقه الله سهلاً سمحاً سليم الصدر تجاه العباد ، وبعضهم خلقه الله عتلاً جوَّاظاً مستكبراً ، ولكن من جاهد نفسه نال ما أراد ، وَلَحِقَ بذوي القلوب السليمة، ) وَالَّذِيْنَ جَاهَدُوا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( ؛ بل إن أصحاب القلوب السليمة تجاه العباد لمن أهل الجنة وإن كانوا على الأرض ، ولعلكم أيها الأحبة في الله على علم بذلك الصحابيِّ الكريم الذي قال عنه النبي r وهو في جمع من أصحابه : يخرج عليكم من هذا الفج رجلٌ من أهل الجنة ؛ فخرج رجل من عامة المسلمين يحمل نعليه ، ولحيته تنطف من ماء الوضوء ، وهذا من النبي r وقع ثلاث مرات ، كلُّها يقول فيها : يخرج عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة ؛ فيخرج ذلك الرجل ؛ عندها استشرف أحد الصحابة وهو عبدالله بن عمرو لمعرفة السبب الذي نال به هذا الرجل ذلك التكريم وهذه البشارة ؛ فادعى عبدالله أنه على خصام مع والده ، وأنه حلف ألاَّ يدخل عليه ثلاثة أيام ؛ فطلب أن يبيت عنده ؛ فرحَّب به ؛ فأضحى عبدالله يراقبه في عبادته وقيامه ودخوله وخروجه ، ولكنه لم ير عنده كثير عمل ؛ غير أنه إذا تقلب من الليل يذكر الله ؛ وبعد ثلاثة أيام صارحه ؛ فقال : إنه لم يكن بيني وبين أبي شيء ، ولكني سمعت النبي يقول : يخرج عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة ؛ فتخرج أنت ؛ فأردت أن أعرف العمل الذي تعمله ؛ فأعمل مثله ؛ فلم أر لك كثير عمل ؛ فقال ذلك الرجل الموفق والمشهودُ له بالجنة : إنه كما رأيت ! إلاَّ أني لا أبيت وفي قلبي لأحد من المسلمين غشاً ، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه ، فقال عبدالله بن عمرو : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا نطيق .. وهذا الحديث رواه أحمد .
وهذا تواضع من عبدالله t وإلا فهو وأصحاب رسول الله ممن قال الله فيهم ) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُوْرِهِمْ مِنْ غِلٍ ( ، وذلك في الدنيا قبل الآخرة ، ومن قرأ سير الصحابة وجد ذلك ما ثلاً جلياً ، كيف لا ، وهم يتلون كتاب الله سبحانه ، وهو قد جاء بترسيخ هذا المفهوم ، حيث قال : ) يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيْمٍ ( ؛ ومن أقبل على كتاب الله تجده عندما يرى ما يعجبه عند غيره يعالج حسده بقول الله تعالى : ) ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ ( ؛ لذا من أقبل على كتاب الله وتدبَّره سَلِمَ قلبُه ورق فؤاده ، وأصبح ينطلق إلى الناس على سجيته ، وعندها يلقَّى السعادة ؛ فاللهم إنا نسألك قلوباً سليمة، وأفئدة لينة قريبة ، ومرداً إليك غير مخزٍ ولا فاضح يا ربنا يا ذا الجلال والإكرام ..
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الثانية :
الحمد لله على إحسانه ، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين ، وسلّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد ُ:
فأيها الأحبة في الله ، وأنتم تعالجون قلوبكم لتأطروها على جادة السلامة أطراً ؛ لا تنسوا أن تدعوا الله أن يجعل قلوبكم سليمة في شأنها كله. فالقلوب لا يملكها إلا خالقها سبحانه ، وهو القادر أن يجعلها على صراط مستقيم وهدي قويم ، والله إذا شاء قَلْبَ قَلْبِ عَبْدٍ قلبه ، وإن شاء سبحانه أسعده ؛ فادعوا الله على كل حال أن يهبكم قلوباً سليمة مخمومة لا شيء فيها من الحسد ، )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (.
ولا ينسى العبد أيها الأحبة في الله ، وهو يجاهد النفس ومن قبلها القلب على الرشاد والفلاح أن يجعل ذلك العمل محفوفاً بالإخلاص ؛ لينال أجر المجاهدة وأجر النتيجة ، وأهل الإخلاص هم أهل العون من الله ؛ لذا ما حمل الإنسان في رحاله أبرك له من الإخلاص . قال النبي r : « ثلاث لا يُغِل عليهن صدر مسلم : إخلاص العمل لله عز وجل ، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين » الحديث رواه أحمد بسند صحيح . قال ابن الأثير رحمه الله عند هذا الحديث : إن هذه الخلال الثلاث تُستصلح بها القلوب ، فمن تمسك بها طهَّر قلبَه من الخيانة والدخل والشر.
المرفقات

القلب السليم.doc

القلب السليم.doc

المشاهدات 3644 | التعليقات 1

جزاكم الله خير الجزاء