الْقِصَّةُ الْمُحْزِنَةُ الْمُبْكِيَةُ 24 ربيع ثاني 1436هـ
محمد بن مبارك الشرافي
1436/04/22 - 2015/02/11 19:37PM
الْقِصَّةُ الْمُحْزِنَةُ الْمُبْكِيَةُ 24 ربيع ثاني 1436هـ
الْحَمْدُ للهِ مُدَبِّرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ, ذِي النِّعَمِ والآلاء لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء ، أَحْمَدُهُ حَمْدَ شَاكِرٍ لآلائِهِ مُقِرّاً بِنَعْمَائِهِ ، وَأْشَهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
أَمَّا بَعْدُ : فَمَعَنَا فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ حَدِيثٌ عَظِيمٌ عَنْ حَادِثَةٍ آلَمَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلَمَتْ آلَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَخَاصَّةً أُمَّنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا، وَتَكَدَّرتَ لَهَا قُلُوبُهُمْ وَانْزَعَجَتْ لَهَا نُفُوسُهُمْ ، وَذَلِكَ حِينَ تَطَاوَلَ أَهْلُ النِّفَاقِ عَلَى بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّهَمُوا زَوْجَتَهُ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا وَالدِّفَاعَ عَنْهَا آيَاتٍ تُتْلَي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، حِمَايَةً لِفِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَدّاً لِأَلْسِنَةِ السُّوءِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِي الطَّاهِرَةِ الْمُبَرَّأَةِ مِنَ الإِفْكِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : تَعَالَوْا بِنَا نَسْمَعُ خَبَرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ صَاحِبَتِهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُا , تَقُولُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا : كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا .
حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوِهِ وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ مِنْ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِيَ الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، [وهذا من فطنتها وذكائها] فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ [أي : نام] فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي[وهذا من أصرح الأدلة على وجوب الحجاب]
تقول : وَاللهِ مَا يُكَلِّمُنِي وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ، بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي [تعني : أنهم اتهموها بالزنا والعياذ بالله , وسبحان الله هذا من مرض قلوبهم , وإلا فهل يعقل أن امرأة ورجلا يزنيان يقدمون على الناس في وسط النهار , لكنها القلوب المريضة]
قَالَتْ : وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ، حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ، الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي ، فَذَاكَ يَرِيبُنِي ، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَهِيَ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا ، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا : بِئْسَ مَا قُلْتِ ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ! قَالَتْ : أَيْ هَنْتَاهْ أَوْ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي.
فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ ، قُلْتُ : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ ؟ وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا ، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ ؟ فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ؟
فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي .
وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ- يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا .
وَأَمَّا عَلِيُّ فَقَالَ : لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ ، قَالَتْ : فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ (أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟) قَالَتْ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا !
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ ، فَقَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ (يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي بَيْتِي فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي) فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ : أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ ! [فتلاحا بعض المسلمين بسبب ذلك الكلام من سعد رضي الله عنهم , فسكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدأ نفوسهم ثم ترك الأمر]
قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ وَلَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي ، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي .
فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ .
قَالَتْ : فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ (أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ)
قَالَتْ : فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي : أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا قَالَ ! فَقَالَ : وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ !
فَقُلْتُ لِأُمِّي : أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ : إِنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ - وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ - لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ . وَاللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .
أَمَّا بَعْدُ : فَمَعَنَا فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ حَدِيثٌ عَظِيمٌ عَنْ حَادِثَةٍ آلَمَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلَمَتْ آلَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَخَاصَّةً أُمَّنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا، وَتَكَدَّرتَ لَهَا قُلُوبُهُمْ وَانْزَعَجَتْ لَهَا نُفُوسُهُمْ ، وَذَلِكَ حِينَ تَطَاوَلَ أَهْلُ النِّفَاقِ عَلَى بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّهَمُوا زَوْجَتَهُ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا وَالدِّفَاعَ عَنْهَا آيَاتٍ تُتْلَي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، حِمَايَةً لِفِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَدّاً لِأَلْسِنَةِ السُّوءِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِي الطَّاهِرَةِ الْمُبَرَّأَةِ مِنَ الإِفْكِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : تَعَالَوْا بِنَا نَسْمَعُ خَبَرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ صَاحِبَتِهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُا , تَقُولُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا : كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا .
حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوِهِ وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ مِنْ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِيَ الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، [وهذا من فطنتها وذكائها] فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ [أي : نام] فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي[وهذا من أصرح الأدلة على وجوب الحجاب]
تقول : وَاللهِ مَا يُكَلِّمُنِي وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ، بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي [تعني : أنهم اتهموها بالزنا والعياذ بالله , وسبحان الله هذا من مرض قلوبهم , وإلا فهل يعقل أن امرأة ورجلا يزنيان يقدمون على الناس في وسط النهار , لكنها القلوب المريضة]
قَالَتْ : وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ، حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ، الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي ، فَذَاكَ يَرِيبُنِي ، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَهِيَ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا ، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا : بِئْسَ مَا قُلْتِ ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ! قَالَتْ : أَيْ هَنْتَاهْ أَوْ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي.
فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ ، قُلْتُ : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ ؟ وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا ، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ ؟ فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ؟
فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي .
وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ- يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا .
وَأَمَّا عَلِيُّ فَقَالَ : لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ ، قَالَتْ : فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ (أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟) قَالَتْ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا !
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ ، فَقَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ (يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي بَيْتِي فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي) فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ : أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ ! [فتلاحا بعض المسلمين بسبب ذلك الكلام من سعد رضي الله عنهم , فسكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدأ نفوسهم ثم ترك الأمر]
قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ وَلَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي ، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي .
فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ .
قَالَتْ : فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ (أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ)
قَالَتْ : فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي : أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا قَالَ ! فَقَالَ : وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ !
فَقُلْتُ لِأُمِّي : أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ : إِنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ - وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ - لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ . وَاللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
أَمَّا بَعْدُ : فَتَقُولُ أُمُّنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي قِصَّتِهَا : ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي ، وَأَنَا وَاللهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي ، وَلَكِنْ وَاللهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى ، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا .
قَالَتْ : فَوَاللهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ (أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ) فَقَالَتْ لِي أُمِّي : قُومِي إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي .
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} عَشْرَ آيَاتٍ ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي . رواه مسلم .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : هَكَذَا سَمِعْنَا هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمُحْزِنَةِ الْمُبْكِيَةِ عَنْ أُمِّنَا عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ ، فِي اتِّهَامِهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللهُ مِنْهُ ، وَقَدْ تَوَلَّى كِبْرَ التَّرْوِيجِ لِهَذَا الاتِّهَامِ الْمُشْينِ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ عَبْدُ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ.
وَلا عَجَبَ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُنَافِقٌ يَبْغَضُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ الْعَجَبَ الْيَوْمَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَزْعُمُ حُبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُبَّ آلِ بَيْتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ هُوَ يَجْعَلُ دَيْدَنَهُ التَّهَكُّمَ بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا وَالسِّخْرِيَةَ مِنْهَا وَاتِّهَامَهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللهُ مِنْهُ .
وَمَنِ اتَّهَمُ عَائِشَةَ بِذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ بَرَاءَتِهَا فِي الْقُرْآنِ لاشَكَّ أَنَّهُ كَافِرٌ الْكُفْرَ الْأَكْبَرَ , لَأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ .
فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الضَّلَالِ وَمِنْ طَرِيقِ الزَّائِغِينَ وَمِنْ مَسَالِكِ الْمُرْتَدِّينَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حُبَّ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُبَّ آلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ مِنْ زَوْجَاتِهِ وَقَرَابَتِهِ الْمُؤْمِنِينَ ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَيْشَ السُّعَدَاءِ ، وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ ، وَالحَشْرَ مَعَ الأَتْقِيَاءِ ، وَمُرَافَقَةِ الأَنْبِيَاءِ ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ وَزَوْجَاتِهِ أَمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
المرفقات
الْقِصَّةُ الْمُحْزِنَةُ الْمُبْكِيَةُ 24 ربيع ثاني 1436هـ.doc
الْقِصَّةُ الْمُحْزِنَةُ الْمُبْكِيَةُ 24 ربيع ثاني 1436هـ.doc
المشاهدات 3707 | التعليقات 5
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بعلمك
جزيت خيرا
جزكم الله خير الجزاء وسدد خطاكم
عن ماذا تتحدث القصة
محمد بن مبارك الشرافي
بسم الله الرحمن الرحيم
أصحاب الفضيلة : هذه الخطبة في حديث رواه مسلم في صحيحة برقم (2770) لكني حذفت منه ما لا أراه يناسب الخطبة إما لكونه لاحاجة له أو لأن العوام لا يفهمونه , أوطلبا للاختصار .
تعديل التعليق