القرآن والتذكير بالنعم (1)
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1439/07/24 - 2018/04/10 08:58AM
القرآن والتذكير بالنعم (1)
27 / 7 / 1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ؛ جَادَ عَلَى عِبَادِهِ بِالْإِيمَانِ، وَتَابَعَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ وَالْإِحْسَانَ، وَجَزَاهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ بِالْجِنَانِ، وَتَوَعَّدَ الْعُصَاةَ بِالنِّيرَانِ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ فَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ هَدَانَا إِلَيْهِ، وَعَرَّفَنَا عَلَيْهِ، وَعَلَّمَنَا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مَا يَدْعُونَا إِلَى مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَبَسَطَ سُبْحَانَهُ آيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ شَاهِدَةً عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ؛ لِنَعْلَمَ أَنَّهُ لَا رَبَّ سِوَاهُ، فَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ كَثِيرَ التَّذَكُّرِ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّذْكِيرِ بِهَا، وَحَثِّ النَّاسِ عَلَى شُكْرِهَا، وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كُفْرِهَا، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ الْقُنُوتِ، وَهُوَ الْمَغْفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَاتَّخِذُوهُ وَلِيًّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَلِيُّكُمْ ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 14].
أَيُّهَا النَّاسُ: يَحْتَاجُ الْمُؤْمِنُ فِي أَحْوَالِ الْمِحَنِ وَالْمَصَائِبِ وَالْأَزَمَاتِ إِلَى اسْتِحْضَارِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ الْحَاضِرَةِ، وَتَذَكُّرِ نِعَمِهِ سُبْحَانَهُ السَّابِقَةِ، وَاسْتِعْرَاضِ أَلْطَافِهِ الْمَاضِيَةِ؛ لِئَلَّا يَسْتَبِدَّ بِهِ الْحُزْنُ فِي الْمُصِيبَةِ وَالْمِحْنَةِ فَيُلْقِيَهُ فِي أَوْدِيَةِ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، ثُمَّ يَسْحَقَهُ فِي طَاحُونَةِ الشَّكِّ وَالْجُحُودِ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ تَضْعُفُ تَارَةً وَتَقْوَى تَارَةً، وَقُوَّتُهَا فِي حَالِ نِعْمَتِهَا وَعَافِيَتِهَا وَسَرَّائِهَا، وَضَعْفُهَا فِي حَالِ ابْتِلَائِهَا وَضَرَّائِهَا.
وَعَالَمُ الْيَوْمِ عَالَمٌ مَخُوفٌ، وَالِاضْطِرَابُ فِيهِ كَبِيرٌ، وَالظُّلْمُ فِيهِ كَثِيرٌ، وَالْقَتْلُ فِيهِ ذَرِيعٌ، وَالتَّقَلُّبَاتُ فِيهِ سَرِيعَةٌ، وَالتَّحَوُّلَاتُ فِيهِ عَظِيمَةٌ، وَلَا مَفَرَّ لِلْعَبْدِ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لِلْعَبْدِ إِلَّا بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا مَلْجَأَ لَهُ إِلَّا إِلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَمَنْ طَالَعَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَجَدَ فِيهِ ذِكْرًا كَثِيرًا لِلنِّعَمِ، وَتَذْكِيرًا بِهَا؛ لِشُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى آلَائِهِ وَنِعَمِهِ، وَاتِّبَاعِ دِينِهِ وَرُسُلِهِ، وَالتَّمَسُّكِ بِمِنْهَاجِهِ وَشَرْعِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى مُرِّ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ هِيَ أَوَّلُ النِّعَمِ عَلَيْهِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ النِّعَمِ فَهُوَ تَابِعٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخْلَقْ لَمْ تَكُ ثَمَّةَ نِعَمٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَّرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِنِعْمَةِ الْخَلْقِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِنَشْكُرَهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ الْخَلْقِ عَدَمًا، لَا ذِكْرَ لَنَا وَلَا حَيَاةَ وَلَا عَمَلَ ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ [مَرْيَمَ: 67]، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الْإِنْسَانِ: 1 - 3]، فَالْغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَفِي مَوْطِنٍ ثَالِثٍ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَتَيِ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَأَمْرٌ رَبَّانِيٌّ لِلنَّاسِ بِتَذَكُّرِهِمَا؛ مِمَّا يَعْنِي أَنَّ تَذَكُّرَ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ عَلَى الدَّوَامِ فِيهِ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فَاطِرٍ: 3].
وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا يُذَكِّرُونَ أَقْوَامَهُمْ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 69]، وَآلَاءُ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ نِعَمُهُ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَذَكُّرَ النِّعَمِ وَشُكْرَهَا سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ، وَهُوَ فَلَاحٌ يَشْمَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَمَنْ أَفْلَحَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَنْ يَبْأَسَ أَبَدًا. وَالَّذِي لَا يَتَذَكَّرُ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَيَشْكُرُهَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ سَلْبِ نِعَمِهِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الْآخِرَةِ.
وَذَكَّرَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 74].
وَذَكَّرَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 86].
وَدَلَّتِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ ثَمَّةَ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا بَيْنَ شُكْرِ النِّعَمِ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، وَبَيْنَ كُفْرِ النِّعَمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ شَكَرَ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَأَفْعَالِهِ كَانَ مِنَ الشَّاكِرِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَمَنْ كَفَرَ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
وَذَكَّرَ الْكَلِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [الْمَائِدَةِ: 20].
وَذَكَّرَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّةً أُخْرَى نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِشُكْرِهَا ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: 6 - 8].
وَأُمَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا، وَهَذَا التَّفْضِيلُ نِعْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ، فَخَاطَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 47]. وَالشُّكْرُ يَقْتَضِي الْوَفَاءَ بِعَهْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْتِزَامَ دِينِهِ، وَاتِّبَاعَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بُعِثَ لِلنَّاسِ جَمِيعًا؛ لِعِلْمِ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِصِدْقِ نُبُوَّتِهِ، وَحَقِيقَةِ دِينِهِ، وَأَنَّ كُتُبَهُمْ بَشَّرَتْ بِهِ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى نِعْمَتَهُ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 40 - 42].
وَلَكِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَفَرُوا النِّعْمَةَ، وَنَكَثُوا الْعَهْدَ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، وَاشْتَرَوْا بِمَا عَلِمُوا مِنَ التَّوْرَاةِ ثَمَنًا قَلِيلًا؛ وَذَلِكَ بِكَتْمِ الْحَقِّ وَلَبْسِهِ بِالْبَاطِلِ، فَضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَنَالُوا -وَلَنْ يَنَالُوا- مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَهُوَ يَنْتَشِرُ فِي الْأَصْقَاعِ، وَلَمْ يَضُرُّوا بِحَسَدِهِمْ وَكُفْرِهِمْ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَلَمْ يَضُرُّوا اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا، ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 54].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاذْكُرُوا نِعَمَهُ فَاشْكُرُوهُ وَلَا تَكْفُرُوهُ ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 145].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ، وَذَكَّرَهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، وَعَدَّدَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ؛ لِنَتَعَلَّمَ تَذَكُّرَ النِّعَمِ وَالِاجْتِهَادَ فِي شُكْرِ الْمُنْعِمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَإِنَّ تَقْصِيرَ الْمُؤْمِنِ فِي شُكْرِ النِّعَمِ سَبَبُهُ نِسْيَانُهَا أَوِ الْغَفْلَةُ عَنْهَا، فَإِذَا ذَكَّرَ نَفْسَهُ بِهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ [الْمَائِدَةِ: 110 - 111].
وَأَمَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَّرَهُ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ بِتِلْكَ النِّعَمِ. وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُذَكِّرُ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ؛ لِيَجْتَهِدُوا فِي شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ. فَذَكَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأُخُوَّةِ وَالْأُلْفَةِ، كَمَا ذَكَّرَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بِتَكْثِيرِهِمْ وَقَدْ كَانُوا قِلَّةً، وَبِرَدِّ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِمْ، وَإِمْدَادِهِمْ بِجُنْدٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَةِ شَرْعِهِ الْحَكِيمِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَجِ الْبَالِغَةِ، وَالْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ، وَالْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ.
فَحَرِيٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ أَنْ يَنْتَبِهُوا لِآيَاتِ التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قِرَاءَتِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَأَنْ يَفْهَمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ، وَأَنْ يَتَدَبَّرُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْعِظَاتِ؛ لِيَكُونَ شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ حَاضِرًا فِي حَيَاتِهِمْ، يُلْزِمُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيُرَبُّونَ عَلَيْهِ أَهْلَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَيُشِيعُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّ عَظَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَقْتَضِي حَمْدَهُ، وَإِنَّ نِعَمَهُ الْكَثِيرَةَ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ شَكُورٌ لِمَنْ يَشْكُرُهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ يَكْفُرُهُ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فَاطِرٍ: 34]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي أَهْلِ النَّارِ: ﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فَاطِرٍ: 36].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
والتذكير-بالنعم-1
والتذكير-بالنعم-1
والتذكير-بالنعم-1-مشكولة
والتذكير-بالنعم-1-مشكولة
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق