القرآن الكريم والواقع الأليم
هلال الهاجري
الحَمدُ للهِ خَالِقِ الدُّجَى وَالصَّبَاحِ، وَبِيَدِهِ الهُدَى وَالصَّلاحُ، وَمُقَدِّرِ الغُمُومِ وَالأَفرَاحِ، عَزَّ فَارتَفَعَ، وَفَرَّقَ وَجَمَعَ، وَوَصَلَ وَقَطَعَ، رَفَعَ السَّمَاءَ، وَأَنَزَلَ المَاءَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسمَاءَ، أَعطَى وَمَنَحَ، وَأَنعَمَ وَمَدَحَ، وَعَفَا عَمَّنِ اجْتَرَحَ، عَلِمَ مَا كَانَ وَيَكُونُ، وَخَلَقَ الحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ، وَإليهِ الرُّجُوعُ وَالرُّكُونُ، وَنَشهَدُ أن لا إِلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً نَستَجِلِبُ بِهَا نِعَمَهُ، وَنَستَدفِعُ بِهَا نِقَمَهُ، وَنَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَنَبيُّهُ مِن خَلقِهِ وَخَلِيلُهَ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلَى آلِهِ نُجُومِ المُهتَدِينَ، وَرُجُومِ المُعتَدِينَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْ صَحَابَتِهِ الأَبرَارِ الذِينَ قَامُوا بِحَقِّ صُحبَتِهِ، وَحِفظِ شَريعَتِهِ، وَتَبلِيغِ دِينِهِ إلى سَائرِ أُمَّتِهِ، وَكَانُوا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للنَّاسِ، أَمَّا بَعدُ:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
النَّاظِرُ إلى أَحدَاثِ الوَاقِعِ بِعِينِ البَصِيرَةِ والعِلْمِ، يَرَى مَا يَشِيبُ لَهُ الرَّأسُ ويَحتَارُ مِنهُ ذُو الحِلْمِ، فَقَد اختَلَطَتْ الأُمُورُ وَظَهَرَتْ المُتَنَاقِضَاتُ، وَأَصبَحَ كَثِيرٌ مِن الحَلالِ والحَرَامِ مِن المُتَشَابِهَاتِ، وَصَارَ يَصعُبُ التَّفرِيقُ بِينَ مَلامحِ الأَعدَاءِ والأَصدِقَاءِ، وَرَأينَا المُحتَلَّ يَطرِدُ صَاحِبَ الأَرضِ دُونَ حَيَاءٍ، وَتَكَاثَرَت مَصَادِرُ التَّربيَّةِ فِي تَوجِيهِ عُقُولِ الأَبنَاءِ، حَتَى فَلَتَ الزِّمَامُ مِن أَيدي كَثِيرٍ مِنَ الأُمَّهَاتِ والآبَاءِ، وَتَصَادَمَتْ المَبَادِئُ الرَّفِيعَةُ مَعَ أَصحَابِ الشُّهرَةِ الوَضِيعَةِ، وَأَصبَحَتْ الأَخلاقُ الفَاضِلَةُ سَبَبَاً لِلمُحَاولاتِ الفَاشِلَةِ، وَرَأينَا الاقتِصَادَ العَالميَّ يَتَأرجَحُ بِسَببِ تَصرِيحٍ أَو قَرارٍ، وَظَنَّ الكَثِيرُ أَنَّ مُستَقبَلَهُم عَلى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَصَارَ العَالَمُ يَبحَثُ عَنِ الاستِقرَارِ والسَّلامِ، ويُنَادي كَيفَ التَّمييزُ بَينَ النُّورِ والظَّلامِ؟.
أَيُّها المُسلِمُونَ .. قَد يُعذَرُ الكُّفَّارُ فِيمَا هُم فِيهِ مِن التَّخَبُّطِ والضَّيَاعِ الأَليمِ، وَلَكِنْ مَا هُو العُذرُ لِمَن بَينَ يَديهِ الهُدى والصِّرَاطُ المُستَقِيمُ، وَقَد قَالَ اللهُ تَعَالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، وَقَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ).
لَنَا يَا بَنِي الإِسلامِ دِينٌ يَدُلُّنَا *** عَلَى كُلِّ خَيرٍ، وَالكِتَابُ بَيَانُ
فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالى تَرى الأُمُورَ عَلى حَقِيقَتِها الوَافِيَّةِ، وتَظهَرُ لَكَ الأَحدَاثُ بِألوانِها الصَّافِيَّةِ، فيه الهُدَى وَالنُّورُ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبلَكُم، وَخَبَرُ مَا بَعدَكُم، وَحُكمُ مَا بَينَكُم، هُوَ الفَصلُ لَيسَ بِالهَزلِ، مَنْ تَركَهُ مِن جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَن ابتَغَى الهُدَى في غَيرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبلُ اللَّهِ المَتِينُ، وَهوَ الذِّكرُ الحَكيمُ، وَهوَ الصِّراطُ المُستَقِيمُ، وَهُوَ الَّذي لا تَزيعُ بهِ الأهْواءُ، وَلا تَلتَبِسُ بهِ الأَلسُنُ، وَلا تَنقَضِي عَجَائبُهُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَن عَمِلَ بهِ أُجِرَ، ومَنْ حَكَمَ بهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إليهِ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُستَقيمٍ.
هُوَ الكِتَابُ الذي مَنْ قَامَ يَقْرَؤُهُ *** كَأنَّما خَاطَبَ الرَّحْمَنَ بالكَلِمِ
هُوَ المُنَزَّلُ نُورًا بَيِّنًا وهُدًى *** وَهُوَ الشِّفَاءُ لِمَا فِي القَلْبِ مِن سَقَمِ
فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالى يَنكَشِفُ الأَعدَاءُ، الذينَ يُبطِنُونَ المَكرَ السَّيءَ والدَّهَاءَ، واقرَأَ قَولَهُ تَعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، فَلا يُحِبُّونَ لَكُم أَيَّ خَيرٍ، وتَأَمَلْ قَولَهُ سُبحَانَهُ فِي المُنافِقينَ: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)، وفِي المُقَابِلِ يَظهَرُ لَكَ الأَصدِقَاءُ، الذينَ لَهُم المَحبَّةُ والإخَاءُ، فَيَقُولُ عَزَّ وَجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، فَكيفَ بَعدَ ذَلِكَ يَلتَبِسُ العَدُوُّ بِالصَّدِيقِ، مَهمَا ظَهَرَ لَكَ مِنَ المُجَامَلاتِ والتَّزويقِ.
فِي كِتَابِ اللهِ تَعالى تَظهَرُ مَصَادِرُ التَّربيةِ الأَصِيلَةُ، وتَتجَلى الأَخلاقُ الفاضِلَةُ النَبيلَةُ، ولَكُم فِي هَدي الأَنبيَاءِ كُلُّ صِفَةٍ جَليلَةٍ، وَقَد أَوصَى اللهُ تَعالى نَبيَّهُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالاقتِدَاءِ بِهِم فَقَالَ: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، وَأَوصَانَا بالاقتِدَاءِ بِهِ فَقَالَ: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، فَكَيفَ بَعَدَ ذَلِكَ نَبحَثُ عَن قُدُواتٍ، وَمَن سُواهُم قَد بَلغَ الغَايَةَ والكَمَالاتِ.
وَأَمَا أَصحَابُ الشُّهرَةِ المَذمُومَةِ، فَقَد قَصَّ اللهُ تَعالى عَلينَا فِي كِتَابِهِ بَعضَ أَخبَارِهِم، فَمَنْ اشتَهَرَ بِشَرِّهِ: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ) وَمَن اشتَهَرَ بِمُلكِهِ: (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا)، وَمَن اشتَهَرَ بِمَالِهِ: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)، وَهَكَذا فِي كُلِّ شُهرَةٍ لَم تَكُنْ لِوَجهِ اللهِ الكَريمِ، فَإنَّ صَاحِبَهَا عَلى خَطَرٍ جَسيمٍ.
أَقولُ مَا تَسمعونَ وأَستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كُلِ ذَنبٍ فَاستغفروهُ إنَّه هو الغَفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا)، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لاشَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلَى آلِه وَصَحبِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإحسَانٍ إلى يَومِ الدِّينِ، أَمَّا بَعدُ:
فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالى بُشَارَةٌ لِمَن يَخَافُ الفَقرَ وَسُقُوطَ الاقتِصَادِ، فَالرِّزقُ إنَّمَا هُو بِيَدِ اللهِ الذي خَلقَ العِبَادَ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ)، وَقَد تَكَفَّلَ بِرزقِ كُلِّ دَابَّةٍ خَلَقَها فَقالَ سُبحَانَهُ: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين)، فَلا يُؤثِرُ فِي أَرزَاقِنَا تَصريحُ أَحدٍ، ولا يَمنَعُ مَا كَتَبَ اللهُ قَرارُ أَحدٍ، (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ).
فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالى تَشخِيصٌ دَقِيقٌ يَكشِفُ عُيُوبَنَا، وأَسبَابِ القَلقِ والخَوفِ الذي شَغَلَ قُلُوبَنَا، أَلا وَهُوَ حُبُّ الدُّنيَا والتَّعلُّقُ بِهَا وإعطَاؤهَا أَكبَرُ مِن مَكَانَتِهَا، مِمَّا أَثَّرَ عَلى نِسيَانِ الآخِرَةِ والعَملِ لَهَا واستِبعَادِ وَقتِهَا، (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)، وَقَد ضَرَبَ اللهُ تَعَالى لَنَا فِي كِتَابِهِ مَثلاً لِهَذِهِ الحَياةِ الصَّغِيرةِ، التي أَشغَلَتْ القُلوبَ وأَسهَرَتْ العُيُونَ وضَاعَ بِسَبَبِهَا دِينُ الجُمُوعِ الكَثِيرةِ، فَقَالَ سُبحَانَهُ: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فَأينَ المُتَفَكِّرونَ؟.
وَهَكَذا القُرآنُ الكَريمُ يَضعُ النُّقَاطَ عَلى الحُرُوفِ، وتَظهَرُ فِي آيَاتِهِ الحَقَائقُ ويَذهَبُ الخَوفُ، ويَعرِفُ الإنسَانُ الغَايَةَ مِن وُجُودِهِ فِي هَذهِ الحَياةِ، ويَعلَمُ الأَعدَاءَ والأَصدِقَاءَ والأَخلاقَ والقُدُواتِ، ويُمَيُّزُ بِعَينِ البَصِيرَةِ بَينَ الخَيرِ والشُّرورِ، (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)، والعَجَبُ مِن أُمَّةٍ عِندَهَا هَذَا القُرآنُ، ثُمَّ لا تَقُودُ العَالَمَ إلى بَرِّ الأَمَانِ.
اللَّهُمَّ إِنّا عَبيدُكَ، بنو عَبيدِكَ، بنو إمائكَ، نَواصِينا بِيَدِكَ، مَاضٍ فينا حُكْمُكَ، عَدْلٌ فينا قَضَاؤُكَ، نسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ في كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلوبِنا، وَنُورَ صدورِنا، وَذَهَابَ همومِنا وغمومِنا يا ربَ العالمينَ، اللهمَّ أصلح أحوالَ أمةِ محمدٍ في كلِّ مكانٍ، اللهم اجمع قلوبَهم على كتابِكَ وسنةِ نبيكَ محمدٍ واهدهم سَبلَ السلامِ، اللهم وفق إمامَنا وأعوانَه إلى ما فيه عِزُّ الإسلامِ وصَلاحُ المسلمينَ، اللهم ادفعْ عنا الغَلاءَ والوَباءَ والربا والزنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ، ما ظَهرَ منها وما بَطنَ، عن بلدِنا هذا خَاصةً وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ.
المرفقات
1744196591_القرآن الكريم والواقع الأليم.docx
1744196606_القرآن الكريم والواقع الأليم.pdf