القابض على الجمر. بمناسبة خطف القنصل السعودي
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
الحَمْدُ للهِ الخَلَّاقِ العَلِيمِ؛ خَلَقَ الخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ، وَأَعْطَاهُمْ لِيَشْكُرُوهُ، وَابْتَلاَهُمْ لِيَسْأَلُوهُ، لَهُ الحِكْمَةُ فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ، وَلَهُ الحُجَّةُ البَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ؛ [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] {الأنبياء:23}، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ قُلُوبُ العِبَادِ بَيْنَ يَدَيْهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، فَكَمْ مِنْ قَلْبٍ أَقَامَهُ، وَكَمْ مِنْ قَلْبٍ أَزَاغَهُ؛ [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {الصَّف:5}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَوْضَحَ المَحَجَّةَ لِلسَّالِكِينَ، وَأَقَامَ الحُجَّةَ عَلَى المُعَانِدِينَ، وَبَلَّغَ البَلاَغَ المُبِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَالْتَزِمُوا دِينَهُ، وَاعْمَلُوا بِشَرِيعَتِهِ، وَتَفَقَّدُوا قُلُوبَكُمْ، وَتَعَاهَدُوا إِيمَانَكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ فِي زَمَنٍ تَقَاطَرَتْ فِيهِ الفِتَنُ كَقَطْرِ السَّمَاءِ، وَدَاخَلَتْ كَثِيرًا مِنَ القُلُوبِ فَأَفسَدَتْهَا، وَحَرَفَتْهَا عَمَّا يُسْعِدُهَا وَيُنْجِيهَا إِلَى مَا يُشْقِيهَا وَيُهْلِكُهَا، وَإِنَّ تَعظِيمَ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَسُرْعَةَ الاسْتِجَابَةِ لَهُ سَبَبٌ لِحِفْظِ القُلُوبِ مِنَ الزَّيْغِ وَالضَّلاَلِ؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] {الأنفال:24}.
أَيُّهَا النَّاسُ: دَلَّتْ دَلائِلُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ القُلُوبَ تَتَقَلَّبُ، وَأَنَّ الأَفْكَارَ تَتَبَدَّلُ، وَأَنَّ القَنَاعَاتِ تَزُوُل لِيَخْلُفَهَا غَيْرُهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ] {الأنعام:110}، وقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«لاَ وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ»رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
ثُمَّ دَلَّ تَارِيخُ الرِّجَالِ وَالأَفْكَارِ عَلَى هَذِهِ الحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَرَأَيْنَاهَا وَقَعَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ وَلِذَا كَانَ مِنَ الدُّعَاءِ القُرْآنِيِّ الَّذِي يَقُولُهُ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ: [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {آل عمران:8}، وَكَانَ مِنَ الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَالجَهْلُ هُوَ سَبَبُ تَقَلُّبِ القَلْبِ، وَانْخِلاَعِهِ مِنَ الهِدَايَةِ إِلَى الغِوَايَةِ، جَهْلُ المُنْقَلِبِ الزَّائِغِ بِاللهِ تَعَالَى، وَجَهْلُهُ بِنَفْسِهِ، وَجَهْلُهُ بِحَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ وَلِذَا يَتَقَلَّبُ فِي أَوْدِيَةِ الأَفْكَارِ وَالمَذَاهِبِ؛ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا عِلْمًا لَمْ يَجِدْهُ فِي الحَقِّ الَّذِي كَانَ يَتَّبِعُهُ، فَلاَ يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلاَّ حَيْرَةً وَضَلاَلًا وَشَكًّا وَقَلَقًا وَشَقَاءً وَجَهْلًا.
وَلِهَذَا كَانَ عِلْمُ الإِنْسَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ وَشَرْعِهِ، وَعِلْمُهُ بِحَقِيقَةِ نَفْسِهِ، وَعِلْمُهُ بِأَخْبَارِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَعَمَلُهُ بِمَا عَلِمَ؛ سَبَبًا فِي العِصْمَةِ مِنَ الزَّيْغِ وَالضَّلاَلِ.
وَلانْقِلابِ القَلْبِ وَالانْحِرَافِ عَنِ الجَادَّةِ مَسْلَكَانِ: مَسْلَكُ الشَّهَوَاتِ، وَمَسْلَكُ الشُّبُهَاتِ؛ والشَّهَوَاتُ تُؤَدِّي إِلَى الإِرْجَاءِ، وَالشُّبُهَاتُ تُؤَدِّي إِلَى الغُلُوِّ.
فَمَنْ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابَ الدُّنْيَا، وَرَأَى زَهْرَتَهَا، وَذَاقَ حَلاَوَتَهَا؛ خَلَدَ إِلَيْهَا، وَتَخَفَّفَ مِنْ قُيُودِ الشَّرِيعَةِ، وَأَثقَالِ الطَّاعَةِ، وَتَلَّمَسَ الرُّخَصَ وَالتَّيْسِيرَ وَلَوْ بِالأَقْوَالِ الشَّاذَّةِ، وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الأَهْوَاءِ عِنْدَ الكُبَرَاءِ، يُزَيِّنُونَ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ، وَيَبِيعُونَهُمُ الرُّخَصَ فِي الدِّينِ بِالقُرْبِ مِنْهُمْ، وَالحَظْوَةِ عِنْدَهُمْ، فَيَقَعُونَ فِي الإِرْجَاءِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدُوا، وَيَظُنُّونَ أَنَّ كَبَائِرَ الذُّنُوبِ، وَعَظَائِمَ المُوبِقَاتِ لاَ تُؤَثِّرُ فِي الإِيمَانِ، حَتَّى يَكُونَ الإِيمَانُ اسْمًا بِلاَ مَعْنًى، وَادِّعَاءً بِلاَ أَسَاسٍ، وَقَدْ جَرَّ المُرْجِئَةُ عَلَى النَّاسِ مَا جَرُّوا مِنْ إِفْسَادِ دِينِهِمْ، وَتَهْوِينِ الشَّرِيعَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ تَعَالَى بِانْتِهَاكِهَا.
وَلِأَجْلِ مَا تَجُرُّهُ الشَّهْوَةُ مِنَ انْحِرَافٍ فِي الدِّينِ كَانَتْ مَوَاعِظُ القُرْآنِ كَثِيرَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَبَيَانِ وَزْنِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا مَتَاعُ الغُرُورِ، وَضَرْبَ الأَمْثَالِ عَلَيْهَا بِزَرْعٍ أَخْضَرَ مُزْدَانَ يَسُرُّ النَّاظِرِينَ، [فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ] {الكهف:45}.
وَأَمَّا المَسْلَكُ الثَّانِي فَمَسْلَكُ الشُّبْهَةِ فِي الدِّينِ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ هَذَا المَسْلَكُ رَدَّةَ فِعْلٍ عَلَى المَسْلَكِ الأَوَّلِ؛ أَعْنِي: مَسْلَكَ الشَّهْوَةِ؛ فَالتَّصَوُّفُ انْحِرَافٌ نَشَأَ مُقَابِلًا لِلتَّوَسُّعِ فِي المُبَاحِ، وَالْغُلُوُّ فِي تَارِيخِ المُسْلِمِينَ نَشَأَ رَدَّةَ فِعْلٍ عَلَى الإِرْجَاءِ، وَانْتِهَاكِ الحُرُمَاتِ، فَحَاوَلَ مَنْ وَقَعُوا فِيهِ مُنْذُ صَدْرِ الإِسْلامِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مُعَالَجَةَ انْحِرَافٍ بِانْحِرَافٍ آخَرَ، وَلَا يَقَعُ فِي الأُمَّةِ تَوَسُّعٌ فِي الشَّهَوَاتِ إِلاَّ نَمَتْ فِي أَحْضَانِ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ شُبُهَاتٌ، وَلَا يُوجَدُ فِي الأُمَّةِ إِرْجَاءٌ إِلاَّ أَعْقَبَهُ عَلَى الفَوْرِ غُلُوٌّ وَتَكْفِيرٌ، وَخُرُوجٌ وَاسْتِبَاحَةٌ لِلدِّمَاءِ المَعْصُومَةِ، وَإِحْدَاثُ فِتَنٍ فِي الأُمَّةِ تُفَرِّقُهَا وَلاَ تُجَمِّعُهَا، وَتَزِيدُ مُنْكَرَاتِهَا وَلاَ تُزِيلُهَا، فَإِذِا عَظُمَتْ فِتْنَةُ التَّكْفِيرِ، وَتَلَاطَمَتْ بالنَّاس أَمْوَاجُ الفِتَنِ، وَمَسَّتْهُمْ غُلْوَاءُ المِحَنِ، وَتَعِبُوا مِنَ الفُرْقَةِ وَالاخْتِلافِ سَلَكُوا مَسْلَكَ الإِرْجَاءِ لِلتَّخَلُّصِ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَلَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ بِدْعَةٍ بِبِدْعَةٍ أُخْرَى، وَلَنْ يَنْجُوا مِنَ انْحِرَافٍ بِآخَرَ.
وَمَوْجَاتُ الإِرْجَاءِ وَالغُلُوِّ الَّتِي تُصِيبُ الأُمَّةَ هِيَ فَتَرَاتُ غَرْبَلَةٍ لِأَهْلِ الإِيمَانِ، حَتَّى لاَ يَبْقَى عَلَى الحَقِّ إِلاَّ أَهْلُ الحَقِّ، وَيَرْكَبُ أَهْلُ الأَهْوَاءِ أَهْوَاءَهُمْ، فَهُمْ بَيْنَ مُنْغَمِسٍ فِي الشَّهَوَاتِ، وَتَائِهٍ فِي الشُّبُهَاتِ.
وهَذِهِ التَّصْفِيَةُ لِلصُّفُوفِ، وَالتَّنْقِيَةُ لِلأُمَّةِ بِفِتَنِ الغُلُوِّ والإِرْجَاءِ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ:«يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُغَرْبَلُونَ فِيهِ غَرْبَلَةً، يَبْقَى مِنْهُمْ حُثَالَةٌ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ، وَتَدَعُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ»رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَيَعْظُمُ ذَلِكَ وَيَزْدَادُ حَتَّى يَكُونَ صَاحِبُ الحَقِّ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ:«يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ المُتَمَسِّكُ فِيهِ بِسُنَّتِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ أُمَّتِي كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ»، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ:«يِأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ»!
عَلَّقَ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ تَعْلِيقًا فَائِقًا عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ هَذَا العَصْرِ، مَاتَ قَبْلَ نِصْفِ قَرْنٍ وَزِيَادَةٍ، وَعَاصَرَ المَدَّ الشُّيُوعِيَّ وَالرَّأْسِمَالِيَّ، وَمَا نَتَجَ عَنْهُمَا مِنَ البَعْثِ الاشْتِرَاكِيِّ وَالقَوْمِيِّ وَاللِّيبْرَالِيِّ، وَكُلُّ هَذِهِ الأَفْكَارِ تَدْخُلُ تَحْتَ عَبَاءَةِ الإِرْجَاءِ، كَمَا قَدْ أَدْرَكَ بَدَايَاتِ نُشُوءِ الغُلُوِّ وَالتَّكْفِيرِ رَدَّةَ فِعْلٍ عَلَى الانْحِرَافِ الإِرْجَائِيِّ، ذَلِكَمْ هُوَ العَلاَّمَةُ الفَقِيهُ المُفَسِّرُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَسَأَنْقُلُ لَكُمْ كَلاَمَهُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ بِطُولِهِ لِنَفَاسَتِهِ وَمَتَانَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَزَّلَ مَا تَضَمَّنَهُ الحَدِيثُ عَلَى مَا سَادَ فِي عَصْرِهِ، فقَالَ رحَمِهَ ُاللهُ تَعَالَى: وهَذَا الحَدِيثُ يَقْتَضِي خَبَرًا وَإِرْشَادًا:
أما الخبر، فإنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَقِلُّ الخَيْرُ وَأَسْبَابُهُ، وَيَكْثُرُ الشَّرُّ وَأَسْبَابُهُ، وَأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ المُتَمَسِّكُ بِالدِّينِ مِنَ النَّاسِ أَقَلَّ القَلِيلِ، وَهَذَا القَلِيلُ فِي حَالَةِ شِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، كَحَالَةِ القَابِضِ عَلَى الجَمْرِ، مِنْ قُوَّةِ المُعَارِضِينَ، وَكَثْرَةِ الفِتَنِ المُضِلَّةِ، فِتَنِ الشُّبُهَاتِ وَالشُّكُوكِ وَالإِلْحَادِ، وَفِتَنِ الشَّهَوَاتِ وَانْصِرَافِ الخَلْقِ إِلَى الدُّنْيَا وَانْهِمَاكِهِمْ فِيهَا، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَضَعْفِ الإِيمَانِ، وَشِدَّةِ التَّفَرُّدِ؛ لِقِلَّةِ المُعِينِ وَالمُسَاعِدِ، وَلَكِنَّ المُتَمَسِّكَ بِدِينِهِ، القَائِمَ بِدَفْعِ هَذِهِ المُعَارَضَاتِ وَالعَوَائِقِ الَّتِي لاَ يَصْمُدُ لَهَا إِلاَّ أَهْلُ البَصِيرَةِ وَاليَقِينِ، وَأَهْلُ الإِيمَانِ المَتِينِ، مِنْ أَفْضَلِ الخَلْقِ، وَأَرْفَعِهِمْ عِنْدَ اللهِ دَرَجَةً، وَأَعْظَمِهِمْ عِنْدَهُ قَدْرًا.
وَأَمَّا الإِرْشَادُ، فَإِنَّهُ إِرْشَادٌ لِأُمَّتِهِ، أَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى هَذِهِ الحَالَةِ، وَأَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا، وَأَنَّ مَنِ اقْتَحَمَ هَذِهِ العَقَبَاتِ، وَصَبَرَ عَلَى دِينِهِ وَإِيمَانِهِ -مَعَ هَذِهِ المُعَارَضَاتِ- فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَسَيُعِينُهُ مَوْلاَهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ؛ فَإِنَّ المَعُونَةَ عَلَى قَدْرِ المَؤُونَةِ.
وَمَا أَشْبَهَ زَمَانَنَا هَذَا بهَذَا الوَصْفِ، الَّذِي ذَكَرَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ مِنَ الإِسْلامِ إِلاَّ اسْمُهُ، وَلاَ مِنَ القُرْآنِ إِلاَّ رَسْمُهُ، إِيمَانٌ ضَعِيفٌ، وَقُلُوبٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَحُكُومَاتٌ مَتَشَتِّتَةٌ، وَعَدَاوَاتٌ وَبَغْضَاءُ بَاعَدَتْ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَأَعْدَاءُ ظَاهِرُونُ وَبَاطِنُونَ، يَعْمَلُونَ سِرًّا وَعَلَنًا لِلْقَضَاءِ عَلَى الدِّينِ، وَإِلْحَادٌ وَمَادِّيَّاتٌ جَرَفَتْ بِخَبِيثِ تَيَّارِهَا وَأَمْوَاجِهَا المُتَلاَطِمَةِ الشُّيُوخَ وَالشُّبَّانَ، وَدِعَايَاتٌ إِلَى فَسَادِ الأَخْلاَقِ، وَالقَضَاءِ عَلَى بَقِيَّةِ الرَّمَقِ، ثُمَّ إِقْبَالُ النَّاسِ عَلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا، بِحَيْثُ أَصْبَحَتْ هِيَ مَبْلَغَ عِلْمِهِمْ، وَأَكْبَرَ هَمِّهِمْ، وَلَهَا يَرْضُونَ وَيَغْضَبُونَ، وَدِعَايَةٌ خَبِيثَةٌ لِلتَّزْهِيدِ فِي الآخِرَةِ، وَالإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى تَعْمِيرِ الدُّنْيَا، وَتَدْمِيرِ الدِّينِ، وَاحْتِقَارِهِ وَالاسْتِهْزَاءِ بِأَهْلِهِ، وَبِكُلِّ مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَفَخْرٌ وَفَخْفَخَةٌ وَاسْتِكْبَارٌ بِالمَدَنِيَّاتِ المَبْنِيَّةِ عَلَى الإِلْحَادِ الَّتِي آثَارَهُا وَشَرُّهَا وَشُرُورُهَا قَدْ شَاهَدَهُ العِبَادُ. فَمَعَ هَذِهِ الشُّرُورِ المُتَرَاكِمَةِ، وَالأَمْوَاجِ المُتَلاَطِمَةِ، وَالمُزْعِجَاتِ المُلِمَّةِ، وَالفِتَنِ الحِاضِرَةِ وَالمُسْتَقْبَلَةِ المُدْلَهِمَّةِ -مَعَ هَذِهِ الأُمُورِ وَغَيْرِهَا- تَجِدُ مِصْدَاقَ هَذَا الحَدِيثِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ المُؤْمِنَ لاَ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَلاَ يَكُونُ نَظَرُهُ مَقْصُورًا عَلَى الأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ يَكُونُ مُلْتَفِتًا فِي قَلْبِهِ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى مُسَبِّبِ الأَسْبَابِ، الكَرِيمِ الوَهَّابِ، وَيَكُونُ الفَرَجُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَوَعْدُهُ الَّذِي لاَ يُخْلِفُهُ بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ تَفْرِيجَ الكُرُبَاتِ مَعَ شِدَّةِ الكُرُبَاتِ، وَحُلُولِ المُنَغِّصَاتِ، فَالمُؤْمِنُ مَنْ يَقُولُ فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا، اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، وَإِلَيْكَ المُشْتَكَى، وَأَنْتَ المُسْتَعَانُ وَبِكَ المُسْتَغَاثُ، وَلَا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، وَيَقُومُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الإِيمَانِ وَالنُّصْحِ وَالدَّعْوَة، وَيَقْنَعُ بِاليَسِيرِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الكَثِيرُ، وَبِزَوَالِ بَعْضِ الشَّرِّ وَتَخْفِيفِهِ إِذَا تَعَذَّرَ غَيْرُ ذَلِكَ؛ [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] {الطَّلاق:2}، [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ] {الطَّلاق:3}، [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا] {الطَّلاق:4}، انْتَهَى كَلاَمُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ قُلُوبَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ، وَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهَا إِلَى زَوَالٍ؛ [قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا]{النساء:77}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَمُرُّ الأُمَّةُ بِفَتْرَةٍ عَصِيبَةٍ يَتَخَطَّفُ كَثَيرًا مِنْ شَبَابِهَا تَيَّارَاتٌ مُنْحَرِفَةٌ، وَأَفْكَارٌ ضَالَّةٌ، وَشُبُهَاتٌ تُؤَثِّرُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَتَعْصِفُ بقُلُوبِهِمْ، وَتُلْقِي بِهِمْ فِي أَحْضَانِ الإِرْجَاءِ أَوِ الغُلُوِّ، وَتَرِدُ الشُّبْهَةُ عَلَى قَلْبِ الوَاحِدِ مِنْهُمْ فَلاَ يَدْفَعُهَا بِالعِلْمِ، بَلْ يَسْتَسْلِمُ لَهَا حَتَّى تَفْتِكَ بِهِ لَوَازِمُهَا.
فَمِنْهُمْ مَنْ يُورِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَلْبِهِ أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ لَوْ كَانَتْ عَلَى حَقٍّ لَمَا كَانَتْ فِي مُؤْخِرَةِ الرَّكْبِ، وَلَوْ أَنَّ مَنْهَجَهَا صَحِيحٌ لَقَادَهَا إِلَى العِزِّ وَالمَجْدِ، فَيَسْتَسْلِمُ لهَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَيَرَى أَنَّ الدِّينَ يَجِبُ فَصْلُهُ عَنِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَبْقَى فِي المَسْجِدِ لاَ يَتَعَدَّى عَتَبَتَهُ، كَمَا كَانَ دِينُ النَّصَارَى فِي الكَنِيسَةِ لاَ يُبَارِحُهَا، فَيُحِلَّ بِشُبْهَتِهِ مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى، وَيَلْغِيَ سِيَادَةَ الشَّرِيعَةِ عَلَى النَّاسِ، وَيَهَوِّنَ حُقُوقَ اللهِ تَعَالَى فِي نُفُوسِهِمْ، فَيَضِلَّ وَيَدْعُوَ إِلَى الضَّلالِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَى شَرِيعَتِهِ الغَرَّاءِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَكْسَهُ، فَيَرَى مَا فِي الأُمَّةِ مِنْ مُنْكَرٍ وَانْحِرَافٍ، وَمَا أَصَابَهَا مِنْ ضَعْفٍ وَانْحِطَاطٍ، فَيُصِيبُهُ اليَأْسُ وَالإِحْبَاطُ مِنْ صَلاَحِ حَالِهَا، وَأَنَّ طَرِيقَ الدَّعْوَةِ بِالحُسْنَى طَوِيلَةٌ إِنْ أَدَّتْ إِلَى الإِصْلاحِ، وَهُوَ مُسْتَعْجِلٌ يَنْشُدُ العِزَّ وَالنَّصْرَ، فَيُكَيِّفُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى مُرَادِهِ، وَيَظُنُّ أَنَّ الغُلُوَّ والتَّكْفِيرَ وَالعُنْفَ طَرِيقُ خَلاَصِهِ، وَيُلْزِمُ عُمُومَ الأُمَّةِ بِلَوَازِمَ لاَ تَلْزَمُهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَصِلُ بِهِ غُلُوُّهُ إِلَى أَنَّ مَنْ لاَ يُوافِقُهُ تَقَعُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الكُفْرِ وَاسْتِبَاحَةُ دَمِهِ، كَمَا قَدْ خَرَجَتْ جَمَاعَةٌ فِي بِلادِ المُسْلِمِينَ قَبْلَ نِصْفِ قَرْنٍ تَقْرِيبًا وَلاَ يَزَالُ لَهَا أَتْبَاعٌ سُمِّيَتْ بِالتَّوَقُّفِ وَالتَّبَيُّنِ، تَعْرِضُ فِكْرَهَا عَلَى النَّاسِ فَمَنْ لَمْ يُوَافِقْهَا كَفَّرَتْهُ وَاسْتَبَاحَتْ دَمَهُ، حَتَّى لَكَأنَّ زَعِيمَهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ مَلَكٌ مَعْصُومٌ، وَتَشَظَّى مَنْ يَنْتَهِجُ العُنْفَ فِي التَّغْيِيرِ، وَالتَّخْرِيبَ فِي الإِصْلاحِ إِلَى فِرَقٍ شَتَّى، وَمَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ، قَذَفُوا بِشُبُهَاتِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الشَّبَابِ، فَأَوْرَدُوهُمُ المَهَالِكَ.
وَإِلاَّ فَإِنَّ التَّخْرِيبَ فِي بِلادِ المُسْلِمِينَ، وَعَدَمَ التَّحَرُّزِ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ المَعْصُومِينَ، وَخَطْفَ الدِّبْلُومَاسِيِّينَ، وَالمُسَاوَمَةَ بِهِمْ لَنْ يُؤَدِّي إِلاَّ إِلَى مَزِيدٍ مِنَ الفَسَادِ وَالإِفْسَادِ، وَالفُرْقَةِ وَالاخْتِلافِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيعِ مَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ المُسْلِمِينَ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ الحَاقِدِينَ.
وَهَكَذَا تَاهَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّبَابِ فِي عَوَاصِفِ الأَفْكَارِ وَالأَهْوَاءِ، وَاقْتَسَمَتْهُمْ أَمْوَاجُ الغُلُوِّ وَالإِرْجَاءِ، وَأَحَاطَتْ بِهِمْ فِتَنُ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَيَدْعُونَ غَيْرَهُمْ إِلَى انْحِرَافِهِمْ، حَتَّى أَضْحَى المُتَمَسِّكُ بِدِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ، وَلاَ عَاصِمَ إِلاَّ اللهَ تَعَالَى، وَلاَ نَجَاةَ إِلاَّ بِالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِهِ، وَلُزُومِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ، الَّذِين قَضَوْا أَعْمَارَهُمُ المَدِيدَةَ فِي العِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالزُّهْدِ وَالعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ بَرَكَةَ عِلْمِهِمْ مَرْجُوَّةٌ، وَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ مُجَابَةٌ، وَهُمْ حَقِيقُونَ بِتَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْدِيدِهِ، فَمَنْ لَزِمَهُمْ أَفْلَحَ وَنَجا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
القابض على الجمر.doc
القابض على الجمر.doc
القَابِضُ عَلَى الجَمْرِ.doc
القَابِضُ عَلَى الجَمْرِ.doc
المشاهدات 6460 | التعليقات 6
جزاك الله خيرا على هذه الخطبة العظيمة في محتواها والجزلة في معناها والتي خرجت عن إطار الشجب والاستنكار المتكرر والمعروف لهذه الفئة الباغية
وحقيقة ياشيخنا قد وضعت النقاط على الأحرف بطريقة اكثر من الإبداااااع فبارك الله لك في علمك وعملك وجهدك وجعل ذلك في ميزان حسناتك
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فشكر الله لكم يا شيخ إبراهيم سرعة استجابتكم وجعل ذلك في ميزان حسناتكم وجزاكم عنا خير الجزاء.
والسلام عليكم.
سددك الله ونفعنا بك
موفق شيخنا كعادتك أحسنت الاختيار للموضوع ووفقت في الحديث عنه
إرجاع الخطيب ما يحدث من فتن وحوادث وما ينزل بالناس من مصائب إلى أنفسهم وبسبب تفريطهم هو المنهج الحق وهو الطريق الصحيح للعودة والأوبة "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير" "أولما أصابتكم مصيبة قلتم أنا هذا قل هو من عند أنفسكم"
شكر الله تعالى لكم إخوتي الأكارم مروركم وتعليقكم وأسأل الله تعالى أن يعلي قدركم، ويرفع ذكركم، ويستجيب دعواتكم المباركة..آمين.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بعلمك
تعديل التعليق