الفوضى الخلَّاقة ودَورُها في فِتن الشُّعوبِ الإسلاميَّةِ
الغزالي الغزالي
1434/01/22 - 2012/12/06 20:05PM
الفوضى الخلَّاقة ودَورُها في فِتن الشُّعوبِ الإسلاميَّةِ 23 محرم 1434هـ 07/12/2012
الْحَمْدُ للهِ الذي جعلَ في كلِّ زمانِ فترةٍ مِن الرّسُل بقايا من أهل العلم ؛ يَدعونَ من ضلَّ إلى الهُدى ، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون - بنور الله- أهل العَمَى، وَنشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، له الأسماءُ الحُسنى والصفاتُ العُلَى، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أرسَلَه الله بالبيِّناتِ والهُدى، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وأتباعِهِ، وَعلى رسل الله وأنبيائه، ومن تبِعهم بإحسانٍ وإيمانٍ ما بدا صُبْحٌ وأضحى..
أَمَّا بَعْدُ: فيا أيُّها الناسُ، اتقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى، واستمسِكُوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى، واحذروا سخطَ اللهِ فإنَّ أجسادَكُم على النَّار لا تقوى!؟ أيُّها المسلمون.. كثيرةٌ هي المصطَلحاتُ التي قد تَفهمُ حُروفَها، وتُدرِكُ ألفاظَها؛ لكنْ: ليس مِن السُّهولةِ بمكانٍ إدراكُ حقيقةِ معناها، وإدراكُ تَمامِ المُرادِ بها؛ إلا مِن خلالِ صورةٍ واقعيَّةٍ، أو تمثيلٍ حيٍّ لها؛ حينئذٍ: نفهمُ المقصودَ من ذاك المصطلح، أو هذا الاصطِلاح. فمثلا مُصطلح «الفَوضَى الخلَّاقة»! هل سمعتُم به قبل هذه السَّاعة؟! مصطلحٌ تنازَع إشهارَه وتعريفَه وإطلاقَه كثيرٌ مِن المُفكِّرين الغربيِّين، وبخاصَّةٍ منهم: مَن كان ماسونيًّا. و«الماسونيَّة»: منظَّمة خطيرةٌ، ظاهرُها فيه إظهارُ الرَّحمة، وباطنُها فيه العذابُ، والبُعد عن الحقِّ والهدى والصَّواب، حتى اغترَّ بها بعضُ أهلِ العلم في أوائلِ القَرن الماضي؛ فانضمُّوا إليها؛ لأنَّها تَدعو إلى عَناوين كُبرى؛ كالحريَّة، والإخاء، والمساواة، والعمل الاجتِماعي، والانفِتاح.. وغير ذلك؛ فكان هذا المصطلح: «الفَوضَى الخلَّاقة». ويُفسِّرونه ؛ بأنَّه: إحداثُ فوضَى مُتعمَّدة، في مجتمعٍ أو مجتمعات، يكونُ بعدَها ظُروفٌ أُخرى مُتغيِّرة، فيها راحةُ هذه المجتَمعات وسعادتُها! هكذا يقولون! وهكذا يزعمون! ويكأنَّ جَدولَهم قد ابتدأ تَنفيذُه، ومخطَّطهم قد باشَروا باعتِمادِه.. وفي السَّنَتين الأخيرتين ظهر مشروعهم إلى العلن، مترافقا مع الأحداث الدامية التي تشهدها المنطقة العربية، والتي لم تتوقف إلى الآن! بل الأمور تتسارع، وتتسابقُ فيما بينها جدًّا؛ فتكادُ هذه الفَوضى الخلَّاقة -كما يَزعُمون- تنتشرُ في العالَم العربيِّ الإسلاميِّ كلِّه -مِن شرقِه إلى غربِه، ومِن مُحيطه إلى خَليجِه-، وما ليس ظاهرًا منها؛ فإنَّه يُهيَّأ أمرُه، وتُحضَّر شؤونُه؛ على حدِّ قولِ الشَّاعر:
أرى خِلَل (بين) الرَّمادِ وميضَ نارٍ ** ويوشِك أن يكونَ لها ضِرامُ (أي اشتعال و التهاب)
الأمرُ ليس سهلًا.. الكثيرُ من الشُّعوب -للأسف!- لم تستوِ على قاعدةِ الشَّرع، ولم تستقر على ما يَضبطُها مِن كتاب الله ومِن سُنن رسول الله؛ فتضطربُ في الأولويَّات، ولا تنضبط في الأساسيَّات؛ فإذا بها تَخرجُ مِن غير وعيٍ، وتتجمَّع مِن غيرِ إدراك؛ على حدِّ ذلك المثل العربي: «النَّاسُ كَأسرابِ القَطا يُقلِّد بعضُهم بعضًا». نعم؛ نحنُ لا نَرضى الفَسادَ، ولا نَقبلُ الظُّلم، ونرفُض الاستِئثار، ونَأبَى الضَّيمَ، ولا نَقبَل القليلَ مِن ذلك ولا الكثيرَ؛ لكن النَّبيَّ ، وهو الذي لا يَنطقُ عن الهوى، وهو القائلُ: «ما تَركتُ مِن أمْرٍ يُقَرِّبُكُمْ إلى اللهِ؛ إلا وأمَرتُكُم بِه وبيَّنتُه لكم، وما تركتُ مِن أمرٍ يُبعدُكم عن اللهِ؛ إلا نَهَيتُكم عنهُ وبيَّنتُه لكم» -أو كما قال. فما بالُنا: نأنَسُ بهذه الثَّقافة الغرِيبةِ الغربيَّة، ونَقبَلُها ظانِّينَ أنَّ فيها الفَلاح، وأنَّ فيها النَّجاةَ، وفيها الخُروج مِن مآزِقِنا؟! غافِلين -بل مُتغافِلين- عن قولِ سيِّد النَّبيِّين في حديثِ أنسٍ في «صحيحِ البُخاري»: عندما جاءَهُ أحدُ أصحابِه يشكوهُ ظُلمَ الحَجَّاجِ؛ فقال: «ما مِن عامٍ إلا والَّذي بعدَه شرٌّ مِنه حتَّى تَلقَوا ربَّكم. سمعتُ هذا مِن نبيِّكم»، وكان يشتكيهِ مَن؟ الحجَّاج! وفي بعضِ آثارِ السَّلف: أنَّهم جاؤوا يشتكون -أيضًا- الحجَّاج إلى بعضِ أهلِ العلم؛ فمَهَّلهم؛ قائلًا: «إنَّ ثمَّةَ حجَّاجين كثيرين»!! وإذْ يُخبِر نبيُّنا أنَّ الأعوام والأزمان القادمة شرٌّ مِن الحاليَّة -بعُمومِها، وبجُملتِها-؛ فإنَّ هذا يجبُ أن يجعلنا نتأنَّى أكثر، وأن لا ننساقَ وراء الشِّعارات البرَّاقة، ووراء العناوينِ الرَّنَّانة؛ حتى لا نكونَ ولا تكونَ شُعوبُنا والنَّاس الذين نحنُ بينهم وهم بيننا؛ أن لا نكونَ همجًا رَعاعًا أتباعَ كلِّ ناعقٍ، وبخاصَّة: أنَّ الجامعَ لهذا الذي جَرَى ، ويجري.. هناك وهنالك.. يُريدون مِن ورائِه تصديرَ الثَّورة -كما يقولون-، ثم نَقْلَها إلى حيثُ يُريدون ويَشاؤون، مُغترِّين بالدَّعم الإعلاميِّ والإعلانيِّ المتدفِّق من الفضائيَّات -أو بعضِ الفضائيَّات- المُسيَّرة وفق أجندةٍ خاصَّةٍ، وكذلك مِن دول العالَمِ الغربيَّة التي تدَّعي الدِّيمقراطيَّة والحُريَّة، والتي صارتْ كأنَّها اللِّسان النَّاطق لبعضِ شُعوبِنا الإسلاميَّة. الأمرُ أخطرُ مِن أن يكونَ مجرَّد مُظاهرات عفوية، الأمرُ أخطرُ مِن أن يكونَ مجرَّد مُطالبةٍ بحقوقٍ دُنيويَّة؛ لاستِردادِها والمطالبة بها. الأمرُ إنَّما هو تطبيقٌ لتلكمُ الفَوضى الخلَّاقة المزعومة في مجتمعاتِ العربِ والمسلمين، والتي يَخشَون منها أن تَرجعَ في يومٍ ما إلى ربِّها، وأن تَفهمَ دِينَها، وأن تعملَ بِحقِّها. وواللهِ؛ لو أنَّ هذا اليومَ جاء؛ لكانَ في ذلك خيرٌ للبشريَّة -كلِّها-، وصلاحٌ للإنسانيَّة -جميعِها-، وإن كان الذي يُصوَّر اليوم -في وسائل الإعلام المُشار إليها-: أن الإسلامَ دينُ الإرهاب، وأنَّ المسلمين مصَّاصون للدِّماء؛ وذلك بناءً على نماذجَ وصُوَرٍ تُمثِّل -في نفسِها، وفي مواقِفِها- الإسلام؛ وإن هي إلا حِزبيَّةٌ، وعصَبيَّة، أو قبَليَّة، أو عشائريَّة، دون أن يكونَ من ذلك كلِّه أدنى صِلة بالإسلام الحقِّ الذي أنزلهُ الله الحقُّ على نبيِّه محمَّد بالحقِّ.. مَن رأى العبرةَ بأخيه؛ فلْيعتبر، و«السعيدُ من وُعظ بغيرِه» -كما قال ابنُ مسعودٍ-، والنَّبي يقول: «لا يُلدَغُ مؤمنٌ مِن جُحرٍ واحدٍ مرَّتَين». أيها المسلمون: ليست أمَّتنا وشعوبُنا حقلَ تجاربٍ، تُجرَّب فيها النَّظريَّات، وتُمارَس عليها أشنعُ الممارَسات، ويُوعَد فيها هؤلاء الشُّعوب بِوُعودٍ أنكَى وأكذب مِن وُعودٍ عُرقوب! ويعيشون ويحلمون بأحلامٍ ورديَّة! يظنُّون أنَّهم -بذلك- سينالون الحُريَّة، وسينالون الدِّيمقراطيَّة، وسيتنعَّمون بالأموال، ويعيشونَ رغدَ الحياةِ!! ولن يكونَ شيءٌ من ذلك؛ لأن الأمرَ أكبرُ مِن ذلك، وأعظم مِن ذلك، والفِتنةُ أشدُّ من ذلك، والآتي أعظمُ من الواقعِ المُعاش! والعجبُ -الذي لا يَكادُ ينقضي-: مِن أناسٍ يُظنُّ أنَّهم أهلُ علمٍ، ويُظنُّ أنَّهم أهلُ دِينٍ، فإذا بِحزبيَّتِهم تَغلبُ علمَهم، وإذا بِعصبيَّتِهم تُغالِب دينَهم - نسأل الله تَعالى-العافيةَ-؛ فيتكلَّمون بالكلامِ الأهوج الذي لا وجهَ له، ولا حقَّ له، وينظُرون إلى الأمور نظرةً ضيِّقةً ليس فيها تطلُّعٌ إلى مصلحةِ الأمَّة، وليس فيها نظرٌ إلى الفائدةِ المَوصُولةِ بمجموعِها؛ وإنَّما فوائدُها -إن وُجدتْ- لا تعدو مَحدوديَّتها، ولا تَعدُو إطارَها، ومِضمارَها الذي هم يُريدونه -لا غيرَ-.. أما آنَ للأمَّة أن تعتبرَ وتعبر بنفسِها في نفسِها عن نفسِها، وأن لا تكونَ خفيفةً يحرِّكها أصحابُ الحناجِر، أو حملةِ الخناجِر، الذين يُريدون للأمَّة وبها سُوءًا مع كونِهم يعِدونها بغيرِ ذلك. وكما قيل -في أخبارِ بني إسرائيل، التي قال فيها النَّبي: «حَدِّثوا عن بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا حَرَجَ»-: أن حواريِّي عيسى -عليهِ السَّلام- سمِعوهُ يقولُ: «إنَّه سيكونُ بَعدي أنبياءُ كذَبَة»، فقالوا: كيف نَعرِفُهم؟ قال: «مِن ثِمارِهم تَعرِفُونَهم». ونحن نقول: هؤلاء الأدعياء، وأولئكَ السفهاء الذين تصدَّروا الصُّورةَ، وفُتحت لهم الفضائيَّات، وتوسَّعوا؛ فصار هذا الزَّمان كأنَّه زمانهم؛ «مِن ثمارِهم تعرفونَهم»! وكثير منهم -ومنذ سنين - وهم على ما هم عليه مِن: تقسيمِ الأمَّة وتحزيبِها وتخريبِها، وإيقاعِها بألوانٍ مِن الشُّرور، وبأصنافٍ مِن الوَيل والثُّبور!! فلا يجوزُ للمسلمين أن يكونوا أداةً بِيَد أعدائِهم؛ لِنُنفِّذَ خُطَطَهم باسم «الحريَّة»؛ وهي الأفعى التي ستلتفُّ على أعناقِنا إن لم نتنبَّه ونَحذَر، ليكونَ -بعدُ- مقتلُنا بأيدينا، ونحن نحسب أنَّنا مِن المُحسِنين صُنعًا! ورحمَ اللهُ مَن قال -من أئمَّة العلم-: «فلانٌ كحاطبِ الليل؛ يَظنُّ نفسَه قد التَقَطَ العصا؛ فإذا به يأخذُ الأفعى؛ فتلدغُه؛ فيموت»!
نسأل الله العظيمَ ربَّ العرشِ العظيم: أن يحفظَ أمَّة الإسلام، وأن يُجنبَها الفِتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يُبصِّرها بِعُيوبِها، وأن يَردَّ شعوبها ووُلاةَ أُمورِها إلى ما فيه الهُدى والرَّشاد، وإلى ما فيه العملُ بكتاب الله وبِسُنَّة رسوله سيد العباد؛ فإنَّ ذلك خيرٌ محضٌ كلُّه، للفَرد والمجتمع؛ بل للأمَّة -كلِّها-طولًا وعرضًا، شرقًا وغربًا-.. وليس لها من دونِ الله كاشِفة.. أقُولُ قَوْلي هَذَا..
الْحَمْدُ للهِ، ابتلَى العبادَ فأسعدَ وأشقَى.. نشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه العليُّ الأعلى، ونشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُه أحسنُ الخَلقِ خُلُقًا وخَلْقاً، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وَعَلَى آلِهِ وَصحبهِ، وَعلى أنبياء الله ورسله.. أَمَّا بَعْدُ: مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: يقول الله، جل في علاه: ﴿ لوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾. والخبال : الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف . قال الإمام الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) : ‘ والمعنى : يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد ‘ وقد خرجوا ! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اعلموا – هدانا وإياكم الله – أن شأن الكلمة عظيم ، وأثرها جسيم ، فإذا صَدرت رُصدت ؛ فإن هيّجت الناس – وفيهم الرعاع والغوغاء !! – نبتت الفتن في القلوب، وادلهمت الخطوب؛ رحم الله من قال : ‘ ( الخروج! ) بالكلمة، أشد من الخروج بالسلاح .. واستغلال وسائل الإعلام والاتصال الحديثة للتنفير والتحريض، والتحميس والتحريش يربي الفتنة في القلوب ‘ . وأي قضية أو مسألة تمس ( المسلمين ) : من قضايا المال أو العيال أو العمال ، يجب فيها - وجوباً بيّناً لا ريب فيه – أن تردّ إلى الخبراء والعلماء ؛ لا إلى أحد سواهم من ( الدخلاء !! ) ؛ وإلا صار الأمر خبط عشواء ، وفتنة دهماء . والنار أولها شرارة، ثم تكون جحيماً !! والفتنة أولها كلمة.. ! فإن كانت من الأصاغر، عظم الشر ؛ قال عبد الله بن مسعود : " لا يزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد ومن أكابرهم ، فإذا أتاهم من أصاغرهم ! هلكوا ". فكيف بمن يحرّر ثم يقرّر، ثمّ يثوّر ويفوّر !!والعجب اليوم أنهم – لمّا فقدوا العلم النافع ! – صاروا كحال المنافقين ؛ يختلقون القصص لإثارة الناس وإيقاع الفتنة بينهم؛ لم يحسنوا الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ قال رسول الله: " كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ". وقد أحجم النبي عن ذكر المنافقين ترجيحاً منه للمصلحة الأعلى، من التعريف بهم .وفي الصحيحين، أن أبا هريرة كره التحديث بحديث " الجِرابَيْن "، قال: (أوتيت جرابين من العلم..) أي : نوعين من العلم. وفي رواية: (حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وِعَاءَيْنِ ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ) .أخرجَهُ البُخَاريُّ. وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم ، كقوله : أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة. واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. قال ابن المنير: وإنما أراد أبو هريرة بقوله : " قطع رأسي " أي : قطع أهل الجور رأسه، إذا سمعوا عيبه لفعلهم، وتضليله لسعيهم.. وكره تنقص بعض الحكام – لظهور بوادر الخروج عليهم في وقته مع تفشي ( الجهل )، وكان يقول : ‘ لو شئتم لسمّيتهم ! ‘ قال الحافظ: ‘ ولهذا كره أحمد التحديث ببعض دون بعض الأحاديث التي ظاهرها (الخروج! ) على السلطان ..’ فتأمل تصرف هؤلاء الحكماء من الفقهاء ، وقارن بينه وبين متناقضي زماننا !! ‘ فهل هو حب الفتن والمحن ، وإلا والله لا خير فيما يقولون ؛ ولا طائلة أو منفعة فيما يقصّون ! إنهم باختصار ( يريدونها ) فوضى بناءة أو خلاقة، وهذا عين البلاء ! فأين العقلاء ! نسأل الله العظيم أن يجنبنا الفتن والفتّانين، وأن يجعل بلدنا مطمئناً آمناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين .. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.. اَللّـهُمَّ إنَا لم نخرج في هذا اليوم المبارك أشراً ولا بَطَراً، ولا رِيَاء ولا سُمعة.. ولكنّا خرجنا اْبتغاءَ مَرْضاتك، واتقاء سُخْطك، فنسألك بحقك على جميع خَلْقك، أن تَرْزُقنا من الخير أكثر ممّا نرجو، وتَصرْف عنّا من الشر أكثر مما نخاف. اللهم إنا نسألك عملاً باراً، ورِزْقاً دارًّاً، وعَيْشاً قارًا. اللهم اجعل إيماننا كالجبلِ لا تُحَرِّكه العواصف، ولا تُزيله القَواصف. اللهم اجعلنا من أصدق الناس إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأحسنهم خُلُقاً.. اللهم لا تفْلل حُجَّتنا، ولا تضْعف بصيرتنا، ولا تجْبن أنفسنا.. اللهم إليك نرفع أكفنا رفع العَبْدِ الذليل، إلى سيّده الجليل. يا مَن تُرَجَّى لكل عَظيم، اغفر لنا الذنب العَظيم. يا عُدّتنا عند كُرْبتنا، ويا من أنت معنا في غُربتنا، ويا غَايَتنا عند شِدّتنا، ويا رَجاءنا إذا انقطعت حِيلتنا اجعل لي فَرَجاَ وَمَخْرجاً. اللهم أجِرْنا من عَذابك، وأغْنِنا من سعَة فَضْلك. اللهم وَسِّع علينا في الدنيا وزَهِّدنا فيها، ولا تُزْوِها عَنا وتُرَغبنا فيها. اللهم ارحم في الدُّنيا غُرْبتنا، وعند الموت صَرْعتنا، وفي القُبور وحْدَتنا، ومَقامنا غداً بين يديك.. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن.. ربنا آتنا في .. (آمين).. عبادَ اللهِ! اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشكرُوهُ علَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
الْحَمْدُ للهِ الذي جعلَ في كلِّ زمانِ فترةٍ مِن الرّسُل بقايا من أهل العلم ؛ يَدعونَ من ضلَّ إلى الهُدى ، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون - بنور الله- أهل العَمَى، وَنشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، له الأسماءُ الحُسنى والصفاتُ العُلَى، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أرسَلَه الله بالبيِّناتِ والهُدى، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وأتباعِهِ، وَعلى رسل الله وأنبيائه، ومن تبِعهم بإحسانٍ وإيمانٍ ما بدا صُبْحٌ وأضحى..
أَمَّا بَعْدُ: فيا أيُّها الناسُ، اتقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى، واستمسِكُوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى، واحذروا سخطَ اللهِ فإنَّ أجسادَكُم على النَّار لا تقوى!؟ أيُّها المسلمون.. كثيرةٌ هي المصطَلحاتُ التي قد تَفهمُ حُروفَها، وتُدرِكُ ألفاظَها؛ لكنْ: ليس مِن السُّهولةِ بمكانٍ إدراكُ حقيقةِ معناها، وإدراكُ تَمامِ المُرادِ بها؛ إلا مِن خلالِ صورةٍ واقعيَّةٍ، أو تمثيلٍ حيٍّ لها؛ حينئذٍ: نفهمُ المقصودَ من ذاك المصطلح، أو هذا الاصطِلاح. فمثلا مُصطلح «الفَوضَى الخلَّاقة»! هل سمعتُم به قبل هذه السَّاعة؟! مصطلحٌ تنازَع إشهارَه وتعريفَه وإطلاقَه كثيرٌ مِن المُفكِّرين الغربيِّين، وبخاصَّةٍ منهم: مَن كان ماسونيًّا. و«الماسونيَّة»: منظَّمة خطيرةٌ، ظاهرُها فيه إظهارُ الرَّحمة، وباطنُها فيه العذابُ، والبُعد عن الحقِّ والهدى والصَّواب، حتى اغترَّ بها بعضُ أهلِ العلم في أوائلِ القَرن الماضي؛ فانضمُّوا إليها؛ لأنَّها تَدعو إلى عَناوين كُبرى؛ كالحريَّة، والإخاء، والمساواة، والعمل الاجتِماعي، والانفِتاح.. وغير ذلك؛ فكان هذا المصطلح: «الفَوضَى الخلَّاقة». ويُفسِّرونه ؛ بأنَّه: إحداثُ فوضَى مُتعمَّدة، في مجتمعٍ أو مجتمعات، يكونُ بعدَها ظُروفٌ أُخرى مُتغيِّرة، فيها راحةُ هذه المجتَمعات وسعادتُها! هكذا يقولون! وهكذا يزعمون! ويكأنَّ جَدولَهم قد ابتدأ تَنفيذُه، ومخطَّطهم قد باشَروا باعتِمادِه.. وفي السَّنَتين الأخيرتين ظهر مشروعهم إلى العلن، مترافقا مع الأحداث الدامية التي تشهدها المنطقة العربية، والتي لم تتوقف إلى الآن! بل الأمور تتسارع، وتتسابقُ فيما بينها جدًّا؛ فتكادُ هذه الفَوضى الخلَّاقة -كما يَزعُمون- تنتشرُ في العالَم العربيِّ الإسلاميِّ كلِّه -مِن شرقِه إلى غربِه، ومِن مُحيطه إلى خَليجِه-، وما ليس ظاهرًا منها؛ فإنَّه يُهيَّأ أمرُه، وتُحضَّر شؤونُه؛ على حدِّ قولِ الشَّاعر:
أرى خِلَل (بين) الرَّمادِ وميضَ نارٍ ** ويوشِك أن يكونَ لها ضِرامُ (أي اشتعال و التهاب)
الأمرُ ليس سهلًا.. الكثيرُ من الشُّعوب -للأسف!- لم تستوِ على قاعدةِ الشَّرع، ولم تستقر على ما يَضبطُها مِن كتاب الله ومِن سُنن رسول الله؛ فتضطربُ في الأولويَّات، ولا تنضبط في الأساسيَّات؛ فإذا بها تَخرجُ مِن غير وعيٍ، وتتجمَّع مِن غيرِ إدراك؛ على حدِّ ذلك المثل العربي: «النَّاسُ كَأسرابِ القَطا يُقلِّد بعضُهم بعضًا». نعم؛ نحنُ لا نَرضى الفَسادَ، ولا نَقبلُ الظُّلم، ونرفُض الاستِئثار، ونَأبَى الضَّيمَ، ولا نَقبَل القليلَ مِن ذلك ولا الكثيرَ؛ لكن النَّبيَّ ، وهو الذي لا يَنطقُ عن الهوى، وهو القائلُ: «ما تَركتُ مِن أمْرٍ يُقَرِّبُكُمْ إلى اللهِ؛ إلا وأمَرتُكُم بِه وبيَّنتُه لكم، وما تركتُ مِن أمرٍ يُبعدُكم عن اللهِ؛ إلا نَهَيتُكم عنهُ وبيَّنتُه لكم» -أو كما قال. فما بالُنا: نأنَسُ بهذه الثَّقافة الغرِيبةِ الغربيَّة، ونَقبَلُها ظانِّينَ أنَّ فيها الفَلاح، وأنَّ فيها النَّجاةَ، وفيها الخُروج مِن مآزِقِنا؟! غافِلين -بل مُتغافِلين- عن قولِ سيِّد النَّبيِّين في حديثِ أنسٍ في «صحيحِ البُخاري»: عندما جاءَهُ أحدُ أصحابِه يشكوهُ ظُلمَ الحَجَّاجِ؛ فقال: «ما مِن عامٍ إلا والَّذي بعدَه شرٌّ مِنه حتَّى تَلقَوا ربَّكم. سمعتُ هذا مِن نبيِّكم»، وكان يشتكيهِ مَن؟ الحجَّاج! وفي بعضِ آثارِ السَّلف: أنَّهم جاؤوا يشتكون -أيضًا- الحجَّاج إلى بعضِ أهلِ العلم؛ فمَهَّلهم؛ قائلًا: «إنَّ ثمَّةَ حجَّاجين كثيرين»!! وإذْ يُخبِر نبيُّنا أنَّ الأعوام والأزمان القادمة شرٌّ مِن الحاليَّة -بعُمومِها، وبجُملتِها-؛ فإنَّ هذا يجبُ أن يجعلنا نتأنَّى أكثر، وأن لا ننساقَ وراء الشِّعارات البرَّاقة، ووراء العناوينِ الرَّنَّانة؛ حتى لا نكونَ ولا تكونَ شُعوبُنا والنَّاس الذين نحنُ بينهم وهم بيننا؛ أن لا نكونَ همجًا رَعاعًا أتباعَ كلِّ ناعقٍ، وبخاصَّة: أنَّ الجامعَ لهذا الذي جَرَى ، ويجري.. هناك وهنالك.. يُريدون مِن ورائِه تصديرَ الثَّورة -كما يقولون-، ثم نَقْلَها إلى حيثُ يُريدون ويَشاؤون، مُغترِّين بالدَّعم الإعلاميِّ والإعلانيِّ المتدفِّق من الفضائيَّات -أو بعضِ الفضائيَّات- المُسيَّرة وفق أجندةٍ خاصَّةٍ، وكذلك مِن دول العالَمِ الغربيَّة التي تدَّعي الدِّيمقراطيَّة والحُريَّة، والتي صارتْ كأنَّها اللِّسان النَّاطق لبعضِ شُعوبِنا الإسلاميَّة. الأمرُ أخطرُ مِن أن يكونَ مجرَّد مُظاهرات عفوية، الأمرُ أخطرُ مِن أن يكونَ مجرَّد مُطالبةٍ بحقوقٍ دُنيويَّة؛ لاستِردادِها والمطالبة بها. الأمرُ إنَّما هو تطبيقٌ لتلكمُ الفَوضى الخلَّاقة المزعومة في مجتمعاتِ العربِ والمسلمين، والتي يَخشَون منها أن تَرجعَ في يومٍ ما إلى ربِّها، وأن تَفهمَ دِينَها، وأن تعملَ بِحقِّها. وواللهِ؛ لو أنَّ هذا اليومَ جاء؛ لكانَ في ذلك خيرٌ للبشريَّة -كلِّها-، وصلاحٌ للإنسانيَّة -جميعِها-، وإن كان الذي يُصوَّر اليوم -في وسائل الإعلام المُشار إليها-: أن الإسلامَ دينُ الإرهاب، وأنَّ المسلمين مصَّاصون للدِّماء؛ وذلك بناءً على نماذجَ وصُوَرٍ تُمثِّل -في نفسِها، وفي مواقِفِها- الإسلام؛ وإن هي إلا حِزبيَّةٌ، وعصَبيَّة، أو قبَليَّة، أو عشائريَّة، دون أن يكونَ من ذلك كلِّه أدنى صِلة بالإسلام الحقِّ الذي أنزلهُ الله الحقُّ على نبيِّه محمَّد بالحقِّ.. مَن رأى العبرةَ بأخيه؛ فلْيعتبر، و«السعيدُ من وُعظ بغيرِه» -كما قال ابنُ مسعودٍ-، والنَّبي يقول: «لا يُلدَغُ مؤمنٌ مِن جُحرٍ واحدٍ مرَّتَين». أيها المسلمون: ليست أمَّتنا وشعوبُنا حقلَ تجاربٍ، تُجرَّب فيها النَّظريَّات، وتُمارَس عليها أشنعُ الممارَسات، ويُوعَد فيها هؤلاء الشُّعوب بِوُعودٍ أنكَى وأكذب مِن وُعودٍ عُرقوب! ويعيشون ويحلمون بأحلامٍ ورديَّة! يظنُّون أنَّهم -بذلك- سينالون الحُريَّة، وسينالون الدِّيمقراطيَّة، وسيتنعَّمون بالأموال، ويعيشونَ رغدَ الحياةِ!! ولن يكونَ شيءٌ من ذلك؛ لأن الأمرَ أكبرُ مِن ذلك، وأعظم مِن ذلك، والفِتنةُ أشدُّ من ذلك، والآتي أعظمُ من الواقعِ المُعاش! والعجبُ -الذي لا يَكادُ ينقضي-: مِن أناسٍ يُظنُّ أنَّهم أهلُ علمٍ، ويُظنُّ أنَّهم أهلُ دِينٍ، فإذا بِحزبيَّتِهم تَغلبُ علمَهم، وإذا بِعصبيَّتِهم تُغالِب دينَهم - نسأل الله تَعالى-العافيةَ-؛ فيتكلَّمون بالكلامِ الأهوج الذي لا وجهَ له، ولا حقَّ له، وينظُرون إلى الأمور نظرةً ضيِّقةً ليس فيها تطلُّعٌ إلى مصلحةِ الأمَّة، وليس فيها نظرٌ إلى الفائدةِ المَوصُولةِ بمجموعِها؛ وإنَّما فوائدُها -إن وُجدتْ- لا تعدو مَحدوديَّتها، ولا تَعدُو إطارَها، ومِضمارَها الذي هم يُريدونه -لا غيرَ-.. أما آنَ للأمَّة أن تعتبرَ وتعبر بنفسِها في نفسِها عن نفسِها، وأن لا تكونَ خفيفةً يحرِّكها أصحابُ الحناجِر، أو حملةِ الخناجِر، الذين يُريدون للأمَّة وبها سُوءًا مع كونِهم يعِدونها بغيرِ ذلك. وكما قيل -في أخبارِ بني إسرائيل، التي قال فيها النَّبي: «حَدِّثوا عن بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا حَرَجَ»-: أن حواريِّي عيسى -عليهِ السَّلام- سمِعوهُ يقولُ: «إنَّه سيكونُ بَعدي أنبياءُ كذَبَة»، فقالوا: كيف نَعرِفُهم؟ قال: «مِن ثِمارِهم تَعرِفُونَهم». ونحن نقول: هؤلاء الأدعياء، وأولئكَ السفهاء الذين تصدَّروا الصُّورةَ، وفُتحت لهم الفضائيَّات، وتوسَّعوا؛ فصار هذا الزَّمان كأنَّه زمانهم؛ «مِن ثمارِهم تعرفونَهم»! وكثير منهم -ومنذ سنين - وهم على ما هم عليه مِن: تقسيمِ الأمَّة وتحزيبِها وتخريبِها، وإيقاعِها بألوانٍ مِن الشُّرور، وبأصنافٍ مِن الوَيل والثُّبور!! فلا يجوزُ للمسلمين أن يكونوا أداةً بِيَد أعدائِهم؛ لِنُنفِّذَ خُطَطَهم باسم «الحريَّة»؛ وهي الأفعى التي ستلتفُّ على أعناقِنا إن لم نتنبَّه ونَحذَر، ليكونَ -بعدُ- مقتلُنا بأيدينا، ونحن نحسب أنَّنا مِن المُحسِنين صُنعًا! ورحمَ اللهُ مَن قال -من أئمَّة العلم-: «فلانٌ كحاطبِ الليل؛ يَظنُّ نفسَه قد التَقَطَ العصا؛ فإذا به يأخذُ الأفعى؛ فتلدغُه؛ فيموت»!
نسأل الله العظيمَ ربَّ العرشِ العظيم: أن يحفظَ أمَّة الإسلام، وأن يُجنبَها الفِتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يُبصِّرها بِعُيوبِها، وأن يَردَّ شعوبها ووُلاةَ أُمورِها إلى ما فيه الهُدى والرَّشاد، وإلى ما فيه العملُ بكتاب الله وبِسُنَّة رسوله سيد العباد؛ فإنَّ ذلك خيرٌ محضٌ كلُّه، للفَرد والمجتمع؛ بل للأمَّة -كلِّها-طولًا وعرضًا، شرقًا وغربًا-.. وليس لها من دونِ الله كاشِفة.. أقُولُ قَوْلي هَذَا..
الْحَمْدُ للهِ، ابتلَى العبادَ فأسعدَ وأشقَى.. نشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه العليُّ الأعلى، ونشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُه أحسنُ الخَلقِ خُلُقًا وخَلْقاً، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وَعَلَى آلِهِ وَصحبهِ، وَعلى أنبياء الله ورسله.. أَمَّا بَعْدُ: مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: يقول الله، جل في علاه: ﴿ لوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾. والخبال : الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف . قال الإمام الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) : ‘ والمعنى : يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد ‘ وقد خرجوا ! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اعلموا – هدانا وإياكم الله – أن شأن الكلمة عظيم ، وأثرها جسيم ، فإذا صَدرت رُصدت ؛ فإن هيّجت الناس – وفيهم الرعاع والغوغاء !! – نبتت الفتن في القلوب، وادلهمت الخطوب؛ رحم الله من قال : ‘ ( الخروج! ) بالكلمة، أشد من الخروج بالسلاح .. واستغلال وسائل الإعلام والاتصال الحديثة للتنفير والتحريض، والتحميس والتحريش يربي الفتنة في القلوب ‘ . وأي قضية أو مسألة تمس ( المسلمين ) : من قضايا المال أو العيال أو العمال ، يجب فيها - وجوباً بيّناً لا ريب فيه – أن تردّ إلى الخبراء والعلماء ؛ لا إلى أحد سواهم من ( الدخلاء !! ) ؛ وإلا صار الأمر خبط عشواء ، وفتنة دهماء . والنار أولها شرارة، ثم تكون جحيماً !! والفتنة أولها كلمة.. ! فإن كانت من الأصاغر، عظم الشر ؛ قال عبد الله بن مسعود : " لا يزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد ومن أكابرهم ، فإذا أتاهم من أصاغرهم ! هلكوا ". فكيف بمن يحرّر ثم يقرّر، ثمّ يثوّر ويفوّر !!والعجب اليوم أنهم – لمّا فقدوا العلم النافع ! – صاروا كحال المنافقين ؛ يختلقون القصص لإثارة الناس وإيقاع الفتنة بينهم؛ لم يحسنوا الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ قال رسول الله: " كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ". وقد أحجم النبي عن ذكر المنافقين ترجيحاً منه للمصلحة الأعلى، من التعريف بهم .وفي الصحيحين، أن أبا هريرة كره التحديث بحديث " الجِرابَيْن "، قال: (أوتيت جرابين من العلم..) أي : نوعين من العلم. وفي رواية: (حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وِعَاءَيْنِ ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ) .أخرجَهُ البُخَاريُّ. وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم ، كقوله : أعوذ بالله من رأس الستين، وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة. واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. قال ابن المنير: وإنما أراد أبو هريرة بقوله : " قطع رأسي " أي : قطع أهل الجور رأسه، إذا سمعوا عيبه لفعلهم، وتضليله لسعيهم.. وكره تنقص بعض الحكام – لظهور بوادر الخروج عليهم في وقته مع تفشي ( الجهل )، وكان يقول : ‘ لو شئتم لسمّيتهم ! ‘ قال الحافظ: ‘ ولهذا كره أحمد التحديث ببعض دون بعض الأحاديث التي ظاهرها (الخروج! ) على السلطان ..’ فتأمل تصرف هؤلاء الحكماء من الفقهاء ، وقارن بينه وبين متناقضي زماننا !! ‘ فهل هو حب الفتن والمحن ، وإلا والله لا خير فيما يقولون ؛ ولا طائلة أو منفعة فيما يقصّون ! إنهم باختصار ( يريدونها ) فوضى بناءة أو خلاقة، وهذا عين البلاء ! فأين العقلاء ! نسأل الله العظيم أن يجنبنا الفتن والفتّانين، وأن يجعل بلدنا مطمئناً آمناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين .. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ.. اَللّـهُمَّ إنَا لم نخرج في هذا اليوم المبارك أشراً ولا بَطَراً، ولا رِيَاء ولا سُمعة.. ولكنّا خرجنا اْبتغاءَ مَرْضاتك، واتقاء سُخْطك، فنسألك بحقك على جميع خَلْقك، أن تَرْزُقنا من الخير أكثر ممّا نرجو، وتَصرْف عنّا من الشر أكثر مما نخاف. اللهم إنا نسألك عملاً باراً، ورِزْقاً دارًّاً، وعَيْشاً قارًا. اللهم اجعل إيماننا كالجبلِ لا تُحَرِّكه العواصف، ولا تُزيله القَواصف. اللهم اجعلنا من أصدق الناس إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأحسنهم خُلُقاً.. اللهم لا تفْلل حُجَّتنا، ولا تضْعف بصيرتنا، ولا تجْبن أنفسنا.. اللهم إليك نرفع أكفنا رفع العَبْدِ الذليل، إلى سيّده الجليل. يا مَن تُرَجَّى لكل عَظيم، اغفر لنا الذنب العَظيم. يا عُدّتنا عند كُرْبتنا، ويا من أنت معنا في غُربتنا، ويا غَايَتنا عند شِدّتنا، ويا رَجاءنا إذا انقطعت حِيلتنا اجعل لي فَرَجاَ وَمَخْرجاً. اللهم أجِرْنا من عَذابك، وأغْنِنا من سعَة فَضْلك. اللهم وَسِّع علينا في الدنيا وزَهِّدنا فيها، ولا تُزْوِها عَنا وتُرَغبنا فيها. اللهم ارحم في الدُّنيا غُرْبتنا، وعند الموت صَرْعتنا، وفي القُبور وحْدَتنا، ومَقامنا غداً بين يديك.. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن.. ربنا آتنا في .. (آمين).. عبادَ اللهِ! اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشكرُوهُ علَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
الغزالي الغزالي
الهم الطف بنا، و أصلح ذات بيننا.. آمين.
تعديل التعليق