الفوائدُ اللائحةْ - في مسائلِ الفاتحةْ
خالد علي أبا الخيل
الفوائدُ اللائحةْ - في مسائلِ الفاتحةْ
الحلقة الثانية - أسماءُ الفاتحةْ
التاريخ: الجمعة:22 –ربيع أول-1440ن هـ
الحمد لله، الحمد الذي أنزل علينا القرآن وجعله هدايةً ونبراسًا وبيان، وضمَّن الفاتحة أسرار القرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله جعل لكثرة المسمى فضلٌ وحسبان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سمَّى بعض سور القرآن، ومن ذلك فاتحة الشفاء والبرهان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أيها المسلمون: تقواه هي الموصِلة إلى رضاه، وفي تحقيقها ينال المرء مطلوبها ومُبتغاه.
وَإذا بحَثْتُ عَنِ التّقيّ وَجَدْتُهُ |
|
رَجُلًا، يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بفِعَالِ |
وَإذا اتَقَى الله امْرُؤٌ، وَأطاعَهُ |
|
فَيَداهُ بَينَ مَكارِمٍ وَمَعَالِ |
وعلى التَّقِيِّ إذا ترسَّخَ في التُّقى |
|
تاجان تاج سكينةٍ وجمالِ |
أيها الإخوة المباركون: مضى معنا في حلقةٍ سالفة وخطبةٍ ماضية فضل الفاتحة تحت سلسلة الفوائد اللائحة في مسائل الفاتحة، ومعنا الحلقة الثانية أسماء الفاتحة.
أسماء السور لها أسرارٌ وحِكم، وسمَّى الرسول بعض السور وعلَّم، وبعض السور لها اسمٌ واحد، وبعضها لها أكثر من واحد، وأسماء السور تارةً منصوصٌ عليها، وتارةً مجتهدٌ فيها، وأعلى سور القرآن مسمى ذلكم السورة العظمى سورة الفاتحة، تعددت أسماؤها وتنوعت صفاتها حيث بلغ أسماؤها عشرون اسمًا.
يقول السيوطي $ في (الإتقان): وقد وقفت لها على نيفٍ وعشرين اسمًا.
وهذا مما يدل على فضل وشرف الفاتحة، فكفاها شرفًا وفضلًا بما لها من الصفات والأسماء، ومن القواعد المقررة المعروفة المعتبرة أن كثرة الأسماء دالٌ على شرف المسمى، فكلما كثرت أسماؤه دل على ثمرته وعظمته وآثاره؛ ولهذا ربنا سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له تسعٌ وتسعون اسمًا، بل ما هو أكثر وأعظم وأعلى، فعند أحمد في مسنده (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ) فأسماؤه سبحانه لا حصر لها ولا عد.
وكذا ما لنبينا من الأسماء فهو: محمدٌ وأحمد، والماحي والمُقفَّى، والحاشر والعاقب.
ولعِظم يوم القيامة تعددت أسماؤها وصفاتها: كالواقعة والحاقة، والطامة والصاخة، والدين والقارعة، فالفاتحة في أسمائها وصفاتها تُعلي شأنها وقدرها.
ولكل اسمٍ معنًى من معانيها، وفائدة من فوائدها، أسماؤها على قسمين أيها الثقلين وفقكم الله وأسعدكم بالدارين:
أسماءٌ منصوصٌ عليها دل عليها الكتاب والسُّنَّة.
وأسماءٌ مستنبطة من المنصوص عليها من الكتاب والسُّنَّة.
فالقسم الأول المنصوص عليه ما يلي فاصغِ إليه:
الأول: الفاتحة؛ لما ثبت في الصحيحين (لا صلاةَ لِمَن لم يقرَأْ بفاتحةِ الكتابِ) وهذا هو المشهور من أسمائها، وهو أجمعها وأعلاها وأشملها، سُميت بالفاتحة؛ لأنه يُفتتح بها القرآن قراءةً وكتابة، ويُفتتح بها الصلاة، ويُفتتح بها التعليم والقراءة، فأول ما يتعلم الصبي ويُعلَّم ويفتتح حياته ويُفهَّم الفاتحة، وافتتح الصحابة المصاحف بها؛ ولأن الحمد فاتحةُ كل كلام فافتُتِح بها أعظم الكلام، فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن.
وفي اسم الفاتحة إشارة إلى أن من فتح الله عليه بها فقد فتح له الخير كله، ونال السعادة وفتح الله له في القرآن الكريم الفهم والعلم والتعليم، وفي الفاتحة الفتح تفاؤلًا وأملًا، ورجاءٌ وطمعًا.
الثاني: الصلاة؛ لِما ثبت في صحيح مسلم قوله سبحانه: (قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْـفَيْنِ) والصلاة هنا الفاتحة سُميت الفاتحة صلاة؛ لأنها أعظم أركان الصلاة، ولا تصح صلاةٌ إلا بها فرضًا كانت الصلاة أو نفلًا، فكما أن الصلاة عمود الإسلام، فالفاتحة عمود الصلاة، فسُميت صلاة ليصل العبد إلى ربه، بما فيها من المعاني والأسرار، والصِّلات والادكار.
الثالث والرابع: أم الكتاب وأم القرآن اسمان مترادفان، وفي الصحيح (لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ) سُميت بذلك؛ لأن أم الشيء حاضنته، وجامعته؛ ولهذا سُميت مكة أم القرى، والأم أمة.
فالفاتحة جامعةٌ لمعاني القرآن، فالقرآن يتبعها كما يتبع الجيش أمه أي: رايته، فهي تؤم سور القرآن؛ لاشتمالها على الأسرار والبيان، فهي المتقدمة كالإمام مع إمامه، إنما جُعِل الإمام ليؤتم به.
الخامس: هو السبع المثاني، قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87).
وفي الحديث: (وإنَّها السَّبْعُ المَثانِي) سُميت بذلك؛ لأنها تُثنى في كل ركعةٍ من الصلاة أو لأنها نصفين: نصف الرب ونصف العبد، أو لأنها اشتملت على نصفين: نصف الحمد والثناء، ونصف الطلب والدعاء، فالأول: ثناء العبد على ربه، والثاني: عطاؤه، وعطاء الرب لعبده أو لأن الثناء فيها تكرر وتأصَّل وتقرر، أو لأنها استُثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها ذُخرًا وشرفًا وفضلًا لها، وكل هذه المعاني لها صلةٌ بالمثاني وتشمل تلك المعاني.
السادس: القرآن العظيم ففي الصحيح: (هِيَ السَّبْعُ المَثانِي والقرآنُ الْعَظِيمُ) سُميت بذلك لعظمتها وفي معانيها ومبانيها وشفائها وكفايتها؛ ولاشتمال أسرارها وعِظم مقاصدها، فقد تضمنت جميع أسرار القرآن ومقاصده الحِسان فلا أعظم من الفاتحة تقعيدًا وتوحيدًا، تأسيسًا وتأصيلًا.
السابع: الرقية أو الراقية ويتفرع منها الشافية الكافية، والمانعة الوافية، وفي الصحيح في قصة رقية الصحابي للسيد الملدوغ (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟) سُميت بذلك؛ لأنها رقيةٌ وشفاء، والقرآن كله شفاء والفاتحة أخص بذلك الشفاء، فهي رقيةٌ لجميع الأمراض، وأنواع المصائب والأسقام الحسية والمعنوية، وهي كلها رقية كما صح بذلك الخبر عن نبي الأمة، وقيل: موضع الرقية (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الفاتحة:5) لِما فيها من التوكل والتفويض، والاعتماد وتحقيق العبادة، والصدق والالتجاء والافتقار، والإخلاص وتحقيق الاستعانة.
ولا حد للرقية بها لا سبعًا ولا عدًّا، فلم يصح بذلك نصًّا، واشتملت على شفاء القلوب بالهداية، وشفاء الأبدان، وشفاء القلوب أعظم الشفاءين، فهي شفاءٌ من كل داء، فلو اقتصر عليها المريض وكررها لوجد بإذن الله ثمرتها وأثرها؛ ولهذا ينبغي للمريض أن يقرأ أو يرقى بها على نفسه، ومن رحمة الله وأسرار الفاتحة أن جميع الناس يحفظها والحمد لله.
الثامن –عباد الله-: الحمد، ويُقال: أم المحامد، فعند الدارمي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((الْحَمْدُ لِلهِ) أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ).
سُميت بالحمد لذِكر الحمد فيها، وفتح القرآن كتابةً وقراءةً بها؛ ولأن الله سبحانه يُعلِّم عباده كيف يحمدونه ويشكرونه، والحمد فاتحة الخلق: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) (الأنعام:1) وخاتمة الخلق: (رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الزمر:75).
ولأن النِّعم إذا شُكِرت قرَّت وزادت، وإذا كُفِرت فرَّت وزالت، وأعظم نعمة هذا القرآن، فحمده وشكره على ما أنزل في الفاتحة والقرآن؛ ولهذا قال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان:1).
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) (الكهف:1).
وافتتح الله خمس سور بالحمد: الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر، وخُصَّت الفاتحة بالحمد دون غيرها؛ لأنها تضمنت أفضل الحمد وأجمله، وأعلاه وأكمله.
فَلَه الَمحَامِدُ وَالمَدَائِحُ كُلُّهَا |
|
بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي |
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
وأما القسم الثاني من الأسماء؛ وهي الأسماء المستنبطة من الكتاب والسُّنَّة، ويدخل فيها الصفات:
فالأول: الدعاء، سُميت بذلك؛ لأنها تضمنت الدعاء العظيم، وهو طلب الهداية للصراط المستقيم والمنهج القويم.
يقول شيخ الإسلام: أعظم الدعاء دعاء الفاتحة وهو (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) فهي صورة الدعاء لِما علِمت كيف الدعاء وعلَّمت أعظم الدعاء.
الثاني: السؤال أو المسألة سُميت بذلك؛ لأنها تضمنت السؤال والسؤال أعم من الدعاء، وفي الصحيح: (وَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) قال الله تعالى: قَالَ: هَذَا لي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) فتضمنت السؤال والطلب، والدعاء والالتجاء.
الثالث: الكفاية سُميت بذلك؛ لأنها عوضٌ عن غيرها، وغيرها ليس عوضًا عنها، فتكفي عن غيرها وغيرها لا يكفي عنها، فلو أن المرء قرأ القرآن كله في الصلاة إلا الفاتحة لم تصح صلاته، ولو قرأ الفاتحة فقط صحت صلاته، فتكفي عن غيرها في الصلاة، وتكفي عن غيرها في أبواب التوحيد والعقيدة، والعبادة والاستعانة، وما فيها من التأصيلات العقدية، والقواعد التربوية، فهي الكافية عن غيرها في مبناها ومعناها وفوائدها.
الرابع: الشفاء أو الشافية وهي بمعنى ما سبق الراقية.
الخامس: الأساس سُميت بذلك؛ لأنها أساس القرآن وأصله، وأوله وآخره وأُسه، فهي كالأساس والتقعيد، والتأصيل لسائر القرآن المجيد، فغيرها مبنيٌّ عليها فهي الأصل والأساس والقاعدة.
السادس: الكنز سُميت بذلك؛ لأن فيها الكنوز العظيمة، والمعاني الجليلة، والفوائد الأصيلة، والقواعد المتينة، فهي بحقٍّ كنزٌ في فوائدها، وكنزٌ في معانيها، وكنزٌ في أسرارها، وكنزٌ في شفائها.
السابع: النور سُميت بذلك؛ لأنها نور الدنيا والآخرة، والقرآن كله نور فكيف بها؟! فنورٌ لصاحبها والعامل بما فيها يقتبس من نورها ويقتنص من ثمارها وعلومها.
الثامن: التفويض، سُميت بذلك لما فيها من التفويض الكامل، والاستسلام المطلق والانقياد التام، والتوحيد الخالص، وفي صحيح مسلم في رواية: (إذا قال العبد: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) قال الله تعالى: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي).
فمن قرأها فوَّض أمره إلى الله في دينه ودنياه، واستسلم لما أراده الله ورضي بما قدَّره الله عليه وقضاه، وفوَّض مشاكله وأمراضه، وديونه وغمَّه وهمَّه لمن بيده المفاتيح والفرج والنجاة.
التاسع: المناجاة سُميت بذلك؛ لمناجاة العبد ربه بها بالثناء والطلب والدعاء، وفي صحيح مسلم: (فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2)) الحديث فما ألذ المناجاة بين العبد وخالقه ومولاه!
فتعلَّم أيها المسلم من الفاتحة كيف تُناجي ربك وتعلق قلبك بخالقك.
العاشر: الوافية سُميت بالوافية؛ لأنها وافيةٌ في معانيها ومبانيها، ووافيةٌ بطلب الشفاء بها، ووافيةٌ في الصلاة بكمالها وتمامها لمن قرأها وكمَّلها ووافيةٌ بمُجمل ما في القرآن من المعاني والقواعد والمباني، ولا تُجزئ في الصلاة إلا على الوفاء، فلا تقبل التنصيف في الركعة بخلاف غيرها، فيجوز قراءة بعض السورة أو جزءٌ منها ونصفها، أما الفاتحة فلا بُد من استيفائها كلها في الركعة فلا تصح صلاة من فرَّق الفاتحة في ركعتين؛ لأنها وافية فيلزم استيفاؤها.
الحادي عشر: تَعلُّم المسألة سُميت بذلك ووصِفت؛ لأنها تُعلم العبد كيف يسأل ربه، وكيف يدعوه، وأن يبدأ أولًا بالثناء والحمد، والاعتراف بالواحد الأحد، ثم الدعاء والطلب الأمجد، فحمدٌ وثناء واعترافٌ والتجاء، وطلبٌ ودعاء، وهذا الأدب من آداب الدعاء، وصاحبه حريٌّ بالإجابة والعطاء.
الثاني عشر: الشكر وهو أعم من الحمد من جهة، فسُميت بذلك؛ لحمد الله وشكره على فضله وعطائه، وكرمه وإحسانه، فالحمد ثناء، وكله شكرٌ ووفاء، فالعبد يحمد ربه ويشكره على نِعمه.
وبهذا انتهت أوصافها وأسماؤها، وقد بلغت عشرون في عدِّها، نسأل الله أن يُنزِّل علينا من بركة الفاتحة علمًا وهدايةً، وفهمًا وعطاءً، وصلاحًا ورقيةً وشفاءً.