الْفَقْرَ الْحَقِيقِيَّ
سعود المغيص
الخُطْبَةُ الأُولَى :
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أمّا بعد عباد الله :
اتقوا الله تعالى واعلموا أن الفقرَ الحقيقي هو فقرُ القلب وبُعْدُه عن الله. عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى ؟ قُلْت : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرُ ؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : إنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ ).
وفقرُ القلبِ له علامات : منها عدمُ اللجوءِ إلى اللهِ عند الشدائد, والتي منها تَذَكُّرُ الذنوبِ ومحاسبةُ النفس. قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
ومن علامات فقر القلب : التمسُّكُ بالأدلة المشتبهة وجَعْلُها مَحَلا لِلجَدَل . وتركُ الأدلةِ الواضحةِ المُحْكَمَة, كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ﴾.
ومن علامات فقر القلب : عدمُ تعظيمِ شعائرِ الله الظاهرة, كالصلاة والأذان وذبح الهدي والأضاحي وإحياء السنن وغير ذلك. كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾.
ومن علامات فقر القلب : عدمُ القناعة, ويقابل ذلك غِنى النفس, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ ), وقال عليه الصلاة والسلام: ( كُن وَرِعاً تَكُن أعبَدَ الناس, وكن قَنِعاً تكن أَشْكَرَ الناس ).
ومن علامات فقر القلب : قِلَّةُ ذكر الله, وأَخْطَرُها : عَدَمُ الطُّمأنينة لذكر الله وقراءةِ القرآن .
فإن المؤمنين لا يجدون السعادةَ والراحةَ وانشراحَ الصدرِ وطُمأْنينَةَ القلب, إلا بذكر الله وتلاوةِ القرآن وسماعِ المَوْعِظةِ. قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾. وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.
فيا من تخاف من فقرِ جَيْبِك, وقِلَّةِ رَصيدِ الدنيا, وتَهُرُب من ذلك, وهذا من حَقِّك, بل أنت مُطالَبٌ به إذا كان بالطًّرًقِ المباحة. ولكن يجب عليك أن تَعْلَمَ بأنَّ هناكَ فقراً لا يُفلِحُ صاحبُه, هو فقْرُ الدِّين, وفقرُ محبةِ الله وذِكرِه, والخوفِ منه, والتوكُّلِ عليه, والإنابةِ إليه.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمّا بَعدُ عباد الله : إن مِنَ الناس من يأتي يوم القيامة وقد وَجَدَ له مِن الحسناتِ ما لم يَخْطُرْ بِباله, بسبب نصيحةٍ بَذَلَها فَعَمِلَ بها غَيرُه, أو صدقةٍ جاريةٍ بَقِيَ له أثرُها بَعْدَ مَوْتِه. ومِنَ الناسِ من يأتي يوم القيامة فيجد أمامه سيئاتٍ لم يعملها, لكنه دعا إليها ونَشَرَها فَعَمِلَ بها غيرُه, فكان عليه من الوِزْرِ مثلُ أوزارِهِم.
فاسْتَفِق يا مَنْ ترسل المَقاطِعَ المحرَّمَة عبر الجوال فيتلقفها غيرُك, فإن وِزْرَهم عليك ولو بلغوا ملايين. ويزدادُ الأمرُ خطورة عندما تكون الرسائلُ والمقاطعُ متعلقةً بأمورِ الشرع لِأن شَرَّ الأُمور محدثاتُها, فإن كثيرا من الأحاديث التي تُنْقَل عبر هذه الرسائل باطلة, لا تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وكُلُّ من ينشرها فإثْمُه كبير لقوله صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار ). وإياكَ أن تقول: أنا معذور ولا أدري, وأنت تعلم أن النقل عن سائِرِ الناسِ يحتاج إلى تثبت, فكيف بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
اللهم استعملنا في طاعتك واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين واجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر يا حي يا قيوم،
اللهم علمنا ماينفعنا ..
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمينَ وأذلَّ الكُفرَ والكافِرينَ ودمِّر أعداءَ الدينَ واجعل هذا البلد آمنا مُطمئنَّاً وسائِر بلادِ المسلمين، وَوفِّقْ ولاتَنَا وولاةَ المسلمينَ لِما تُحِبُّ وترضى وأعنهم على البر والتقوى،
اللهم انصر جنودنا واحفظ حدُودَنا ياقوي ياعزيز .
(ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسَنةً وفي الآخِرَةِ حَسَنةً وقِنَا عذابَ النار)
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
سُبحانَ ربِّكَ ربِّ العِزَّةِ عمَّا يصفون ، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.