الفطرة وضرورة الحفاظ عليها

راكان المغربي
1443/03/29 - 2021/11/04 07:52AM

أما بعد:

فمن المعلوم بلغة الأرقام والإحصائيات أن دينَ الإسلام هو أكثرُ الأديان انتشارا ونموا، وأنه دينٌ عالميٌ يتغلغل في كلِّ بلدان العالم في مشارق الأرض ومغاربها..

وكلٌّ منا يسمع من حين إلى آخر عن الداخلين إلى الإسلام في شتى أنحاء الأرض، وفي إحصائية نشرتها إحدى الجمعياتِ الدعويةِ تفيد بأن عدد الداخلين في الإسلام في أحدِ الأسابيعِ الماضيةِ بفضل الله ثم بجهودهم بلغ خمسَ مائةٍ وواحداً وعشرين مسلما جديدا، يقطنون في إحدى وأربعين دولةً حول العالم[1].

فانتشار الإسلام أضحى حقيقة لا ينكرها أحد، تشهد لها مراكزُ الأبحاث والموسوعاتُ العلمية والمراكزُ الدينية وكثير من الجهات الحكومية الرسمية.

 

والتساؤل الذي أود أن أطرحه هنا:

يا تُرى ما هو الشيء الذي يجذبُ الناسَ إلى الإسلام، ذلك الدين المحارب الذي يتحد أهل الباطل على محاربته وتوجيه السهام له! ذلك الدين الذي يعاني أهلُه من الضعف الاقتصادي، والتأخر العلمي، وتقبع كثير من بلدانه تحت الاحتلال والاضطهاد!

فيا تُرى ما هو السر في أن ينجذب الناس إلى دين يعاني أهله وبلدانه من كل هذه المشاكل؟

 

ذلك السر هو سرُّ الفطرة، الفطرةُ التي خلقها الله في كل الناس على اختلاف أعراقهم وأجناسهم وطبائعهم (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

الفطرة التي هي الخِلقةُ الربانيةُ الأصليةُ التي متى ما كانت سليمةً فإنها تقر بالرب الخالق، وتُسلِمُ له، وتعبدُه إلها واحدا لا شريك له ولا ند له.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ -يعني سليمة- ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ -أي مقطوعة الأذن-)، وهنا يمثل النبُّي صلى الله عليه وسلم قلوبَ بني آدم التي فطرت على معرفة الخالق وتوحيده، بالبهيمة السالمة التي متى ما تركت فإنها ستبقى سالمةً من العيوب، حتى يتدخل بعضُ الناس فيقطعون أذنها فيصيبها العيبُ والنقص. وكذلك المولود يولد على فطرةٍ سليمةٍ مقتضيةٍ للإسلامِ ووحدانيةِ الله، فمتى ما تركت أقرت لله بالعبودية.

 

ذلك هو السر الذي يجذب الناس في أقطار الأرض إلى الإسلام، فهم يستجيبون لنداء فطرتهم، ويجدون في الإسلام ما يوافق أصل خِلقتهم، ويلبي احتياجاتِهم الفطرية، فتحقق حينها سعادتُهم واطمئنانُهم النفسي والروحي. وحين تكتشف هذا السرَّ فإنك تستطيع أن تَحُل اللغزَ المحيرَ الذي يجعل كثيرا من الناس في القديم والحديث، يتحولون إلى الإسلام بعد أن كانوا أشد المحاربين له. فمن عمرَ بن الخطاب إلى أبي سفيان وزوجِه هند آكلةِ الأكباد، إلى ما نسمعه من حين إلى آخر في عصرنا هذا من تلك التحولات العجيبة.

 

فهذا المنتجُ السينمائيُّ الهولنديُّ (فان دورن) الذي أنتج فيلما مسيئا للرسول صلى الله عليه وسلم، فتحول بعد ذلك إلى مسلم يشهد لله بالوحدانية ولنبيه محمدا بالحب والرسالة، وتحول من عضوٍ في أحد الأحزاب المتطرفة المشهورة بمعاداة الإسلام في هولندا إلى ناشطٍ في الدعوةِ إلى الإسلام ونشرِ مبادئِه وقيمِه، وحاله في ذلك حال سابقيه كثمامةَ بن أُثَالٍ رضي الله عنه حين قال للحبيب صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلم: (يا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ، ما كانَ علَى الأرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إلَيَّ مِن وَجْهِكَ، فقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ كُلِّهَا إلَيَّ، وَاللَّهِ، ما كانَ مِن دِينٍ أَبْغَضَ إلَيَّ مِن دِينِكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إلَيَّ، وَاللَّهِ، ما كانَ مِن بَلَدٍ أَبْغَضَ إلَيَّ مِن بَلَدِكَ، فأصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلَادِ كُلِّهَا إلَيَّ)

 

تقول الكاتبة الأمريكية المسلمة (ديبورا بوتر): "إن الناس في أوروبا وأمريكا يقبلون على اعتناق الإسلام بأعداد كبيرة... لكن دون إجبارٍ من أحد، بل لأنهم متعطشون للراحة النفسية والاطمئنان الروحي الذي يقدمه لهم الإسلام، حتى إن كثيرا من المستشرقين والمبشرين النصارى الذين بدؤوا حملتهم مصممين على القضاء على الإسلام وإظهارِ عيوبه المزعومة، أصبحوا هم أنفسَهم مسلمين، وما ذلك إلا لأن الحق حجته دامغة، لا سبيل إلى إنكارها"[2].

 

وإن من شواهدِ الفطرةِ أيضا يا عباد الله، ما اتفق عليه الناسُ من حبِّ مكارم الأخلاق وبغضِ سيِّئها، فكلُّ الناس في الأصل يحبون العدل والأمانة ويكرهون الظلم والخيانة، ويقدرون الصادق ويحتقرون الكاذب، وكل الناس يستعذبون الجمال والطهارة، ويستقذرون القبح والوساخة. تلك القيم يكاد يتفق عليها كل البشر على اختلاف طبائعهم ومشاعرهم وأفكارهم، فما الذي جعلهم متفقين على ذلك إلا الخِلقةَ الأصلية والفطرةَ التي فطر الله الناس عليها. ومن ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ) فتلك الأمور تحقق النظافةَ والطهارةَ التي فُطر الناسُ على حبها.

 

ومن الفطرة أيضا استقباح الفواحش وهي ما اشتد قبحه من الأقوال والأفعال مثل الزنا واللواط والبذاءة، فتلك الفواحش جُبل الناس على بغضها واستنكارها، فمن ذا الذي يرضى الزنا على زوجته؟! أو يرضى اللواطَ على ابنه؟! فتلك الفواحش يأنفُ أصحاب الفِطَرِ السليمة عن مجرد ذكرها فضلا عن الرضى بفعلها.

 

فإذا عرفنا ذلك يا عباد الله، فلا بد أن نعلم أن من أعمالِ الشياطينِ الرئيسيةِ أنهم يحرفون الناسَ عن فطرتهم، ويسعَوْن لتغيير أصل خلقتهم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا). ولذلك تجد شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان يبذلون كل ما يستطيعون لأن يكفرَ الناسُ بربهم وتنتكسَ فطرتُهم، فيدعونهم إلى الشرك والإلحاد، والرذيلة والفواحش، وصرنا نسمع من يدعو إلى زنا المحارم واشتهاء الأطفال وتزيين الفاحشة وتطبيع الشذوذ وغير ذلك مما يضاد الفطرة السليمة، وأقيم لذلك منظمات رسمية، ودعم دولي، وبث إعلامي مكثف في القنوات ووسائل التواصل. وما نتيجةُ ذلك إلا فسادٌ في النفوس، ودمارٌ في المجتمعات، وتضخمٌ في حالات الجرائم، وانتشارٌ للأمراض النفسية كالقلق والاكتئاب، وانتشارٌ للأمراض الجسدية كالإيدز والزهري وغير ذلك، وارتفاعٌ في معدلات الانتحار، وغيرُ ذلك الكثيرُ والكثير. كل ذلك بسبب مناقضة الفطرة، والسير ضد ما خُلِق الإنسان لأجله.  

 

وكما أن الشياطين هم دعاةُ الضلالةِ والانتكاسة، فإن الأنبياءَ والرسلَ هم دعاةُ الهدايةِ والفطرة، فقد جاءوا بالدين الذي يتفق مع فطرة الناس، ويذكرهم بها، ويُرجعُهم إليها.

 

وجاءت خاتمة الشرائعِ شريعةُ الإسلامِ لتحافظ على الفطرة السليمة وتعززَّها، وترجعَ الغافل إليها، وتقطعَ الطريقَ على شياطين الإنس والجن بتشويهها، فمتى ما أنصت الإنسان إلى توجيهات الوحي فإنه سيلقى الاطمئنانَ النفسي، والسعادةَ القلبيةَ التي يصل إليها حين تستقيمُ فطرتُه، وتسلم خِلقتُه من ألاعيب الشياطين، وحينها يوفي ميثاق الفطرة الذي أخذه الله عليه () وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174))

 

بارك الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

فإن من رحمة الله سبحانه بنا أنه يقدر لنا من المقادير ما يذكرنا بتلبية نداء الفطرة، فلئن كان كثير من الناس يعرض عن نداءات الفطرة  في حال السراء، فإن الله يبتليه ويصيبه بالضراء ليستيقظ وينصت لنداء الفطرة، ويتجه إلى ربه بالإخلاص والتوحيد، وفي ذلك ضرب الله المثل فقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، والموفق من استمر على نقاء فطرته، وإخلاص قلبه، وكان الضر له نفعا، فرجع كما أراد منه ربه سبحانه (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

 

عباد الله

إن الحفاظ على رصيد الفطرة من أوجب واجبات العصر، ومن أولى الأولويات التي يجب أن نعتني بها في تربيتنا لأبنائنا، وتثبيتها في نفوسهم.

فبالحفاظ على الفطرة السليمة يحفظ الدين بالثبات على التوحيد والفرار من الكفر، بالحفاظ على الفطرة السليمة تحفظ الأخلاق فنبقى على حب العدل والأمانة والصدق، وبغض الظلم والخيانة الكذب، بالحفاظ على الفطرة السليمة تحفظ الأعراض فيتحصن الجيل ويتربى على الاشمئزاز من الفحش والرذيلة، ولا تنجح محاولات تزيين الفاحشة وتخيب حملات تغيير الجنس ونشر الشذوذ. بالحفاظ على الفطرة السليمة يبقى المعروف معروفا، ويبقى المنكر منكرا.

ولن نستطيع الحفاظ على الفطرة السليمة يا عباد الله إلا إذا اهتدينا بشريعة الإسلام التي شرعها الخالق سبحانه، الذي هو أعلم بخلقه من أنفسهم، كما قال سبحانه: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فتمسكوا بشريعة اللطيف الخبير تسلم فِطرتُكم، وتصلح دنياكم، وتسعدون في أخراكم.



[1] https://twitter.com/eDialogueC/status/1451487845747765252?s=20
[2] انظر: فطرية الدين – د. محمد إسماعيل المقدم (192-193).

المرفقات

1636012340_الفطرة وضرورة الحفاظ عليها.pdf

1636012349_الفطرة وضرورة الحفاظ عليها.docx

المشاهدات 1778 | التعليقات 0