الفساد في الأرض صوره وخطره وعاقبة أهله... خطبة موافقة للتعميم
عبدالرزاق بن محمد العنزي
الخطبة الأولى:(15/8/1443هـ)
أيها المسلمون: لقد جاء الإسلام آمراً بكل خير للعباد، ناهياً عن كل شر، فأمر بالرحمة والعدل والإحسان، ونهى عن الفساد والظلم والعدوان، وجعل التعامل بين الخلق مبنياً على قوة الإيمان بلقاء الله الواحد الدَّيان وحذر من آثار الفساد والإفساد في الأرض، فقال تعالى ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.
فالله عز وجل نهى عن الإفساد فقال سبحانه: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾، وأخبر جل وعلا أنه لا يحب الفساد ولا يحب المفسدين فقال مبيناً حال بعض الناس: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾.
فأمر أهل الإفساد مكشوف، بل إن الله جل وعلا يبطل عمل المفسدين، ويحبط مخططاتهم، قال جل شأنه في معرض أخبار موسى مع فرعون: ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ .
معاشر المؤمنين: إن صور الإفساد في الأرض متعددة، على رأسها الاعتداء على الأموال والأرواح وإخلال الأمن.
قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "إن من ورَطَات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلِّه"؛ أخرجه البخاري.
القتل بغير حقٍّ جريمةٌ مُزلزِلة، وخطيئةٌ مُروِّعة، سواءٌ كان المقتول من أهل المِلَّة، أم كان من أهل العهد والذِّمَّة؛ فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمنٍ بغير حقٍّ»؛ أخرجه ابن ماجه.
فالعاقل من يبتعد عن إيذاء بني آدم أجمعين - بلْه كل مخلوق - أو المشاركة في القتل، أو الفرح به، أو الشماتة فيه، أو غير ذلك من الأعمال المنافية للدِّين والنخوة والشرف والمروءة، وليهرب منه كل مهرب، وليفر منه فِراره من قَسْورة، ولنتذكر قول المعصوم صلى الله عليه وسلم: (لا يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) رواه البخاري.
ومن صور الإفساد في الأرض: اعتناق الأفكار الضالة والمناهج المنحرفة الفاسدة وأهلها من أعظم أهل الفساد فسادًا، وأشدهم للدِّين ومجتمع المسلمين إفسادًا، إنهم الخوارج إن الخوارج المفسدين البغاة المارقين هم أوَّل من فتح باب الفتنة على الأمة، ومكنوا لأعداء الملة، فهم أوَّل مَن عارض الخلفاء مُجاهرة مجانبين النَّصيحة والْمُسارَّة، وهم أول مَن أعلن العصيان المدني، وزَعَم بذلك الإصلاح زَعْمَ الغبي، وهم أوَّل من قتل الأمراء، وامتهن الأئمة الفقهاء، وفتح باب الفتنة للدهماء، وكشف عورات الأمة للأعداء، فجمعوا بين تأوُّل القرآن على غير تأويله، ورد ما ثبت بسنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقيله، وأفسدوا قلوبَ العامَّة على الوُلاة، وأطلقوا الألسنة مُحرضين على الخروج والافتئات، وتسابقوا في ارتكابِ الموبقات المهلكات، ودعوة مَن أصغى إليهم إلى جهنم وما فيها من سحيق الدَّركات، فلقد حرَّفوا مفهومَ الجهاد الشرعي بادِّعائه فيما يرتكبونه من فنون الإجرام، وضروب الفساد الموجبة للآثام، ولقد أزهقوا الأرواحَ المعصومة، واستحلوا الحرمات المحترمة، وجلبوا المصائب على الأُمَّة.
لقد وجب على كلِّ مُؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أنْ يبغض هذه الفئة الضالة الآثمة، وأنْ يتبرأ من تلكم العصابة المارقة المجرمة، ومن كل ما هي عليه من سوء العمل والمنهاج، والضَّلال والإلحاد والاعوجاج.
وأنْ يتقرب إلى الله - تعالى - بمقتهم وعداوتهم، وأن يَحْذَرَ ويُحَذِّر منهم، وأن يجعل من نفيس القرب الجهاد في فضح أسرارهم، والإخلاص لله - تعالى - مع الإلحاح عليه في الدُّعاء عليهم، والتعاوُن مع المسلمين وولاة أمورهم لقتلهم والقضاء عليهم؛ أخذًا بسنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيهم، وتنفيذًا لوصيته - عليه الصلاة والسلام - للأمة بشأنهم، فوالله لطالما أجرموا وأسرفوا، وأعانوا أعداءَ الإسلام على الإسلام وأهله، وما تورَّعوا، وكم عَتَوا في الأرض بالفساد، وأهلكوا الحرث والنَّسل والله لا يُحب الفساد!
بارك الله لي ولكم،،،
الخطبة الثانية:
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ أَفْزَعَ كُلَّ مُسْلِمٍ مَا قَامَتْ بِهِ تِلْكَ الْعِصَابَاتُ الْمُجْرِمَةُ الَّتِي سَعَتْ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَرَوَّعَتِ الآمِنِينَ، وَشَوَّهَتْ هَذَا الدِّينَ وَأَلْصَقَتْ بِهِ مَا هُوَ مِنْهُ بَرَاءٌ؛ فَأَفْسَدَتْ وَقَتَلَتْ وَرَوَّعَتْ وزَرَعَتْ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الْخَوْفَ وَالْوَجَلَ، وَاِشْتَرَكَتْ مَعَ جِهَاتٍ خَارِجِيَّةٍ مُغْرِضَةٍ لإِفْسَادِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَأَزْهَقَتْ مِئَاتِ الأَنْفُسِ، جُلُّهَا مِنْ رِجَالِ الأَمْنِ (رَحِمَهُمُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ) قَدَّمُوا أَرْوَاحَهُمْ فِي سَبِيلِ رَبِّهِمْ حِمَايَةً لأَمْنِ بِلَادِهِمْ وَأَمَانِهِ؛ فَحَانَ الْقَصَاصُ مِنْ قَتَلَتِهِمْ وَالْمُشْتَرِكِينَ؛ فِي قَتْلِهِمْ وَقَتْلِ غَيْرِهِمْ.
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ اِرْتَاحَتِ الأَنْفُسُ وَاِطْمَأَنَّتْ بِإِقَامَةِ شَرْعِ اللهِ، وَإِنْفَاذِهِ عَلَى مَنْ رَوَّعُوا الآمِنِينَ، وَقَتَلُوا الْمَظْلُومِينَ، وَسَعَوا للإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، وَأَبْدَلُوا أَمْنَ الْبِلَادِ فِي فَتْرَةٍ سَابِقَةٍ خَوْفًا وَرًعْبًا؛ حَتَّى أَمْكَنَ اللهُ مِنْهُمْ. وَفَي إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَإِنْفَاذِهَا عَلَيْهِمْ اِسْتِتْبَابٌ لِلأَمْنِ، وَإِيقَافٌ لِعَجَلَةِ الْفَسَادِ عِنْدَ حَدِّهَا، وَزَرْعٌ للثِّـقَةَ وَالاِطْمِئْنَانَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ؛ وَنَزْعٌ لِلْخَوْفِ وَإِيقَافٌ لِلْمُتُهَوِّرِ عَنْ تَهَوُّرِهِ، وَالظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَالْبَاغِي عَنْ بَغْيِهِ؛ وَصِيَانَةٌ لِلْـمُجْتَمَعِ كُلِّهِ؛ فَلْنَشْكُرِ اللهَ جَلَّ وَعَلَا عَلَى شَرْعِهِ الْحَكِيمِ، وَحُكْمِهِ الْعَظِيمِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(حَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً) رَوَاهُ اِبْنُ حِبَّانَ وَغَيْـرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ، وَصَحَّحَ أَحْـمَدُ شَاكِر لَفْظًا قَرِيبًا مِنْ هَذَا عِنْدَ أَحْـمَدَ. حَفِظَ اللهُ بِلَادَنَا قَائِمَةً بِشْرْعِ اللهِ، وَمُنَفِّذَةً لِحُـدُودِهِ، وَحَمَاهَا مِنْ كِيدِ وَمَكْرِ الْـخَارِجِينَ الْـمُحَارِبِينَ، وَالْـمُفْسِدِينَ الْـمُضِلِّينَ.
إِنْ هَذِهِ الدَّوْلَةِ بِحَمْدِ اللهِ وَهِي تَحْكُمُ بِشَرْعِ اللهِ وَتَذُودُ عَنِ الدِّين وَالأَمْوَالِ وَالأَعْرَاضِ، وَتَقِفُ مَعَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَهِيَ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا وَرِقَابِنَا، فَالحِفَاظُ عَلَيْهَا مِنَ الحِفَاظِ عَلَى الدِّينِ، فَلَيْسَتْ مَسْؤُولِيَّةُ الأَمْنِ وَالشُّرَطِ وَالدَّوْلَةِ بَلْ هِيَ مَسْؤُولِيَّةُ الجَمِيعِ؛ الأَبِ، وَالـمُعَلِّمِ، وَالـمُوَظَّف، وَالتَّاجِرِ، وَالعَالِمِ، وَالـمُثَقَّفِ، لَاسِيَّمَا مَعَ هَذِهِ الهَجَمَاتِ الشَّرِسَةِ عَلَى دَوْلَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَأْرَزِ الإِيمَانِ، فَاللَّهُمَّ احْفَظْ عَلَيْنَا وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَأَطْلِ فِي عُمرِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَوَفِّقْهُ وَولي عهده لِكُلِّ خَيْرٍ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِلَادَنَا بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ بِنَفْسِهِ، وَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ الـمُسْلِمِينَ.