الفرح بالله تعالى
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1436/04/15 - 2015/02/04 17:34PM
الفرح بالله تعالى
17/4/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَـدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: لَا مَعْرِفَةَ أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَمَعْرِفَةِ شَرْعِهِ. وَلَا فَرَحَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَرَحِ بِاللَّـهِ تَعَالَى وَبِشَرْعِهِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّـهِ تَعَالَى تَدْعُو إِلَى تَعْظِيمِهِ، وَمَعْرِفَةَ شَرْعِهِ تَقُودُ إِلَى اتِّبَاعِهِ. وَلِأَنَّ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى يُورِثُ الْقَلْبَ طُمَأْنِينَةً، وَيَمْلَؤُهُ أَمْنًا، وَالْفَرَحَ بِشَرْعِهِ يُوجِدُ لِلطَّاعَةِ لَذَّةً عِنْدَ الْعَبْدِ لَا تَعْدِلُهَا لَذَائِذُ الدُّنْيَا وَلَوِ اجْتَمَعَتْ كُلُّهَا لَهُ بِلَا مُنَغِّصٍ وَلَا مُكَدِّرٍ، فَكَيْفَ وَلَذَائِذُ الدُّنْيَا لَا تَصْفُو لِأَحَدٍ أَبَدًا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَشُوبَهَا شَوَائِبُ تُفْسِدُهَا.
إِنَّ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى وَبِطَاعَتِهِ مَقَامٌ عَظِيمٌ لَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ إِلَّا المُوَفَّقُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّـهِ تَعَالَى، مِمَّنْ أَرَادَ سَعَادَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَيَفْرَحُ أَحَدُهُمْ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَهُوَ يَرَى مَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْهَا. وَيَفْرَحُ بِأُلُوهِيَّتِهِ، فَلَا يَعْبُدُ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ يَرَى مَنِ اتَّخَذُوا مَعْبُودَاتٍ مِنْ دُونِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَيَفْرَحُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَبِعِلْمِهِ بِهَا، وَهُوَ يَرَى مَنْ يَجْهَلُهَا وَمَنْ يُحَرِّفُهَا وَمَنْ يُلْحِدُ فِيهَا.
وَيَحْتَفِي بِتَفْصِيلَاتِ الشَّرِيعَةِ وَأَجْزَائِهَا؛ فَرَحًا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَفَرَحًا بِأَنَّهُ يَعْرِفُ الطَّرِيقَ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّـهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ بِشَرْعِهِ سُبْحَانَهُ لَا بِشَرْعِ غَيْرِهِ.
وَكُلُّ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الدُّنْيَا يَفْرَحُ أَتْبَاعُهُ بِمُجَالَسَتِهِ وَمُحَادَثَتِهِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي فَهْمِ قَوْلِهِ وَإِشَارَتِهِ، وَيَتَسَابَقُونَ إِلَى طَاعَتِهِ وَإِرْضَائِهِ. فَمَا ظَنُّنَا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ بَيَّنَ لَنَا مُرَادَهُ بِكِتَابٍ أَنْزَلَهُ عَلَيْنَا، وَرَسُولٍ أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا، وَشَرْعٍ فَصَّلَهُ لَنَا؟! فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرَحٍ يَقْصُرُ دُونَ الْفَرَحِ بِرَبِّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبِشَرْعِهِ المُفَصَّلِ لَنَا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 57، 58]. فَالْفَضْلُ هُوَ هِدَايَةُ اللَّـهِ تَعَالَى الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَالرَّحْمَةُ هِيَ التَّوْفِيقُ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَجَعَلَ الْفَرَحَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ خَيْرًا مِنَ الْفَرَحِ بِمَا يَجْمَعُ النَّاسُ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].
وَأَثْنَاءَ تَنَزُّلِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْرَحُ بِكُلِّ سُورَةٍ تَتَنَزَّلُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَفْرَحُونَ بِهَا، وَيَتَعَلَّمُونَهَا، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا. وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْرَحَ بِكُلِّ سُورَةٍ يَحْفَظُهَا أَوْ يَقْرَؤُهَا، وَبِكُلِّ آيَةٍ يَفْهَمُهَا، وَبِكُلِّ فَرِيضَةٍ يُقِيمُهَا، وَبِكُلِّ سُنَّةٍ يَفْعَلُهَا.
وَلْنَتَأَمَّلْ فَرَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَنَزُّلِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحْكَامِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إِحْدَى السُّوَرِ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَوْلَا فَرَحُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ السُّورَةِ لَما جَعَلَ نُزُولَهَا عَلَيْهِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا.
وَكَانَ يَفْرَحُ بِإِسْلَامِ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْفَرَحَ بِإِسْلَامِهِمْ فَرَحٌ بِمَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، وَالْفَرَحُ بِمَا يُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ فَرَحٌ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْرَحُ بِالطَّاعَةِ يَقُومُ بِهَا أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّ فِي الْفَرَحِ بِطَاعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى فَرَحًا بِاللَّـهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا فَرِحَ بِإِغَاثَةِ المُضَرِيِّينَ لمَّا احْتَاجُوا، وَحَكَى فَرَحَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّـهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: «...حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفَرِحَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَرَحًا شَدِيدًا حَكَاهُ كَعْبٌ فَقَالَ: «فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمَا فَرَحُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَوْبَةِ كَعْبٍ، وَقَبُولِ اللَّـهِ تَعَالَى لِتَوْبَتِهِ إِلَّا لِأَنَّ التَّوْبَةَ أَجَلُّ الطَّاعَاتِ، وَأَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ، وَاللهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِهَا أَشَدَّ مِنْ فَرَحِ رَجُلٍ أَضَلَّ دَابَّتَهُ فِي الصَّحْرَاءِ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ حَتَّى اسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ فَوَجَدَهَا أَمَامَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَالْفَرَحُ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى فَرَحٌ بِهِ سُبْحَانَهُ.
وَلْنَتَأَمَّلْ -عِبَادَ اللَّـهِ- فَرَحَ الْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِهِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، مَعَ مَا فِي إِيوَائِهِ مِنْ خَطَرِ مُعَادَاةِ النَّاسِ جَمِيعًا، إِلَّا أَنَّ فَرَحَهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُمْ لَا يَحْسُبُونَ حِسَابًا لِأَحَدٍ وَلَوِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى حَرْبِهِمْ.
وَمَا فَرَحُ الْأَنْصَارِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ فَرَحَهِمْ بِاللَّـهِ تَعَالَى؛ فَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ المُهَاجِرِينَ، وَبَعْدَ هِجْرَةِ المُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَاءَهُمْ صَاحِبُ الْوَحْيِ فَأَقَامَ بَيْنَهُمْ فَصَارُوا يَأْخُذُونَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً. وَقَدْ وَصَفَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَرَحَهُمْ فَقَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ خَشِيَ الْأَنْصَارُ أَنْ يُفَارِقَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ، فَلَمَّا طَمْأَنَهُمْ بِعَوْدَتِهِ مَعَهُمْ بَكَوْا فَرَحًا بِذَلِكَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ: «أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّـهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» قَالَ: «فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّـهِ قِسْمًا وَحَظًّا...» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَلْنَتَأَمَّلْ فَرَحَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِتَنَزُّلِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: 124]، إِنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِتَنَزُّلِ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَضْجَرُونَ مِنْهَا أَوْ يَسْتَثْقِلُونَهَا.
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى يُخْبِرُ سُبْحَانَهُ عَنْ فَرَحِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ لِعِلْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ اللَّـهِ تَعَالَى بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَعَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَفَرَحِ النَّجَاشِيِّ لمَّا تُلِيَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ مَرْيَمَ فَبَكَى خُشُوعًا مِمَّا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَفَرَحِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ سَلَامٍ بِتَنَزُّلِ الْقُرْآنِ وَكَانَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَسَادَتِهِمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الرعد: 36].
عَلِمُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّـهِ تَعَالَى فَفَرِحُوا بِهِ، وَلَمْ يُخَامِرْ قُلُوبَهُمْ حَسَدٌ يَمْنَعُهَا مِنَ الْفَرَحِ بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ، كَمَا كَانَ حَالُ غَيْرِهِمْ مِنْ رُهْبَانِ قَوْمِهِمْ.
إِنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يَفْرَحُونَ بِالسُّورَةِ تَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَمِنْ فَرَحِهِمْ بِاللَّـهِ تَعَالَى فَرَحُهُمْ بِمَا يَأْتِي مِنْهُ، وَيَفْرَحُونَ بِهَا لِأَنَّهَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ اخْتَصَّهُمْ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّتِي ضَلَّتْ عَنْهُ، وَيَفْرَحُونَ بِهَا لِيَقِينِهِمْ بِعِنَايَةِ اللَّـهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَلَوْلَا عِنَايَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ، وَيَفْرَحُونَ بِهَا لِأَنَّهَا تَزِيدُهُمْ إِيمَانًا بِهِ سُبْحَانَهُ، وَقُرْبًا مِنْهُ، وَعُبُودِيَّةً لَهُ. فَهَلْ يُظَنُّ بِقَوْمٍ فَرِحُوا كُلَّ هَذَا الْفَرَحِ بِسُورَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَقَاعَسُوا عَنْ تَعَلُّمِهَا وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهَا وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا؟! وَهَلْ هُمْ إِلَّا فَرِحُونَ بِذَلِكُمُ الِامْتِثَالِ وَالتَّدَبُّرِ وَالْعَمَلِ؟!
وَلْنَتَأَمَّلْ فَرَحَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِالْهِجْرَةِ، مَعَ أَنَّ الْهِجْرَةَ مُفَارَقَةٌ لِلدِّيَارِ، وَانْخِلَاعٌ مِنَ الدُّورِ وَالْأَمْوَالِ، وَكَانَ الْأَشْعَرِيُّونَ قَدْ هَاجَرُوا مِنَ الْيَمَنِ بَحْرًا يُرِيدُونَ المَدِينَةَ، فَأَلْقَتْهُمُ السَّفِينَةُ فِي الْحَبَشَةِ، فَوَافَوْا مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا عَادُوا مِنْهَا عَامَ خَيْبَرَ، تَفَاخَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ سَبَقُوهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَحَقُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ هِجْرَتَيْنِ، يَقُولُ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلاَ أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَإِنَّمَا فَرِحُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كُتِبَتْ لَهُمْ هِجْرَتَانِ، وَهُمَا طَاعَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يُحِبُّهُمَا اللهُ تَعَالَى، فَمِنْ فَرَحِهِمْ بِاللَّـهِ تَعَالَى فَرِحُوا بِمَا يُحِبُّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا الْفَرَحَ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَأَنْ يَمْلَأَ قُلُوبَنَا أُنْسًا بِهِ، وَقُرْبًا مِنْهُ، وَزُلْفَى إِلَيْهِ، وَرِضًا بِهِ وَعَنْهُ، وَأَنْ يُرْضِيَنَا وَيَرْضَى عَنَّا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَا أَحَدَ يُحَقِّقُ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى إِلَّا وَيَفْرَحُ بِشَرْعِهِ وَأَحْكَامِهِ، فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا، وَلَا يَضْجَرُ مِنْهَا، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهَا تَعَلُّمًا وَعَمَلًا؛ لِأَنَّ فَرَحَهُ بِاللَّـهِ تَعَالَى يَدْعُوهُ إِلَى الْفَرَحِ بِمَا يُحِبُّهُ مِنْ أَحْكَامٍ وَأَعْمَالٍ فَيَتَعَلَّمُهَا وَيَأْتِي بِهَا. وَمَنْ كَرِهَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى زَالَ مِنْ قَلْبِهِ الْفَرَحُ بِاللَّـهِ تَعَالَى.
وَإِنَّمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ رَاحَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجُعِلَتْ قُرَّةَ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ بِاللَّـهِ تَعَالَى، وَغَايَةُ فَرَحِ الْعَبْدِ صِلَتُهُ بِمَحْبُوبِهِ وَمَعْبُودِهِ؛ وَلِذَا كَانَ غَايَةَ فَرَحِ أَهْلِ الدُّنْيَا أَنْ يَخْلُوَ أَحَدُهُمْ بِعَظِيمٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ يَنْثُرُ لَهُ مَدْحَهُ، وَيَبُثُّ شِكَايَتَهُ، وَيَرْجُو نَفْعَهُ وَصِلَتَهُ. فَكَيْفَ إِذَنْ بِالْخَلْوَةِ بِاللَّـهِ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ، وَالْقُرْبِ مِنْهُ فِي السُّجُودِ، وَبَثِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ. لَا مَقَامَ لِأَهْلِ الْفَرَحِ بِاللَّـهِ تَعَالَى أَعْظَمُ وَلَا أَلَذُّ مِنْ هَذَا المَقَامِ. وَمَنْ شَكَا ثِقَلًا فِي الصَّلَاةِ، وَعَجْزًا فِي الْقِيَامِ لَهَا، وَكَسَلًا فِي أَدَائِهَا، وَفِقْدَانًا لِلْخُشُوعِ فِيهَا، فَلْيَتَفَقَّدْ قَلْبَهُ فَإِنَّهُ نَاقِصُ الْفَرَحِ بِاللَّـهِ تَعَالَى وَبِطَاعَتِهِ فَلْيَزِدْهُ فِي قَلْبِهِ تَصْلُحُ لَهُ صَلَاتُهُ.
وَكُلُّ عِبَادَةٍ كَالصَّلَاةِ فِي هَذَا المَعْنَى، تَسْهُلُ الْعِبَادَةُ عَلَى الْعَبْدِ، وَيَفْرَحُ بِهَا بِقَدْرِ فَرَحِ قَلْبِهِ بِاللَّـهِ تَعَالَى.
وَمَنْ فَرِحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى أَكْثَرَ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْدَارِهِ فِي خَلْقِهِ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الصَّالِحينَ: «مَنْ أَدَامَ النَّظَرَ بِقَلْبِهِ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ الفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى».
وَمَنْ فَرِحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى أَدْمَنَ ذِكْرَهُ، فَلَا يَفْتُرُ لِسَانُهُ عَنِ اللَّهَجِ بِهِ، وَلَا يَغْفُلُ قَلْبُهُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَرِحَ بِأَحَدٍ أَكْثَرَ ذِكْرَهُ.
إِنَّ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى هُوَ أَعْلَى نَعِيمِ الْقُلُوبِ، وَأَرْفَعُ لَذَائِذِ النُّفُوسِ، وَمَقَامُهُ أَعْلَى المَقَامَاتِ، وَالْعُبُودِيَّةُ بِهِ أَجَلُّ عُبُودِيَّةٍ، وَبِهِ تُفْتَحُ أَبْوَابُ اللَّذَّةِ بِالْعِبَادَةِ، وَالْخُشُوعِ فِيهَا، وَالمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَمَا عُبِدَ اللهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ أَعْظَمَ وَلَا أَجَلَّ مِنَ الْفَرَحِ بِهِ وَالْفَرَحِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَأَمَّا الْفَرَحُ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ جَاهٍ وَمَالٍ وَنِسَاءٍ وَأَوْلَادٍ وَمَتَاعٍ فَهُوَ فَرَحٌ لَا يَصْفُو وَلَا يَدُومُ؛ فَالْجَاهُ يَزُولُ، وَالمَالُ يَذْهَبُ، وَيَبْلُغُ سِنًّا يَعْجَزُ فِيهِ عَنِ النِّسَاءِ، وَرُبَّمَا شَقِيَ بِالْأَوْلَادِ. وَهُوَ مَعَ كُلِّ ذَلِكَ يُفَارِقُ مَا فَرِحَ بِهِ مِنْ لَذَائِذِ الدُّنْيَا.
إِنَّ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى لَا يَزُولُ مِنَ الْعَبْدِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا فَرِحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَرِحَ بِلِقَائِهِ عِنْدَ المَوْتِ، وَفَرِحَ بِلِقَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفَرِحَ بِرُؤْيَتِهِ فِي الْجَنَّةِ. وَاللهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِلِقَاءِ مَنْ فَرِحَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الشُّهَدَاءِ: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: 170]، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّـهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّـهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
17/4/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَـدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: لَا مَعْرِفَةَ أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَمَعْرِفَةِ شَرْعِهِ. وَلَا فَرَحَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَرَحِ بِاللَّـهِ تَعَالَى وَبِشَرْعِهِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّـهِ تَعَالَى تَدْعُو إِلَى تَعْظِيمِهِ، وَمَعْرِفَةَ شَرْعِهِ تَقُودُ إِلَى اتِّبَاعِهِ. وَلِأَنَّ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى يُورِثُ الْقَلْبَ طُمَأْنِينَةً، وَيَمْلَؤُهُ أَمْنًا، وَالْفَرَحَ بِشَرْعِهِ يُوجِدُ لِلطَّاعَةِ لَذَّةً عِنْدَ الْعَبْدِ لَا تَعْدِلُهَا لَذَائِذُ الدُّنْيَا وَلَوِ اجْتَمَعَتْ كُلُّهَا لَهُ بِلَا مُنَغِّصٍ وَلَا مُكَدِّرٍ، فَكَيْفَ وَلَذَائِذُ الدُّنْيَا لَا تَصْفُو لِأَحَدٍ أَبَدًا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَشُوبَهَا شَوَائِبُ تُفْسِدُهَا.
إِنَّ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى وَبِطَاعَتِهِ مَقَامٌ عَظِيمٌ لَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ إِلَّا المُوَفَّقُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّـهِ تَعَالَى، مِمَّنْ أَرَادَ سَعَادَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَيَفْرَحُ أَحَدُهُمْ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَهُوَ يَرَى مَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْهَا. وَيَفْرَحُ بِأُلُوهِيَّتِهِ، فَلَا يَعْبُدُ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ يَرَى مَنِ اتَّخَذُوا مَعْبُودَاتٍ مِنْ دُونِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَيَفْرَحُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَبِعِلْمِهِ بِهَا، وَهُوَ يَرَى مَنْ يَجْهَلُهَا وَمَنْ يُحَرِّفُهَا وَمَنْ يُلْحِدُ فِيهَا.
وَيَحْتَفِي بِتَفْصِيلَاتِ الشَّرِيعَةِ وَأَجْزَائِهَا؛ فَرَحًا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَفَرَحًا بِأَنَّهُ يَعْرِفُ الطَّرِيقَ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّـهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ بِشَرْعِهِ سُبْحَانَهُ لَا بِشَرْعِ غَيْرِهِ.
وَكُلُّ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الدُّنْيَا يَفْرَحُ أَتْبَاعُهُ بِمُجَالَسَتِهِ وَمُحَادَثَتِهِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي فَهْمِ قَوْلِهِ وَإِشَارَتِهِ، وَيَتَسَابَقُونَ إِلَى طَاعَتِهِ وَإِرْضَائِهِ. فَمَا ظَنُّنَا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ بَيَّنَ لَنَا مُرَادَهُ بِكِتَابٍ أَنْزَلَهُ عَلَيْنَا، وَرَسُولٍ أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا، وَشَرْعٍ فَصَّلَهُ لَنَا؟! فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرَحٍ يَقْصُرُ دُونَ الْفَرَحِ بِرَبِّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبِشَرْعِهِ المُفَصَّلِ لَنَا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 57، 58]. فَالْفَضْلُ هُوَ هِدَايَةُ اللَّـهِ تَعَالَى الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَالرَّحْمَةُ هِيَ التَّوْفِيقُ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَجَعَلَ الْفَرَحَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ خَيْرًا مِنَ الْفَرَحِ بِمَا يَجْمَعُ النَّاسُ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].
وَأَثْنَاءَ تَنَزُّلِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْرَحُ بِكُلِّ سُورَةٍ تَتَنَزَّلُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَفْرَحُونَ بِهَا، وَيَتَعَلَّمُونَهَا، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا. وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْرَحَ بِكُلِّ سُورَةٍ يَحْفَظُهَا أَوْ يَقْرَؤُهَا، وَبِكُلِّ آيَةٍ يَفْهَمُهَا، وَبِكُلِّ فَرِيضَةٍ يُقِيمُهَا، وَبِكُلِّ سُنَّةٍ يَفْعَلُهَا.
وَلْنَتَأَمَّلْ فَرَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَنَزُّلِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحْكَامِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إِحْدَى السُّوَرِ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَوْلَا فَرَحُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ السُّورَةِ لَما جَعَلَ نُزُولَهَا عَلَيْهِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا كُلِّهَا.
وَكَانَ يَفْرَحُ بِإِسْلَامِ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْفَرَحَ بِإِسْلَامِهِمْ فَرَحٌ بِمَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، وَالْفَرَحُ بِمَا يُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ فَرَحٌ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْرَحُ بِالطَّاعَةِ يَقُومُ بِهَا أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّ فِي الْفَرَحِ بِطَاعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى فَرَحًا بِاللَّـهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا فَرِحَ بِإِغَاثَةِ المُضَرِيِّينَ لمَّا احْتَاجُوا، وَحَكَى فَرَحَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّـهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: «...حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفَرِحَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَرَحًا شَدِيدًا حَكَاهُ كَعْبٌ فَقَالَ: «فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمَا فَرَحُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَوْبَةِ كَعْبٍ، وَقَبُولِ اللَّـهِ تَعَالَى لِتَوْبَتِهِ إِلَّا لِأَنَّ التَّوْبَةَ أَجَلُّ الطَّاعَاتِ، وَأَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ، وَاللهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِهَا أَشَدَّ مِنْ فَرَحِ رَجُلٍ أَضَلَّ دَابَّتَهُ فِي الصَّحْرَاءِ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ حَتَّى اسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ فَوَجَدَهَا أَمَامَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَالْفَرَحُ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى فَرَحٌ بِهِ سُبْحَانَهُ.
وَلْنَتَأَمَّلْ -عِبَادَ اللَّـهِ- فَرَحَ الْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِهِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، مَعَ مَا فِي إِيوَائِهِ مِنْ خَطَرِ مُعَادَاةِ النَّاسِ جَمِيعًا، إِلَّا أَنَّ فَرَحَهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُمْ لَا يَحْسُبُونَ حِسَابًا لِأَحَدٍ وَلَوِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى حَرْبِهِمْ.
وَمَا فَرَحُ الْأَنْصَارِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ فَرَحَهِمْ بِاللَّـهِ تَعَالَى؛ فَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ المُهَاجِرِينَ، وَبَعْدَ هِجْرَةِ المُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَاءَهُمْ صَاحِبُ الْوَحْيِ فَأَقَامَ بَيْنَهُمْ فَصَارُوا يَأْخُذُونَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً. وَقَدْ وَصَفَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَرَحَهُمْ فَقَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ خَشِيَ الْأَنْصَارُ أَنْ يُفَارِقَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ، فَلَمَّا طَمْأَنَهُمْ بِعَوْدَتِهِ مَعَهُمْ بَكَوْا فَرَحًا بِذَلِكَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ: «أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّـهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» قَالَ: «فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّـهِ قِسْمًا وَحَظًّا...» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَلْنَتَأَمَّلْ فَرَحَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِتَنَزُّلِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: 124]، إِنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِتَنَزُّلِ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَضْجَرُونَ مِنْهَا أَوْ يَسْتَثْقِلُونَهَا.
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى يُخْبِرُ سُبْحَانَهُ عَنْ فَرَحِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ لِعِلْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ اللَّـهِ تَعَالَى بِمَا عَرَفُوهُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَعَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَفَرَحِ النَّجَاشِيِّ لمَّا تُلِيَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ مَرْيَمَ فَبَكَى خُشُوعًا مِمَّا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَفَرَحِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ سَلَامٍ بِتَنَزُّلِ الْقُرْآنِ وَكَانَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَسَادَتِهِمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الرعد: 36].
عَلِمُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّـهِ تَعَالَى فَفَرِحُوا بِهِ، وَلَمْ يُخَامِرْ قُلُوبَهُمْ حَسَدٌ يَمْنَعُهَا مِنَ الْفَرَحِ بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ، كَمَا كَانَ حَالُ غَيْرِهِمْ مِنْ رُهْبَانِ قَوْمِهِمْ.
إِنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يَفْرَحُونَ بِالسُّورَةِ تَتَنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَمِنْ فَرَحِهِمْ بِاللَّـهِ تَعَالَى فَرَحُهُمْ بِمَا يَأْتِي مِنْهُ، وَيَفْرَحُونَ بِهَا لِأَنَّهَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ اخْتَصَّهُمْ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّتِي ضَلَّتْ عَنْهُ، وَيَفْرَحُونَ بِهَا لِيَقِينِهِمْ بِعِنَايَةِ اللَّـهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَلَوْلَا عِنَايَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ، وَيَفْرَحُونَ بِهَا لِأَنَّهَا تَزِيدُهُمْ إِيمَانًا بِهِ سُبْحَانَهُ، وَقُرْبًا مِنْهُ، وَعُبُودِيَّةً لَهُ. فَهَلْ يُظَنُّ بِقَوْمٍ فَرِحُوا كُلَّ هَذَا الْفَرَحِ بِسُورَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَقَاعَسُوا عَنْ تَعَلُّمِهَا وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهَا وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا؟! وَهَلْ هُمْ إِلَّا فَرِحُونَ بِذَلِكُمُ الِامْتِثَالِ وَالتَّدَبُّرِ وَالْعَمَلِ؟!
وَلْنَتَأَمَّلْ فَرَحَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِالْهِجْرَةِ، مَعَ أَنَّ الْهِجْرَةَ مُفَارَقَةٌ لِلدِّيَارِ، وَانْخِلَاعٌ مِنَ الدُّورِ وَالْأَمْوَالِ، وَكَانَ الْأَشْعَرِيُّونَ قَدْ هَاجَرُوا مِنَ الْيَمَنِ بَحْرًا يُرِيدُونَ المَدِينَةَ، فَأَلْقَتْهُمُ السَّفِينَةُ فِي الْحَبَشَةِ، فَوَافَوْا مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا عَادُوا مِنْهَا عَامَ خَيْبَرَ، تَفَاخَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ سَبَقُوهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَحَقُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ هِجْرَتَيْنِ، يَقُولُ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلاَ أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَإِنَّمَا فَرِحُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كُتِبَتْ لَهُمْ هِجْرَتَانِ، وَهُمَا طَاعَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يُحِبُّهُمَا اللهُ تَعَالَى، فَمِنْ فَرَحِهِمْ بِاللَّـهِ تَعَالَى فَرِحُوا بِمَا يُحِبُّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا الْفَرَحَ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَأَنْ يَمْلَأَ قُلُوبَنَا أُنْسًا بِهِ، وَقُرْبًا مِنْهُ، وَزُلْفَى إِلَيْهِ، وَرِضًا بِهِ وَعَنْهُ، وَأَنْ يُرْضِيَنَا وَيَرْضَى عَنَّا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَا أَحَدَ يُحَقِّقُ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى إِلَّا وَيَفْرَحُ بِشَرْعِهِ وَأَحْكَامِهِ، فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا، وَلَا يَضْجَرُ مِنْهَا، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهَا تَعَلُّمًا وَعَمَلًا؛ لِأَنَّ فَرَحَهُ بِاللَّـهِ تَعَالَى يَدْعُوهُ إِلَى الْفَرَحِ بِمَا يُحِبُّهُ مِنْ أَحْكَامٍ وَأَعْمَالٍ فَيَتَعَلَّمُهَا وَيَأْتِي بِهَا. وَمَنْ كَرِهَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى زَالَ مِنْ قَلْبِهِ الْفَرَحُ بِاللَّـهِ تَعَالَى.
وَإِنَّمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ رَاحَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجُعِلَتْ قُرَّةَ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ بِاللَّـهِ تَعَالَى، وَغَايَةُ فَرَحِ الْعَبْدِ صِلَتُهُ بِمَحْبُوبِهِ وَمَعْبُودِهِ؛ وَلِذَا كَانَ غَايَةَ فَرَحِ أَهْلِ الدُّنْيَا أَنْ يَخْلُوَ أَحَدُهُمْ بِعَظِيمٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ يَنْثُرُ لَهُ مَدْحَهُ، وَيَبُثُّ شِكَايَتَهُ، وَيَرْجُو نَفْعَهُ وَصِلَتَهُ. فَكَيْفَ إِذَنْ بِالْخَلْوَةِ بِاللَّـهِ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ، وَالْقُرْبِ مِنْهُ فِي السُّجُودِ، وَبَثِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ. لَا مَقَامَ لِأَهْلِ الْفَرَحِ بِاللَّـهِ تَعَالَى أَعْظَمُ وَلَا أَلَذُّ مِنْ هَذَا المَقَامِ. وَمَنْ شَكَا ثِقَلًا فِي الصَّلَاةِ، وَعَجْزًا فِي الْقِيَامِ لَهَا، وَكَسَلًا فِي أَدَائِهَا، وَفِقْدَانًا لِلْخُشُوعِ فِيهَا، فَلْيَتَفَقَّدْ قَلْبَهُ فَإِنَّهُ نَاقِصُ الْفَرَحِ بِاللَّـهِ تَعَالَى وَبِطَاعَتِهِ فَلْيَزِدْهُ فِي قَلْبِهِ تَصْلُحُ لَهُ صَلَاتُهُ.
وَكُلُّ عِبَادَةٍ كَالصَّلَاةِ فِي هَذَا المَعْنَى، تَسْهُلُ الْعِبَادَةُ عَلَى الْعَبْدِ، وَيَفْرَحُ بِهَا بِقَدْرِ فَرَحِ قَلْبِهِ بِاللَّـهِ تَعَالَى.
وَمَنْ فَرِحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى أَكْثَرَ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْدَارِهِ فِي خَلْقِهِ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الصَّالِحينَ: «مَنْ أَدَامَ النَّظَرَ بِقَلْبِهِ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ الفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى».
وَمَنْ فَرِحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى أَدْمَنَ ذِكْرَهُ، فَلَا يَفْتُرُ لِسَانُهُ عَنِ اللَّهَجِ بِهِ، وَلَا يَغْفُلُ قَلْبُهُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِيهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَرِحَ بِأَحَدٍ أَكْثَرَ ذِكْرَهُ.
إِنَّ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى هُوَ أَعْلَى نَعِيمِ الْقُلُوبِ، وَأَرْفَعُ لَذَائِذِ النُّفُوسِ، وَمَقَامُهُ أَعْلَى المَقَامَاتِ، وَالْعُبُودِيَّةُ بِهِ أَجَلُّ عُبُودِيَّةٍ، وَبِهِ تُفْتَحُ أَبْوَابُ اللَّذَّةِ بِالْعِبَادَةِ، وَالْخُشُوعِ فِيهَا، وَالمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَمَا عُبِدَ اللهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ أَعْظَمَ وَلَا أَجَلَّ مِنَ الْفَرَحِ بِهِ وَالْفَرَحِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَأَمَّا الْفَرَحُ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ جَاهٍ وَمَالٍ وَنِسَاءٍ وَأَوْلَادٍ وَمَتَاعٍ فَهُوَ فَرَحٌ لَا يَصْفُو وَلَا يَدُومُ؛ فَالْجَاهُ يَزُولُ، وَالمَالُ يَذْهَبُ، وَيَبْلُغُ سِنًّا يَعْجَزُ فِيهِ عَنِ النِّسَاءِ، وَرُبَّمَا شَقِيَ بِالْأَوْلَادِ. وَهُوَ مَعَ كُلِّ ذَلِكَ يُفَارِقُ مَا فَرِحَ بِهِ مِنْ لَذَائِذِ الدُّنْيَا.
إِنَّ الْفَرَحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى لَا يَزُولُ مِنَ الْعَبْدِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا فَرِحَ بِاللَّـهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَرِحَ بِلِقَائِهِ عِنْدَ المَوْتِ، وَفَرِحَ بِلِقَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفَرِحَ بِرُؤْيَتِهِ فِي الْجَنَّةِ. وَاللهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِلِقَاءِ مَنْ فَرِحَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الشُّهَدَاءِ: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: 170]، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّـهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّـهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
الفرح بالله تعالى مشكولة.doc
الفرح بالله تعالى مشكولة.doc
الفرح بالله تعالى.doc
الفرح بالله تعالى.doc
المشاهدات 3902 | التعليقات 4
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
جزاك الله خيرا
شكر الله تعالى لكم مروركم ودعاءكم وأسأل المولى سبحانه أن يستجيب لكم ويثيبكم
قلبي دليلي
أسال المولى جلت قدرته أن يجعلك من الذين قال فيهم ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾
تعديل التعليق