الفرحة بتراص الصفوف

سامي بن محمد العمر
1443/08/05 - 2022/03/08 09:08AM

الفرحةُ بتراصِّ الصفوفِ   أما بعد: (ثم تبسمَ يضحكُ) لأنّ المشهدَ مُفرِحٌ مُبهجٌ. (ثم تبسمَ يضحكُ) لأنه رأى شيئاً من فضلِ من الله ورحمتِه، وربُّه تعالى يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] عن أنسِ بن مالكٍ رضي اللهُ عنه: "أنّ أبا بكرٍ رضي اللهِ عنه كانَ يُصلي لهم في وَجعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي تُوفيَ فيه، حتى إذا كانَ يومُ الاثنين وَهُمْ صفوفٌ في الصلاةِ، فَكشفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سِترَ الحجرةِ ينظرُ إلينا وهو قائمٌ كأنّ وجهَه ورقةُ مصحفٍ، ثمّ تبسمَ يضحكُ"([1]) قال الوزيرُ ابن هُبيرة رحمه الله: "لمّا رآهم على تلك الحالةِ مِنَ استواءِ الصفوفِ وصلاةِ الجماعةِ سرَّهُ ذلك فضحِكَ صلى الله عليه وسلم"([2]). إنها الفرحةُ بما أقرَّ عيْنَه مِن تآلُفِهم وتحابِّهم والذي دلَّ عليه انتظامُهم وتراصُّهم ولينُ بعضهم بأيدي بعض. الاستواءُ والتراصُّ في الصفوفِ مسألةٌ ذاتُ أهميةٍ كُبرى في مِنهاجِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقضيةٌ عُظمى تَشغلُ جزءاً غيرَ قليلٍ من زمنِ الصلاة. استمعوا بقلوبِكُم لهذهِ الأوامر: - (اسْتوُوا ولاَ تَختلِفوا فتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)([3]). - (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإنَّ تَسْوِيةَ الصَّفِّ مِنْ تَمامِ الصَّلاةِ)([4]). - (لَتُسوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ ليُخَالِفَنَّ اللَّه بَيْنَ وجُوهِكُمْ)([5]). - (أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَينَ المنَاكِب، وسُدُّوا الخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلا تَذَرُوا فَرُجَاتٍ للشيْطانِ، ومَنْ وصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّه، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعهُ اللَّه)([6]). - (رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَاربُوا بَيْنَها، وحاذُوا بالأَعْناق، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إِنَّي لأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ منْ خَلَلِ الصَّفِّ، كأنَّها الحَذَفُ)([7]). والحذَفُ: غَنَمٌ سُودٌ صغارٌ تَكُونُ بِالْيَمنِ.   هذه أوامرُ نبويةٌ؛ تتجاوزُ الظواهرَ الشكليةَ لتتعمقَ في القلوبِ والأرواحِ، وتقودَ للصفاءِ والنقاءِ ونبذِ الخلافاتِ، وتُفشِلَ ما ينفُثُه الشيطانُ من وَسْوسَات.  إنّ إهمالَ تسويةِ صفوفِ الصلاةِ والتراصِّ فيها سببٌ لضياعِ هيبةِ الصلاةِ، وفقْدِ الخشوع، وتنافرِ القلوب، وفشوِّ الخلافات، وسرعةِ الغضبِ، وقلةِ التآلف، والتصلبِ في المواقفِ والآراء. يقول ابن القيم رحمه الله: "اجتِماعُ القلوب وتآلُفُ الكلمة مِن أعظمِ مقاصدِ الشرع، وقد سدَّ الذريعةَ إلى ما يُناقِضُه بكلِّ طريقٍ حتى في تسويةِ الصفِّ في الصلاة؛ لئلا تَختلفَ القلوبُ"([8]). ولهذا اشتدَّ اهتمامُ السلفِ بهذه المسألةِ؛ لعلمِهم بعِظَمِ أثرِهَا على الأُمةِ: عن أنسِ بن مالكٍ رضي اللهُ عنه أنه قَدِمَ المدينةَ، فقيلَ لهُ: ما أنْكرتَ مِنّا منذُ يومِ عهِدتَ رسولَ اللهِ؟! قال: "ما أنكرتُ شيئًا، إلا أنكم لا تُقيمونَ الصفوفَ"([9]). وكان ابنُ عمرَ رضي اللهُ عنهما يقول: "لأَنْ تقعَ ثَنِيَّتايَ أحبُّ إليَّ مِن أن أرى خَلَلاً في الصفِّ فلا أسُدَّهُ"([10]). ويقولُ الشيخُ ابنُ بازٍ رحمه الله:" إنّ تساهلَ بعضِ الأئمةِ وبعضِ المأمومينَ بتسويةِ الصفوفِ في الصلاةِ والعنايةِ بها واستقامتِها والتراصِّ فيها؛ فهو أمرٌ يُخشى فيه غضبُ اللهِ سبحانه، للوعيدِ الواردِ في ذلك"([11]) اهـ. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....   الخطبة الثانية أما بعد: فإنَّ تسويةَ الصفوفِ التي تحققُ لجماعةِ المسلمينَ تلك الفضائلَ الربانيةَ، وتدفعُ عنهم الوساوسَ الشيطانيةَ؛ هي التي يكونَ فيها: المحاذاةُ بالمناكبِ والأَكْعُبِ، والتراصُّ بلا تزاحمٍ ولا فتْحِ فُرُجَاتٍ للشيطانِ، وإكمالُ الصفوفِ الأولَ فالأول، والتقاربُ بينَ الصفوفِ بعضِها من بعض، وبينَ الصفِ الأولِ والإمام([12]). إنّ التراصَّ في صفوفِ الصلاةِ عبادةٌ وقُربةٌ، وتدريبٌ يوميٌّ يُغيّرُ الأخلاقَ من التشدُّدِ والتصلُّبِ إلى اللِّينِ والرِّقةِ، ومنَ الجفاءِ والتباعدِ إلى التقارُبِ والأُلُفةِ.  إنّ التراصَّ في صفوفِ الصلاةِ يُشْعِرُ بعظمةِ الدينِ وتكاتفِ المؤمنينَ ويقمعُ الشياطين، ويُغيظُ الكفرةَ والمنافقينَ، فمَنْ أَلانَ نفسَهُ لإخوانِهِ في الصلاةِ؛ فسيُلينُ لهم قلبَه وقولَه وفكرَه وفعلَه في ميادينِ الحياةِ، ومَنْ سدَّ فُرجاتِ الصفِّ على الشياطينِ فلنْ يَسمحَ بفتحِ أمثالِهَا للمنافقينَ والمفسدينَ كي يسْعَوا في الأمةِ فَسادًا وضلالاً. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]   اللهم اهدنا فيمن هديت...      

 

 

([1]) أخرجه البخاري (1/136)(680)

([2]) الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 48)

([3]) أخرجه مسلم في (الصلاة) برقم (654)

([4]) أخرجه البخاري في (الأذان) برقم (681)، ومسلم في (الصلاة) برقم (656)

([5]) أخرجه البخاري في (الأذان) برقم (676)، ومسلم في (الصلاة) برقم (659)

([6]) أخرجه أبو داود (1/ 178)(666) وصححه الألباني.

([7]) رواه أبُو دَاوُدَ (1/ 179)(667) وصححه الألباني.

([8]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين ت: مشهور (5/ 28)

([9]) صحيح البخاري (1/ 146)(724).

([10]) مصنف عبد الرزاق (2472) وابن أبي شيبة (3846).

([11]) مجموع فتاوى ابن باز (12/ 10).

([12]) ينظر: الشرح الممتع لا بن عثيمين (3/7 -13)

المرفقات

1646730522_الفرحةُ بتراصِّ الصفوفِ.pdf

1646730654_الفرحةُ بتراصِّ الصفوفِ.docx

المشاهدات 1032 | التعليقات 0