الفَتى المُعَلَّم
إبراهيم بن صالح العجلان
إخوة الإيمان :
عرفته مكة غلاماً راعياً ، يطوي سهولها وأوديتها، يتتبَّع منابت الشجر ، ومواقع القطر ، مع غنيمات لعتبة بن أبي معيط، أحد سادات قريش.
كان هذا الراعي فقيراً، قليل الحيلة، هيناً على الناس، لا يُؤْبه له ، فانصرمت عشرون سنة من حياته على هذه الحال ، حتى جاء ذات اليوم الذي رفع الله حال هذا الغلام من قُمْقُمِ الهَوان والعزلة، إلى قِمَمِ العِزِّ والرِّفعة.
وكان ذلك في تلك الصبيحة التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصديق رضي الله عنه إلى أطراف مكة، وقد بلغ بهما التعب والجهد مبلغا ، فتوجها إلى غنيمات يرعاهما غلام نحيف، شديد الأدمة، وسألاه أن يسقياهما من لبنها، فقال الراعي : ( الغنم ليست لي وأنا عليهم مؤتمن )
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم شاة حائلاً ، لم يَنْزُ عليها الفحل – أي هي لا تدر لبنا أصلا- ، فأعطاهم شاة صغيرة ، فمسح صلى الله عليه وسلم ضرعها، وذكر الله تعالى عليها ، فانبثق اللبن من الضرع دَرَّاً غزيراً ، فشربا من لبنها ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للضرع : ( اقلص) ، فقلص، ورجع إلى حاله الأولى.
أما الغلام الراعي، فقد علت مٌحيَّاه الدهشة، وعلم يقينا أن تلك معجزة ما كان لبشر أن يبلغها، وما هي إلا أيام معدودات حتى ترك الراعي تلك الغنيمات ودخل مكة مسلماً معلناً إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته،فقدم بين يدي النبي r ، فقال : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ ، فَمَسَحَ يَدَهُ rعَلَى رَأْسِه، وَقَالَ : ( يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، إِنَّكَ لَغُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ).
هذا الراعي الأمين، والفتى المعلَّم ، كان له بعد ذلك في الإسلام شأنٌ ، وأيُّ شأن.
هو أحد السابقين الأولين، شهد بدراً، وهاجر الهجرتين .
بالعلم ساد أقرانه وعَصْره، وبالقرآن أعلى الله شأنه وذِكْرَه.
كان نحيفا قصيراً ، شديد السمرة ، فقيرا في جاهليته وإسلامه ، أحبه النبي صلى الله عليه وسلم حباً جَمْاَ وكناه بأبي عبد الرحمن، قبل أن يولد له ولد .
كان من أعلم الأصحاب بأحوال النبي r في مدخله ومخرجه، وسفره وحضره، ونومه ويقظته ، مما أهَّله أن يكون مرجعَ الصحابة في العلم والفتيا.
قال عنه الذهبي : ( كان من أذكياء العلماء) ، إنه شيخ العبادلة : عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي رضي الله عنه.
أول محطةٍ تستوقفنا في حياة ابن مسعود : هي التصاقه الشديد بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأوكل له النبي صلى الله عليه وسلم أمر سواكه وطهوره ونعليه وفراشه إذا سافر ، حتى لقب بصاحب سواد رسول الله .
بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يأذن له بالدخول عليه في بيته متى ما شاء ، يُحدِّثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فيقول: ( قدمت من اليمن، وما أحسب ابن مسعود إلا من اهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة دخوله وخروجه عليهم).
يا أهل الإيمان : يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى ليرفع بهذا القرآن أقواما ويضع آخرين).
وابن مسعود من أولئك الرجال الذين رفع القرآن شأنَهم، وأبقى في الآخرين أثرهم ، شهد له النبي r بالأداء المتقن والمهارة في القراءة .
هل هو رسول الله r يمشي ومعه أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، فسمع ابنَ مسعود يقرأ القرآن في صلاته فافتتح سورة النساء فسحلها ـ أي قرأها قراءة متتابعة متصلة ـ ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف منصت لقراءته بخشوع وإعجاب ، ثم قال : ( من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد).
ثم قعد ابن مسعود يسأل ربه ، ولم يشعر بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكان من دعائه : (اللَّهُمّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لاَ يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (سل تعطه، سل تعطه) .
حمل القرآن في زمن النبي r غير واحد من الصحابة ، لكن خُصَّ ابنُ مسعود رضي الله عنه بخاصية دون غيرهم، يوم طلبه النبي r دون غيره فقال له : ( اقرأ علي القرآن) .
فابتدأ ابن مسعود يرتل آيات من سورة النساء ، فأثرت تلك القراءة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت وهو متخشع حتى إذا بلغ قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ) قال: ( حسبك يا ابن مسعود، حسبك يا ابن مسعود)، فنظر ابن مسعود إلى من تعلَّم منه القرآن وقد غلبه البكاء ، وذرفت عيناه الشريفتان ، فبكى رضي الله عنه لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم يكن ابنُ مسعود رضي الله عنه حافظاً لأحرف القرآن ، غير عالم بمقاصده ودقائق تفسيره، بل كان رضي الله عنه إماماً من أئمة الصحابة في تفسير القرآن، شهد هو ذلك على نفسه إقرارا بنعمة الله تعالى،وشهد له علماء الصحابة وكبارهم.
يقول رضي الله عنه عن نفسه: (والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه ، ولست بخيركم)
كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إذا سئل عن شيء يقول : (لا تسألوني ما دام هذا الحبر بين أظهركم).
دخل ابن مسعود رضي الله عنه ذات يوما على عمر رضي الله عنه فأفسح له ، وجعل يتهلل ويكلمه ويمازحه، فلما انصرف أتبعه عمر بصره حتى توارى ثم قال: (كُنَيْفٌ مُلِئَ علماً) والكُنَيْفْ تصغير الكِنْف ، وهو الوعاء الصغير، فشبه عمر قلب ابن مسعود بالوعاء الصغير المليء علما.
إخوة الإيمان : وكان ابن مسعود رضي الله عنه فصيحاً بليغاً ، إذا تكلم أسر الألباب ، ونطق بالحكمة وكانت ألفاظه درراً ، ومدرسة للأجيال.
ومن كلماته التي تكتب بماء الذهب قوله : (من كان منكم مستناً، فَلْيَسْتَنَ بمن قد مات، فإنَّ الحي لا تُؤمن عليه الفتنة).
ومن مأثور قوله أيضا : ( توجهوا بقلوبكم إلى القرآن ، واعملوا به لتسودوا على الأرض ، وتسعدوا به في الآخرة)
وقال ايضا : ( رُبَّ شَهْوَةٍ أوْرَثتْ حُزْنَاً طويلا ).
ونصح أحدهم فقال : ( من جاءك بالحق فاقبل به ، وإن كان بعيدا بغيضاً ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان قريبا حبيبا).
ومن أخبار ابن مسعود رضي الله عنه وأوسمته العالية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره ذات يوم بالصعود إلى نخلة باسقة ليجني له بعض ثمرها ، فامتثل لأمر نبيه مسرعاً ، وصعد تلك النخلة، فضحك الصحابة رضي الله عنهم من دقة ساقيه فقال r : (لهي أثقل في الميزان من جبل أحد) رواه الامام أحمد وهو حديث صحيح
نعم لقد كان ابن مسعود نحيلاً قصيراً ، دقيق الساقين، بَيْدَ أنه كان يحمل نفس عظيمة، وشجاعة باسلة، تجبن دونها شجاعة الشجعان ، حتى انه ليصدق فيه قول القائل : تَرى الرَجُلَ النَحيلَ فَتَزدَريهِ *** وَفي أَثوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ.
كان رضي الله عنه مسعراً مغواراً ، إذا اشتد ضراب الحرب أرْخصَ نفسَه لا يريدُ بقاءَها :
أخو الحربِ إن عَضَّتْ به الحربُ عضَّها ** وإنْ شَمَّرتْ عن ساقِها الحربُ شَمَّرا
في يوم أحد لما خلص المشركون إلى النبي r، وكان هدفا لسهامهم وسيوفهم ورماحهم ما ثبت بين يديه إلا نفر قليل من أصحابه ، كان من بينهم ابن مسعود رضي الله عنه ، وكان من شجاعتهم وبسالتهم أنْ ردوا المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن شجاعته النادرة أنه أول الصحابة الذين جهروا بالقرآن على رؤوس صناديد قريش، نعم أعلن ذلك في الوقت الذي كان يُستخفى فيه بالإسلام، ولم يكن لابن مسعود في مكة ظهير، ولا أمان يمنعه من بطش القوم ، وتعرض بسبب شجاعته تلك إلى الضرب حتى سال الدم من وجهه.
أما يوم بدر، فقد كان لابن مسعود شأن مذكور ، سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن أبا جهل قد أصيب في المعركة، فأمر أن يُلتمسَ بين الجرحى، وخرج ابن مسعود يلتمسه ، قال ابن مسعود : (وقد كان ضَبَثَ بي مرة بمكة ـ أي ضبث بيده على صدره ـ فآذاني ولكزني)، فوجده ابن مسعود ملطخاً بدمائه ، فوضع قدمه على رقبته ، وقال له : ( لقد أخزاك الله ، يا عدو الله") ،فقال أبو جهل بكبره المعهود (لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَ الغنم) ، فاحتز ابن مسعود رأسه وجزَّه، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنفله سيفه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اهتدى أما بعد:
فيا عباد الله : وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقي ابن مسعود رضي الله عنه على عهده بنبيه صلى الله عليه وسلم، شديد التمسك بهديه في كل صغير وكبير، يُسأل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن أقرب الناس هدياً وسمتاً برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما أعرف أحدا أقرب سمتاً وهدياً ودَلَّاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابنِ أمِّ عبد ، قَدْ عَلِمَ الْمَحْفُوظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ أَقْرَبِهِمْ إِلَى اللَّهِ زلفى ) رواه الترمذي وغيره وسنده صحيح.
وظل ابن مسعود رضي الله وفياً لخلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ناصحاً لهم، وكان الأصحاب رضي الله عنهم يُكْبِرونه ويُجِلُّونَه ويبوئونه المكانة الأسمى .
حتى إذا كان عهد الفاروق رضي الله عنه وبنى الكوفة وشيد فيها المسجد كتب إليه أهلُها يسألونه معلماً وكانت العراق حديثة عهد بإسلام، فأرسل عمر رضي الله تعالى عنه أعلم الصحابة في زمانه وكتب إلى أهل الكوفة : إني والله الذي لا إله غيره قد أثارتكم با بن مسعود على نفسي فخذوا منه وتعلموا).
فسافر رضي الله عنه إلى الكوفة معلماً ومرشداً ، وأقام فيها عشر سنين، وبقي أثرُه وسمتُه وهديُه بين طلابه، حتى سموا بالقناديل، وتخرج من مدرسة ابن مسعود بالعراق كثيٌر من الفقهاء والمفسرين والمحدثين، وببركة علمه وإخلاصه وصدقه أحيَ اللهُ به تلك الديار، وأصبحت منارة من منارات العلم والتعليم .
وفي آخر حياته رضي الله عنه حَداه الشوق إلى مدينة رسول الله r، فهاجر إليها زمن خلافة عثمان رضي الله عنه، فاستقبله كبار الصحابة خير استقبال وأكرموه أيَّـما إكرام .
ثم بعد ذلك جاءه أمر الله الذي لن يخطأ أحد من البشر ، فمرض رضي الله عنه مرضاً شديداً ، فزاره عثمان في مرضه ذاك، ودعا له وقال له : ما تشتكي يا ابن مسعود ؟ قال: ذنوبي ، قال : فما تشتهي؟ قال : رحمة الله.
ثم كان أخر كلمة سمعت من ابن أم عبد قبل أن تفيض روحه : ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله.
وهكذا قضي الغلام المعلَّم نحبه ، وانتقل إلى جوار ربه، بعد حياة عظيمة، مليئة بالتقى والزهد والجهاد، فرضي الله تعالى عنه ، وعن جميع الصحابة والآل وجمعنا وإياهم في دار كرامته في جنات عدن عند مليك مقتدر.
المرفقات
‫عبد الله بن مسعود - نسخة.doc
‫عبد الله بن مسعود - نسخة.doc
المشاهدات 5590 | التعليقات 6
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
أنار الله بصيرتك والله إني لأفرح بخطبك فرحا شديدا
فلا تحرم الناس من هذا الخير
لا فض فوك يا شيخ إبراهيم وأسأل الله تعالى أن يحرمك على النار
الله يجزيك الجنة ويرفع قدرك شيخنا إبراهيم بما نفعتنا في هذه الخطبة المباركة والمثالية
المشايخ الكرام : أبومحمد الغامدي ، شبيب القحطاني ، ميزان الاعتدال، عبدالله الروقي، زياد الريسي
شاكر لكم دعواتكم، ومشاعركم
نفع الله بكم ، ونصر بكم الدين
أبو محمد الغامدي
بسم الله الرحمن الرحيم
لا فض فوك يا شيخ إبراهيم وأسأل الله تعالى أن يحرمك على النار
وابشر فقد استفاد الكثير من خطبك فلا تبخل علينا ..
محبك في الله ..,,
تعديل التعليق