الفتور بعد مواسم الطاعات
صغيّر بن محمّد الصغيّر
الفتور بعد مواسم الطاعات (خطبة)[1]
إن الحمد لله .. أما بعد :
فيا عباد الله : ربط الله تعالى تحقيق التقوى بأولي الألباب ، فقال جل ذكره : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)...وفي آية أخرى جعلها وصية للأولين والآخرين ..(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ)
بل أوضحَ سبحانه أن كُلَّ هذا لأجلنا -والله تعالى غني عنّا - ولذا قال في تتمة الآية... (وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا).. فليسأل كُلٌّ منَّا نفسَه هل حقق التقوى ..!!؟ التقوى التي تجمعُ محبةَ الله والخوفَ منه ورجاءَه!!
الأيامُ تسرعُ بنا إلى لقاءِ ربِّنا، فتُقَرِّبُ كلَّ بعيد، وتُفني كلَّ جديد، ولا يبتدئُ عامٌ إلا وينتهي ، وها هو ذا رمضان مرَّ في لمح البصر، وأعقبه الحج ثم مضى سريعاً وينتهي به العام الهجري ؛ فيخلفه عام جديد ، وبالأمس أُغلقت المدارسُ وغداً تُفتحُ ، وهكذا تمضي الأيامُ بالعمر، حتى يبلُغَ الأجلُ ، والحازمُ من استودع في أيامه ولياليه عملاً صالحاً ينفعُه ، وادخرَّ في عمره ما تكون به نجاته ، والمخذول من يأكلُ ويشربُ ويلهو ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ يَوْمِهِ وَأَمْسِهِ ، ولا يعتبرُ بما مضى من عمرِهِ؛
(أَفَرَءَيتَ إِن مَّتَّعَٰناهُم سِنِينَ .. ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ)
أيها الأخوة : حالةٌ تصيبُ كثيرينَ منّا بعد مواسمِ الطاعاتِ فبَعدَ الهمةِ العاليةِ والإقبالِ على الله يبدأ بضعفٍ وقصورٍ فيتعثرُ ممشاه ويبدأ ضوؤه بالانحسار ... ربما يكون طبعياً في بدايته لكن المصيبةَ إذا استَمَّرُ هذا الضعفُ والتكاسلُ...
الفتورُ عن الطاعة لم يسلم منه حتى بعضُ الصالحين ..بل هو مدخلٌ من مداخلِ الشيطانِ إليهم ، بل إن نَفَس الشيطانِ فيه طويلٌ ، وكيدَه في الإصابةِ به متنوع ، حتى يقتنعَ صاحبُه أنه فيه على حق ، وأنه كان على خطأ أو تطرف .
و هذا الداءُ قد يَتقَمَّصُ في نفس المصاب به شخصيةً أخرى ، وهي الكآبةُ أحيانًا أو الحيرةُ ، أو الخوفُ ، أو الانطواءُ أو نحو ذلك .. وما ذاك إلا لأن العبد الصالح المداوم على الطاعة غرضٌ كم تمنى الشيطان أن يصيبَه بسهمه المسموم؟!! ، ليرديه قتيلَ الضعفِ الممقوت ، والانتكاسةِ المهينة .
ولكن ما أهونَ هذا الشيطان وما أقلَّ حيلته وما أضعفَ كيده إذا واجهه المؤمن بسلاحِ الإيمان المضَّاء !! ، ونورهِ الوضَّاء!! فراجع أسبابَ ضعفَ إيمانه ، ونظرَ في عللَ فتورِه وتقصيرِه ، واتخذَّ من أسبابِ الثبات على دينه ما ينصرُه على الشيطان في هذا الصراع العنيف.. فمن فقهِ العبد كما قال أبو الدرداء : أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم : أيزداد هو أم ينتقِص ؟ اهـ..
فضعف الإيمان في القلب من أخطر أسباب الفتور: لأنه وَرَدَ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : القلبُ مَلِكُ الأعضاء ، والجوارحُ جنودُه ورعاياه ، فإن طابَ الملك طابت الجنودُ والرعايا ، وإن خَبُثَ الملك خبثت الجنودُ والرعايا .
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن ، وفي مجالس الذكر – أي العلم – وفي أوقات الخلوة .اهـ
ويقول شيخ الإسلام : إذا لم تجد للعمل حلاوةً في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإنَّ الرَّبَ تعالى شكورٌ، يعني لابد أن يثيبَ العاملَ على عملِه في الدنيا ، من حلاوةٍ يجدُها في قلبه ، وقوةٍ وانشراحٍ وقُرّةِ عينٍ ، فحيث لم يجد ذلك فعملُه مدخول .ا هـ
وانتبه من ضعفِ الإرادة والهمةِ وإن ضعفت فتعاهدها بالتدريب ولو بشئٍ يسير يوميا يكبر شيئاً فشيئاً..
قال ابن القيم رحمه الله : اعلم أن العبدَ إنما يقطع منازلَ السيرِ إلى الله تعالى بقلبه وهمتِه لا ببدنه ، فالتقوى في الحقيقة تقوى القلب لا تقوى الجوارح .. قال – جل وعلا: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) فهداية القلب ثمرةٌ للإيمان ، ولو هدى الله قلبك استقامت جوارحك كلها على الطاعة. .
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
وقال – جل وعلا : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ )
قال ابن القيم رحمه الله : فالسابقون في الآخرة إلى الرضوان والجنات هم السابقون في الدنيا إلى الخيرات والطاعات ، فعلى قدر السبق هنا يكون السبق هناك...اهـ
أيها الأخوة :
ومن أخطرِ ما يديمُ الفتورَ: الاستهانةُ بصغائرِ الذنوب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إياكم ومحقراتِ الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجلِ حتى يهلكنه" بل وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن المؤمنَ يرى ذنوبَه كأنه قاعدٌ تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه ،وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مر على أنفه فقال به هكذا" .!!
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "إن الطاعة نوراً في الوجه ، ونوراً في القلب ، ونوراً في البدن ، وسعةً في الرزق ، ومحبةً في قلوب الخلق ، وإنَّ للمعصية سواداً في الوجه ، وظلمةً في القلب والقبر ، ووهناً في البدن ، وضيقاً في الرزق ، وبُغضاً في قلوب الخلق".
قال – جل وعلا :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } أي : محبةً ومكانةً في قلوبِ عباده المؤمنين .
يتشعب الفتور بالنفس عندما تصاحب ذوي الهم الضعيفة والإرادات الدنيئة الدنية. فمن الناسِ مَنْ تُذَكِّرُكَ وجوهُهُم بالمعاصي وتستثيرُ كلماتهُم شهواتُك الكامنة ، وتحرِّكُ كلماتُهم ووجوههُم وكلماتُهم غرائِزُك الهاجعة، فإياك أن تصحبَ هؤلاء فهم والله الداءُ بعينه ..!!
وكما قيل : انْجُ بنفسك واضربْ مع أهل ِكل عبوديةٍ بسهم ، بمعنى:اصحب أهل الصلاح ، واضرب معهم بسيف واصحب أهل الإنفاق ، واضرب معهم بسهم، واصحب أهل القيام واضرب معهم بسهم واصحب أهل الذكر واضرب معهم بسهم .
وفي الحديث : "لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي" ...
نعم لأنك إذا رأيت الموفقين سبقوك احتقرت نفسك وسارعت الخطى لتلحق بالركب .. وإن من أعظم البيئاتِ التي يتجدد فيها إيمانُك مجالس العلم ، قال جل وعلا:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} و قال جل وعلا: { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } و مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، وأولو الألباب هم من يعون هذا ..!
إن القصدَ والاعتدالَ في الطاعات بلا إفراطٍ أو تفريط من خيرِ ما يُعين على دفعِ الفتورِ بل والمسارعة في الخيرات ... ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم للثلاثةِ الذين قالوا أين نحنُ من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟!! فقال أحدهم : أما أنا أصلي الليل أبدا ، وقال الآخر : أما أنا أصوم الدهر ولا أفطر أبدا ، وقال الثالث : وأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا . فقال لهم صلى الله عليه وسلم : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"و قال أيضا صلى الله عليه وسلم:"ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد".
ابدأ بالأسهل فالأسهل حتى يفتح الله لك أبواباً من الطاعة ...
قالت عائشة رضي الله عنها في الصحيح : إن أول ما أُنزل من القرآن سورة فيها ذكر للجنة والنار ، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، لا تزنوا لا تشربوا الخمر ، تقول:ولو نزل أول مانزل : لا تشربوا الخمر ولا تزنوا لقالوا لا ندع الخمر ولا الزنا أبدا ..
واجعل لنفسك ورداً من القران والأذكار الواردة والنوافل : فإن لها تأثيرا عجيباً في الثباتِ مع المحافظة على الصلوات في جماعة ، ولنتأمل هذه الآية التي وردت في قصة شعيب مع قومه الذين قالوا له: (يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) ؟!.
فهم مع كفرهم يدركون أن للصلاة تأثيراً على استقامة سلوك الإنسان وتوحيده بل حتى في معاملاته المالية!
ويقول الله جل شأنه:(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ)
عليك بالمداومة على الاستغفار في السحر ولو شيئا يسيرا حتى تكتب عند الله من المستغفرين بالأسحار ، مع التذلل والتضرع والدعاءِ لربِ الأرض و السماء ، قال الله تعالى في الحديث القدسي:" من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب،وما تقرب إلى عبد بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ، ولا زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يبصرُ به ، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه".
جعلنا الله وإياكم من أوليائه ..أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله :
أيها الأخوة : سُرْعَانَ ما يَبْطُلُ العملُ إذا كان لغيرِ الله ..فآآهٍ ثم آآآهٍ على أعمالٍ ضاعت قُصد بها غيرُ وجهِ الله.. والله يقول (َمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)...بل و قال لنبيه صلى الله عليه وسلم (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) بل الأمرُ أعظم من ذلك فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إنّ أوّل الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد ، فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها ، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت لأَن يقال: جريء،. فقد قيل، ثمّ أُمر به فسُحب على وجهه حتّى أُلقي في النار.
ورجلٌ تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن ، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها ، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته، وقرأت ْفيك القرآن، قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسّع الله عليه ، وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: كذبت ، عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك؟ قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقدت قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهد، ثمّ ألقي في النار" رواه مسلم .
رزقنا الله الإخلاص في القول والعمل وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ..
[1] _ مستفادة من عدة كتب وخطب ومواعظ