الفتن وموقف المسلم منها بين الإقدام والإحجام - خطب مختارة
الفريق العلمي
لا يكاد المرء يجد كلمة أصدق في وصف عصرنا الحالي من أنه "عصر الفتن"، فتن تموج كموج البحر، بل كقطع الليل المظلم، رايات كثيرة تُرفع، وأقوال شاذة تُنْشَر، وقناعات بغير سند شرعي تتبدل، واتُّهِم الأمين بالخيانة، وائتُمن الخائنون، وليست الرزية في فقد أمانة مال، أو خيانة دراهم فقط، بل المصيبة العظمى أن تكون الخيانة في الدين، وأن تُوسَّد الأمور في بلاد المسلمين –للأسف الشديد- لمن يضيعونها ولا يقومون على حفظها.
ولا ينبغي لمنصِف عاقل أن ينكر ما تتعرض له مجتمعاتنا الإسلامية في العصر الحديث من فتن كثير، عبر طوفان من الشهوات، وإفساد الأخلاق، وما فُتح على الناس من أبواب الشر؛ عبر قنوات هدّامة، وصحف مُضِلّة، وإعلام غاوٍ، وإنترنت لقيط يحوي كثيرًا من الشرور، وعددًا كبيرًا من المخاطر الأخلاقية والسلوكية، فضلاً عن نشر الضلالات العقدية والبدع العملية، ناهيك عن إذاعات مشبوهة لا يحمل أثيرها إلا الغثّ من الأغاني والموضات، وأخبار اللاعبين والفنانين!!
والأدهى من ذلك: كثرة الرايات المرفوعة، وكلهم يزعم الانتصار للكتاب والسنة، وانزلق بعضهم في الغلو والتكفير، وانصرف آخرون إلى الإرجاء والقدح في العلماء، وانتشرت الأقوال في تتبع هفوات أهل العلم وتضخيمها، ومن ثم القدح فيهم والتحذير منهم بدعوى الجرح والتعديل وصيانة الدين!! ..
ومع كثرة الفتن وانتشارها، كان الأوْلى للناس الرجوع لأهل العلم الثقات، الذين يبلغون دين الله ويخشونه، ولا يخشون أحدًا معه؛ إذ الرجوع إلى أهل العلم عند ظلمة الآراء هو أمر رباني، قال ربنا –تبارك وتعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83]، فلو رد المسلمون ما يستجد عليهم من فتن إلى أهل العلم الربانيين، وسألوهم، بدلاً من إذاعة الشرور، ونشر الإشاعات، واستمراء الفتن، لو فعلوا ما أمرهم به ربهم لهدوا لأفضل السبل، ونجاهم ربهم مما يحيق بهم.
إن من مقولات سلف الأمة المباركة: "إن العلماء يرون الفتن وهي مقبلة، ولا يراها الجاهل إلا وهي مدبرة"، وراجع إن شئت مضمون هذه الكلمة المباركة -بفحواها لا بنصها- عند تفسير آيات سورة القصص التي ذكر فيها ربنا -سبحانه- قصة قارون، وكيف أن أهل قالوا لمن وقعوا في شباك فتن المال والدنيا وغرتهم مظاهر الكبر والترف: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [القصص: 79- 82].
وتأمل حال هؤلاء لما نظروا بأعين قاصرة وأبصار معلولة إلى فتن الدنيا والمال، المصاحب للكبر، الذي كان فيه قارون، ولكن علماءهم حذروهم من الفتن ونبهوهم أن الملك كله لله -سبحانه- يبتلي عباده بالعطاء والمنع، والصحة والمرض، والغنى والفقر؛ لينظر كيف يفعلون، ولما عاين الفقراء مصير قارون، ندموا على موقفهم السابق.
وقس على هذا ما يحدث في بلاد المسلمين من المستجدات والنوازل التي يندفع فيها بعض الشباب بحمية غير محمية بالشرع، وربما أساء وتعدى، واتهم العلماء بالقعود والإرجاف، والخوف، ومشايعة الملوك، ... إلى آخر هذه التهم المعلبة، ويفيق الكثير على مصائب تتلوها مصائب...
إن الذي يبدّل مواقفه في التحليل والتحريم بغير سند شرعي، وإنما تقليدًا واتباعًا لشياطين الجن والإنس، هؤلاء خابوا وخسروا .. ألا في الفتة سقطوا..
إن من يلقي بسمعه وبصره، إلى أجهزة إعلام وصحف ومواقع عنكبوتية شرقية كانت أم غربية، تنشر الفواحش، وتدعو إلى الرذائل، وتبث السم في العسل، ويدع الحبل على غاربه لأسرته وأبنائه لمتابعة هذه الفتن، .. ألا في الفتة سقطوا..
إن من يسلّم فلذات أكباده، ذكورًا وإناثًا وهم صغار شباب، إلى دولة غربية ويدعهم يسافرون وحدهم بحجة الدراسة والعلم، دون وقاية أو حماية من الفتن التي يعيشون فيها، ثم يرجع بعدها يتساءل عن سبب انحراف أبنائه، فهذا وأمثاله غُبِنوا.. وفي الفتة سقطوا، وحينها لا يلومن إلا نفسه..
وإن من يستشرف للفتن، ويتطلع لها، ويبحث عنها، تستشرفه الفتنة، وتجره إليها، ويغويه شياطين الإنس والجن.. ألا في الفتة سقطوا.. وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذّرنا من استشراف الفتن، والتجرؤ عليها، والهجوم عليها، والاقتراب منها، فقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ، أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ.. هَكَذَا قَالَ"(أخرجه أبو داود 4319 وصححه الألباني).
إن من يطالع كتب العقيدة ومصنفات السُّنّة، وكتب الأخلاق والزهد، يجد شدة التحذير من الفتن، ولقد اهتم سلفنا الصالح بالفتن وأولوها دراسة وعناية، وحذروا منها أشدة التحذير، وبينوا خطورتها على دين المسلمين وإفسادها لدنياهم، بل إن بعض علماء السلف صنّف كتابًا خاصًّا في الفتن، منها كتاب الفتن لحنبل، وكتاب الفتن لنعيم بن حماد، هذا فضلاً عن أبواب خاصة بالفتن في كتاب الصحاح والسنن والمسانيد، وهذا يدل على الاهتمام بهذا الباب، وحرص سلف الأمة على أن يقي المسلمون أنفسهم شرور الفتن.
إن سبيل النجاة من الفتن، يتمثل في الوعي بها وخطورتها، والفرار مما يشكل على المسلم منها، واللجوء إلى سؤال العلماء الربانين، ليبينوا له ماذا يفعل. ومما يدل على ضرورة الفرار من الفتن، ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ؛ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ"(صحيح البخاري 18) .
ومن سبل النجاة منها: الالتجاء إلى الله ودعاؤه، والركون إليه، والاستعانة به، وسؤاله النجاة منها، وبهذا أمرنا النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"(صحيح مسلم 2867).
ومن سبل النجاة منها، المبادرة إلى الأعمال الصالحة التي تكون سببًا لحفظ دين العبد ونجاته من الفتن، وقد جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- العمل الصالح وقاية من الفتن، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعَرَض مِن الدنيا"(صحيح مسلم 118).
ومن أجل بيان خطورة الفتن، وآثارها على الفرد والمجتمع، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضح أهمية اتباع الشرع ولزوم طريق المؤمنين، والاستمساك بالسنة للنجاة من الفتن، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الأولى: الفتن والاضطرابات .. معالم ووقفات، الشيخ د. صالح بن حميد
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/180274
الخطبة الثانية: معالم للمسلم في أوقات الفتن، الشيخ صالح بن محمد آل طالب
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/178383
الخطبة الثالثة: معالم الهدى في أجواء الفتن، الشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/174469
الخطبة الرابعة: اتقاء الفتن، الشيخ أسامة خياط
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/177068
الخطبة الخامسة: المنهج النبوي التطبيقي في الفتن، الشيخ إبراهيم الدويش
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/174103
الخطبة السادسة: فضل اعتزال الفتن الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/173049
الخطبة السابعة: الفتن والمخرج منها، الشيخ سليمان بن حمد العودة
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/176442
الخطبة الثامنة: أسباب النجاة من الفتن، والموقف السليم منها، والحذرُ من القدح في الدعاة، الشيخ أحمد الطيار
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/179170
الخطبة التاسعة: الاعتصام من الفتن، الشيخ عبد الله بن ناصر الزاحم
https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/179170