الفتنة و دور الشّيطان في اشعالها

[font="] الفتنة و دور الشيطان في إشعالها[/font]
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالقُ الأرض والسماوات العُلَى.. وأشهد أنّ محمدًا عبدُهُ ورسوله، النبيُّ المُجتَبَى، والرسولُ المُرتضَى، والحبيبُ المُفتدَى، صلّى الله وسلِّم عليه، وعلى آله وصحبه أهل البرِّ والتُّقَى..
أما بعد: فاتقوا الله، واذكروا وقوفكم بين يديه يوم تُعرَضون عليه، " يوم يفِرُّ المرءُ من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبته وبنِيه، لكلّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنِيه "..
عباد الله: ديدَنُ اللبيب الواعي وشأنُ الأريب اليَقِظ: كمالُ الحَذَر من كيد العدو، وأخذُ الأُهبَة لاتِّقاء مكره ودرء خطره، ولئن تفاوتَ هذا الخطر بحسب قوة العدو وعلى قدر تمكُّنه من وسائل الإثخان في عدوه وإيصال الأذى إليه، فإنّ من أشدّ العداوات ضررًا وأبعدها أثرًا: عداوة من ذكَر الله في كتابه مُحذِّرًا منه بقوله: " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ". ( سورة فاطر الآية: 6 )، ويتجلَّى في تعهُّده الذي أخذه على نفسه بأن لا يدَع سبيلاً للإغواء إلا سلَكَه: " وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ". ( سورة النّساء الآية: 119 )..
وإذا كان إضلالُه لهم وشغلُه بالأمانِيِّ الكاذبة ودعوتُه لهم إلى تشقيق آذان الأنعام وتغيير خلق الله وهيئتِه التي فُطِروا عليها بعضَ ما في كِنانتِه، فإنّ فيها ضربًا لا يقلّ عن ذلك خطرًا، ذلك أنّ من أظهر ما يُبغِضُهما يرى من أُلفَة المؤمنين وتوادِّهم وتراحُمهم واجتماع كلمتهم واتحاد صفوفهم، فيحمِله ذلك على إثارة أسباب الفُرقة والشِّقاق بينهم، وبذل بذورالفتنة بضرب بعضهم ببعض سعيًا إلى قطع رابطة الأُخُوَّة، والقضاء على وشيجة الإيمان، وهو التحريش الذي أخبر عنه نبيُّ الرحمة صلّى الله عليه وسلم مُحذِّرًا منه أمَّتَه بقوله: " إنّ الشيطان قد يئِسَ أن يعبُدَه المُصلُّون في جزيرة العرب، لكن في التحريش بينهم ".( أخرجه مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، والترمذي في جامعه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه )..
إنّ سعيَه إلى التحريش وأملَه في الظَّفَر بآثاره باقٍ لم يتطرَّق إليه يأس، ولذا فهو يعمل له ويدأَبُ فيه، ويتوسَّل إليه بإعمال الحِيلة لإغراء بعض أبناء الأمّة على بعضها الآخر، بإثارة عوامل النّزاع وإهاجة أسباب التناحُر بطرائق ومسالك يُزيِّنها ويُظهِرها في صورة مصالح ومنافع تبدو خلاَّبةً للعقول، آخِذةً بمجامِع النّفوس، ويستعينُ على بلوغ ما يريد بمن رضِيَ بإتّباع خُطواتِه، والانضِواء تحت لوائه، والاستجابة لوسوستِه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنّه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنّ عرش إبليس على البحر، فيبعَثُ سراياه فيفتِنون بين النّاس، فأعظمُهم عنده أعظمُهم فتنة، يجيءُ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ثم يجيءُ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ويجيءُأحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينَه وبين امرأته، فيُدنيه منه ويقول: نِعْم أنت "..
وانظروا إلى ما فعل بإخوة يوسف عليه السلام حين نزغ بينه وبينهم، ففعلوا ما فعلوا من الكيد له، والعدوان عليه.. غيرَ أنّ أولي الألباب، الذين لم يجعل الله للشيطان سلطانًا عليهم، يعلمون أنّ ربّهم الرّؤوف الرّحيم بهم كما حذَّرهم من طاعة الشيطان ومن اتخاذه وليًّا من دون الله، فقد بيَّن لهم بما أنزل في كتابه من البيِّنات والهدى ما يستعصِمون به من تحريش الشيطان وتفريقه وفتنته..
ومن ذلك: الاعتصام بحبل الله كما أمر الله ورضِيَه لنا، فقال سبحانه: " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ". ( سورة آل عمران الآية: 103 )..
وهو أمرٌ بالاستمساك بدين الإسلام أو بالقرآن، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنّ الله تعالى يرضَى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، فيرضَى لكم: أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحوا من ولاَّه الله أمرَكم، ويكره لكم: قِيل وقَال، وكثرةَ السؤال، وإضاعَة المال ".. ومن ذلك: تذكُّر نعمة الله على عباده، وما منَّ عليهم من نعمة الأُخُوَّة في الدّين بعد ما كانوا عليه من عداوات الجاهلية وقتالها وثاراتها..
ومنه: إتّباع صراط الله المستقيم، والحذَر من إتّباع السُّبُل، لأنّ على كلّ سبيلٍ منها شيطانًا يدعو إليها، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًّا فقال: " هذا سبيلُ الله "، ثم خطَّ خطوطًا عن يمين الخط وعن شماله فقال: " هذه السُّبُل، على كل سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه "، ثم قرأ: " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ". ( سورة الأنعام الآية: 153 )..
وهي وصيّةٌ ربّانيةٌ كريمةٌ من ربٍّ رحيم، وصيّة لعباده بأن يتّخذوا من صراط الله منهاجًا يسلُكونه، ولا يحِيدون عنه، ولا يسلُكون طريقًا سواه، ولايبغُون دينًا غيرَه، لأنّهم إن اتَّبَعوا سُبُل الشيطان حادَت بهم وانحرَفَت عن طريق الله ودينه وشرعه الذي شرَعَه لهم ورضِيَه، وهو الإسلام الذي وصَّى به الأنبياء، وأمرَ به الأُمَمَ من قبلنا..
ومن أسباب السّلامة من تحريش الشيطان أيضًا: تعويدُ الألسنة القولَ الحسنَ والكلمةَ الطيبة، قال تعالى: " وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ". ( سورة الإسراء الآية: 53 )..
وهو كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " أمرٌ من الله تبارك وتعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر عبادَ الله المؤمنين أن يقولوا في مُخاطباتهم ومُحاوراتهم الكلامَ الأحسن والكلمةَ الطيبة، فإنهم إذا لم يفعلوا ذلك نزَغَ الشيطانُ بينهم وأخرج الكلام إلى الفِعال، ووقع الشرّ والمُخاصَمة والمُقاتلة "..
فالقولُ الحسن والكلمة الطيبة يا عباد الله رسولٌ إلى الخير، وقائدٌ إلى الأُلفة واجتماع الكلمة، وسبيلٌ إلى اتّحاد الصفوف، وطريقٌ إلى إرغام الشيطان وإحباطِ سعيِه إلى الفتنة والفُرقة والتنازُع بين أبناء الأمّة الواحدة، ذلك التنازُع الذي نهى اللهُ عبادَه عنه مُبيِّنًا قُبحَ مآله، وسوءَ عاقبتِه، و في ذلك يقول: " وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِروا إِنَّ اللهَ مع الصَّابِرينَ ". ( سورة الأنفال جزء من الآية: 46 )
وكفى بالفشل وذهابِ الرِّيح المُعبِّرَيْن عن أسوأ عاقبة وأقبح مآل ينتظرُ المُتنازِعين، كفى به نذيرًا صارخًا لأُولِي الألباب ليأخذوا حِذرَهم من وساوِس الشيطان وإتّباع خُطواته، وانتهاج سُبُله التي يُزيِّنُها بزُخرف القول، يغُرُّ به من أطاعَه وأسلم له قيادَه، ويُحسِّنُها بالوعود والأمانِيِّ الكاذبة التي اتّخذَت لها في أعقاب الزمن صورًا لا يُحيطُ بها الحصرُ، ولا يستوعِبُها العدُّ، حتى صار لها اليوم من أجهزة الإعلام الحديثة وشبكات المعلومات العالمية بما فيها من قنواتٍ ومواقع وما تُتيحُه من قُدرات و وسائل، صار لها اليوم ساحةٌ لا حدود لها، وميدانٌ لنشر دعواتٍ والترويج لاتّجاهات، والحثِّ على مسيرات، وما يُسمَّى: تظاهرات واعتصامات، يستيقِنُ كلُّ عاقلٍ مُخلِصٍ لله، ناصحٍ لعباده، مُحبٍّ لهم، عظيمِ الشفقةِ عليهم، مُريد الخير بهم، أنها بابٌ عاجلٌ، وبعثُ فتنةٍ نائمة، وسبيلُ فُرقةٍ مائِجة، وطريقُ فوضَى عارِمة، وتعطيلُ مصالح لازمة، وعبَثٌ بأمنٍ راسِخ لا غناء عنه ولا بديل..
فإنّ شأن الفتنة أنّ ضررها يعُمّ ولا يخُصّ، وأن من استشرَفَ لها استشرَفَته، بل من تطلَّع إليها وتعرَّض لها أشرفَ منها على الهلاك، وأنّ القاعد فيها خيرٌ من القائم، وأن القائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من السّاعي، كما أخبر بذلك نبيُّ الرّحمة الرّؤوف الرّحيم الناصحُ الأمين الصّادق الذي لا ينطِق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما..
وإنّ كلّ من ذكر نعمَ الله عليه التي إن عدَّها لم يُحصِها من استشعَر مسؤوليتَه العُظمَى عن الدّين، وسلامة الوطن، و وحدة الأمّة، وأنّ كلّ من أُوتِي الحكمة ورُزِق حظًّا وافرًا من ذكاء الحِسّ وكمال الوعي وسداد الرأي، فنظَر في العواقِب، واتَّقى الفتن، و وازَنَ بين المصالح المتوهَّمة الظنية والمفاسد المُحقَّقة القطعيّة لن يكون أبدًا إلا مُجانِبًا لهذا النُّكْر، رافضًا ذا الفكر، مُعرِضًا عن هذا الطَّرْح، سبَّاقًا إلى الدّعوة إلى ائتلاف القلوب واجتماعها، ونبذ أسباب الفُرقة..
والحَذَر من كلّ سبيلٍ يُفضِي إليها أو يُعين عليها، باذلاً وُسعه في البيان، مُستغرِقًا وقتَه في النُّصح، صارفًا همَّته إلى التحذير، وفي تضافُر جهده وجهد كلّ الحكماء والعقلاء ما يُسدِّد الله به الخُطى، ويُبارِك به السعي، وتُحفَظ به الحوزة، وتُطفَأ به الفتنة، وتحصُل به العاقبة..
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا أنّ في اعتصامكم بحبل الله وإتّباع صراطه المستقيم والحذر من إتّباع السُّبُل، والشدِّ على روابط القوّة، والحفاظِ على أسباب الوحدة، خيرَ عُدَّةٍ لبلوغ ما ترجون من رضوان الربِّ الرّحيم الرّحمن، ودحر عدوّكم الشيطان، وردِّ كيدِه، وهزيمة جُنده وأتباعه..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: " يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ".( سورة البقرة الآيتان : 168/169 )..
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنّة نبيه صلّى الله عليه وسلم.. اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحفظ بلاد المسلمين أجمعين من كيد الكائدين وحقد الحاقدين وحسد الحاسدين وتسلُّط الأعداء أجمعين.. آمين

الشيْخ محمّد الشّاذلي شلبي
الإمام الخطيب
بجامع التّوبة برادس - الجمهورية التّونسية
المشاهدات 2138 | التعليقات 0