الفتنة: معناها, ومن هو المرجع في تمييزها, وأقسام الناس في تعاملهم مع الفتن 29/10
أحمد بن ناصر الطيار
1436/10/28 - 2015/08/13 20:37PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنّ الفتن عمّت وطمّت, فكثر القتل وسفكُ الدماء, وكثر القدح في الدعاة والعلماء, وخاضت العامّة في أمور الأمة, فالواجب علينا أنْ نتعرّف على الفتنِ ومعناها وخطرِها.
أمة الإسلام: الفتنة: هي الأمور والشدائد التي يُجريها الله تعالى على عباده، على وجه الحكمة ابتلاءً وامتحانًا.
ولابد أنْ يمر بها جميعُ الناس؛ حتى يتميز الخبيث من الطيب ..
يقول الله جلَّ وعلا {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (*) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
أمةَ الإسلام: إنَّ أعظمَ الفتن: ظهورُ الكفر والفسق والظلم.
وينبغي أنْ نحذر ممَّا يُروِّجه الْمُنافقون, وأدعياءُ العلم والجاهلون, من أنَّ حفظ الأنفس مُقدَّمٌ على كلِّ شيء, ولو على حساب الدين والحقّ والعدل, فيجعلون الفتنة هي بإراقة الدماء, لا بالكفر والنفاق وتسلُّطِ الأعداء, فإذا طالب أهل الحقّ والعدل بحقِّهم, وُصفوا بأنهم أهلُ الفتنة وأدعياءُ التحريض, ويكفي في الردّ عليهم قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ, قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ, وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ, وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.
وذلك أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيَّة في آخر جُمادى الآخر, وجعل أميرَهم عبد الله بنَ جَحْش، فساروا إلى مجموعةٍ من الكفار المحاربين, فهاجموهم بَغْتة, فأسروا بعضهم وقتلوا آخرين, فكانت أوّلَ غنيمةٍ غَنِمَها أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فعاب عليه المشركون وقالوا: إنَّ محمدًا يزعم أنه يتَّبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب.
فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى وليس في رجب، فأنزل الله تعالى يُعَيِّر أهل مكة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} هو حقًّا أمرٌ كبيرٌ لا يحل، لكن ما صنعتم أنتم يا معشر المشركين: أكبرُ من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصدَدْتم عنه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجتم محمدًا صلى الله عليه وسلم: أكبر من القتل عند الله تعالى.
فالآية صريحةٌ بأنَّ "قَتْلَ النُّفُوسِ وَإِنْ كانَ فيهِ شرٌّ, فَالفتْنةُ الْحاصِلةُ بِالكفْرِ وظُهورِ أَهْلهِ أَعْظمُ مِنْ ذَلِكَ, فَيُدْفَعُ أَعْظَمَ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا", كما قالَ شيخُ الإسلام رحمه الله.
وقال رحمه الله: وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ, كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ, وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ, فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ, وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}. ا.ه
واعلموا معاشر المسلمين, أنّ الحقَّ الواضحَ الْبَيِّنَ لا يُسمَّى فتنة, فقتال البُغاة والمجرمين: هو قتالٌ شرعيٌّ, وجهادٌ فعلي, كقتالِ الخوارجِ والدواعشِ المارقين, وقُطَّاعِ الطريقِ الْمُجرمين.
فلا يُقال لمن أراد قِتَالهم من الجُندِ وغيرِهم: هذا قتال فتنة, لأنَّ قتال الفتنة هو الذي لا يَتَبَيَّنُ فيه الحقُّ من الباطل.
فإذا لم يتبينِ الحقُّ من الباطل فهو قتال فتنة, فحينما وقع القتال بين الصحابة رضي الله عنهم, بيْن معاوية وعليٍّ رضي الله عنهما, امتنع كثيرٌ من الصحابة من الْمُشاركة في القتال, حيث لم يتضح لهم من هو الْمُحق.
والشأن كلُّ الشأن: من هو الذي يُميِّز بين الحق والباطل, وبين قتال الفتنة والقتال الحق.
الذي يُميز ذلك هم ورثةُ الأنبياء, فلا يحق لأحدٍ أنْ يخوض في هذه الأمور برأيه وتحليلاته, وتخميناته وتوقعاته, فالله تعالى جعل المرجع في أمور الدين والفتن: العلماء, فقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
أي إذا جاءهم أمرٌ من الأمور المهمة والمصالح العامة, ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف والمصائب, فعليهم أنْ يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضِدَّها.
فإن رأوا في إذاعته مصلحةً ونشاطًا للمؤمنين فعلوا ذلك.
وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحةٌ, أو فيه مصلحةٌ ولكنَّ مضرَّتَه تزيد على مصلحته لم يُذْيعُوه، ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم, وتجاربِهم وحنكَتِهم.
فالواجب علينا التأنِّي والترويّ عند وروُدِ الفتن, والأخبار والإشاعات.
ومن التأنِّي والترويّ: اتِّهامُ الرأي, قبل اتِّهامِ آراء العلماءِ والدعاةِ وأهلِ الرأي والحكمة, وعدمُ القدح بهم, بِحُجَّة أنّ الشيخ الفلانيّ قال عن أحدِهم كذا وكذا.
وقد يقول قائل: نحن نقدح بالشيخ أو الداعية الفلانيّ, لأنّ مَن قال ذلك شيخٌ أعلم وأفضل منه؟
فنقول: إنْ كان هذا الشيخ لم يُخالفه غيرُه في قولِه, فانسب القول إليه ولا تزد على كلامه, ولا تجعله مُبرِّراً لك على ما تُصْدره من اتهاماتٍ وتجاوزات.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله, أنه لا يجوز لأحدٍ أنْ ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غيرَ النبي - صلى الله عليه وسلم, فلا يجوز له أنْ يجعل الشيخ الفلاني هو الحق, ومن عداه أو خالفه في بعض آرائه على الباطل.
أما إذا كان هناك علماءُ آخرون يرون خلاف رأيه, فلا يجوز لك أنْ تأخذ برأي أحدهم بما يُوافق هواك, بل كن ورعاً وقل: لا أعلم, حتى تنجو وتسلم.
نسأل الله تعالى أنْ كما سلّمنا من دماء المسلمين, أنْ يُسلّمنا من أعراضهم, إنه سميعٌ قريب مُجيب.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: الناسُ في تعاملهم مع الفتن ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: العالم والحكيم؛ وهو الذي وفَّقه الله في تعامله مع الفتن, وعنده علمٌ شرعيٌّ أو تجريبيّ, فحذِر منها وتجنَّبها، وحذَّر غيره فنجا وسَلِم، وعلى هذا جاء حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. متفق عليه
القسم الثاني: الذين يتعرَّضون لها, ويسعون إليها، ويستشرفونها ولا يخافون منها, فهؤلاء هم وقود فتنة، قد ضلوا وأضلوا، ففي الصحيحين أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ».
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: قَوْله ( مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ) أَيْ تَطَلَّعَ لَهَا, بِأَنْ يَتَصَدَّى وَيَتَعَرَّض لَهَا, وَلَا يُعْرِض عَنْهَا: فإنها تُهْلِكهُ, بِأَنْ يُشْرِف مِنْهَا عَلَى الْهَلَاك، فمَنْ اِنْتَصَبَ لَهَا اِنْتَصَبَتْ لَهُ, وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا أَعْرَضَتْ عَنْهُ. ا.ه
القسم الثالث: الجاهلون بالفتن وخطرها، فهؤلاء إن سلموا من التعرض لها، والجلوس مع أصحابها ودُعاتها: وإلا فإنهم على خطر عظيم, حيث تَسْهُل قيادتهم ودعوتهم، وإقناعهم وتغييرُ أفكارهم.
واعملوا معاشر المسلمين: أنّ من الناس من يسكت عن الحق, أو يترُكُ نصرةَ إخوانِه ونُصحهم ومُساعدتهم, بحجةِ طلبِ السَّلامةِ من الفتنة, وهذا لا يجوز.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهادِ في سبيل الله: من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة , صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك: بأنه يطلب السَّلامة من الفتنة. ا.ه
ومعنى كلامه رحمه الله: أنَّه لَمَّا كان في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والجهاد في سبيل الله: من المشقة والابتلاء, صار الكثير من الناس إذا طُلب منه القيامُ بما أمر الله, والصدعُ بالحق, تخاذل وخذَّل غيره, وحُجَّته في ذلك أنه لا يفعل ذلك خوفاً من الفتن.
فمن سكت عن المنكر بحجة درءِ الفتنة, فقد وقع هو في الفتنة بسكوته, وكتمانه ما أوجبه الله عليه..
نسأل الله تعالى أنْ يُجنبنا الخوض في الفتن, وأنْ يُعجل بالفرج عن الأمة, إنه على كل شيء قدير.
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنّ الفتن عمّت وطمّت, فكثر القتل وسفكُ الدماء, وكثر القدح في الدعاة والعلماء, وخاضت العامّة في أمور الأمة, فالواجب علينا أنْ نتعرّف على الفتنِ ومعناها وخطرِها.
أمة الإسلام: الفتنة: هي الأمور والشدائد التي يُجريها الله تعالى على عباده، على وجه الحكمة ابتلاءً وامتحانًا.
ولابد أنْ يمر بها جميعُ الناس؛ حتى يتميز الخبيث من الطيب ..
يقول الله جلَّ وعلا {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (*) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
أمةَ الإسلام: إنَّ أعظمَ الفتن: ظهورُ الكفر والفسق والظلم.
وينبغي أنْ نحذر ممَّا يُروِّجه الْمُنافقون, وأدعياءُ العلم والجاهلون, من أنَّ حفظ الأنفس مُقدَّمٌ على كلِّ شيء, ولو على حساب الدين والحقّ والعدل, فيجعلون الفتنة هي بإراقة الدماء, لا بالكفر والنفاق وتسلُّطِ الأعداء, فإذا طالب أهل الحقّ والعدل بحقِّهم, وُصفوا بأنهم أهلُ الفتنة وأدعياءُ التحريض, ويكفي في الردّ عليهم قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ, قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ, وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ, وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.
وذلك أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيَّة في آخر جُمادى الآخر, وجعل أميرَهم عبد الله بنَ جَحْش، فساروا إلى مجموعةٍ من الكفار المحاربين, فهاجموهم بَغْتة, فأسروا بعضهم وقتلوا آخرين, فكانت أوّلَ غنيمةٍ غَنِمَها أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فعاب عليه المشركون وقالوا: إنَّ محمدًا يزعم أنه يتَّبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب.
فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى وليس في رجب، فأنزل الله تعالى يُعَيِّر أهل مكة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} هو حقًّا أمرٌ كبيرٌ لا يحل، لكن ما صنعتم أنتم يا معشر المشركين: أكبرُ من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصدَدْتم عنه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجتم محمدًا صلى الله عليه وسلم: أكبر من القتل عند الله تعالى.
فالآية صريحةٌ بأنَّ "قَتْلَ النُّفُوسِ وَإِنْ كانَ فيهِ شرٌّ, فَالفتْنةُ الْحاصِلةُ بِالكفْرِ وظُهورِ أَهْلهِ أَعْظمُ مِنْ ذَلِكَ, فَيُدْفَعُ أَعْظَمَ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا", كما قالَ شيخُ الإسلام رحمه الله.
وقال رحمه الله: وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ, كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ, وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ, فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ, وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}. ا.ه
واعلموا معاشر المسلمين, أنّ الحقَّ الواضحَ الْبَيِّنَ لا يُسمَّى فتنة, فقتال البُغاة والمجرمين: هو قتالٌ شرعيٌّ, وجهادٌ فعلي, كقتالِ الخوارجِ والدواعشِ المارقين, وقُطَّاعِ الطريقِ الْمُجرمين.
فلا يُقال لمن أراد قِتَالهم من الجُندِ وغيرِهم: هذا قتال فتنة, لأنَّ قتال الفتنة هو الذي لا يَتَبَيَّنُ فيه الحقُّ من الباطل.
فإذا لم يتبينِ الحقُّ من الباطل فهو قتال فتنة, فحينما وقع القتال بين الصحابة رضي الله عنهم, بيْن معاوية وعليٍّ رضي الله عنهما, امتنع كثيرٌ من الصحابة من الْمُشاركة في القتال, حيث لم يتضح لهم من هو الْمُحق.
والشأن كلُّ الشأن: من هو الذي يُميِّز بين الحق والباطل, وبين قتال الفتنة والقتال الحق.
الذي يُميز ذلك هم ورثةُ الأنبياء, فلا يحق لأحدٍ أنْ يخوض في هذه الأمور برأيه وتحليلاته, وتخميناته وتوقعاته, فالله تعالى جعل المرجع في أمور الدين والفتن: العلماء, فقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
أي إذا جاءهم أمرٌ من الأمور المهمة والمصالح العامة, ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف والمصائب, فعليهم أنْ يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضِدَّها.
فإن رأوا في إذاعته مصلحةً ونشاطًا للمؤمنين فعلوا ذلك.
وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحةٌ, أو فيه مصلحةٌ ولكنَّ مضرَّتَه تزيد على مصلحته لم يُذْيعُوه، ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم, وتجاربِهم وحنكَتِهم.
فالواجب علينا التأنِّي والترويّ عند وروُدِ الفتن, والأخبار والإشاعات.
ومن التأنِّي والترويّ: اتِّهامُ الرأي, قبل اتِّهامِ آراء العلماءِ والدعاةِ وأهلِ الرأي والحكمة, وعدمُ القدح بهم, بِحُجَّة أنّ الشيخ الفلانيّ قال عن أحدِهم كذا وكذا.
وقد يقول قائل: نحن نقدح بالشيخ أو الداعية الفلانيّ, لأنّ مَن قال ذلك شيخٌ أعلم وأفضل منه؟
فنقول: إنْ كان هذا الشيخ لم يُخالفه غيرُه في قولِه, فانسب القول إليه ولا تزد على كلامه, ولا تجعله مُبرِّراً لك على ما تُصْدره من اتهاماتٍ وتجاوزات.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله, أنه لا يجوز لأحدٍ أنْ ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غيرَ النبي - صلى الله عليه وسلم, فلا يجوز له أنْ يجعل الشيخ الفلاني هو الحق, ومن عداه أو خالفه في بعض آرائه على الباطل.
أما إذا كان هناك علماءُ آخرون يرون خلاف رأيه, فلا يجوز لك أنْ تأخذ برأي أحدهم بما يُوافق هواك, بل كن ورعاً وقل: لا أعلم, حتى تنجو وتسلم.
نسأل الله تعالى أنْ كما سلّمنا من دماء المسلمين, أنْ يُسلّمنا من أعراضهم, إنه سميعٌ قريب مُجيب.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: الناسُ في تعاملهم مع الفتن ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: العالم والحكيم؛ وهو الذي وفَّقه الله في تعامله مع الفتن, وعنده علمٌ شرعيٌّ أو تجريبيّ, فحذِر منها وتجنَّبها، وحذَّر غيره فنجا وسَلِم، وعلى هذا جاء حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. متفق عليه
القسم الثاني: الذين يتعرَّضون لها, ويسعون إليها، ويستشرفونها ولا يخافون منها, فهؤلاء هم وقود فتنة، قد ضلوا وأضلوا، ففي الصحيحين أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ».
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: قَوْله ( مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ) أَيْ تَطَلَّعَ لَهَا, بِأَنْ يَتَصَدَّى وَيَتَعَرَّض لَهَا, وَلَا يُعْرِض عَنْهَا: فإنها تُهْلِكهُ, بِأَنْ يُشْرِف مِنْهَا عَلَى الْهَلَاك، فمَنْ اِنْتَصَبَ لَهَا اِنْتَصَبَتْ لَهُ, وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا أَعْرَضَتْ عَنْهُ. ا.ه
القسم الثالث: الجاهلون بالفتن وخطرها، فهؤلاء إن سلموا من التعرض لها، والجلوس مع أصحابها ودُعاتها: وإلا فإنهم على خطر عظيم, حيث تَسْهُل قيادتهم ودعوتهم، وإقناعهم وتغييرُ أفكارهم.
واعملوا معاشر المسلمين: أنّ من الناس من يسكت عن الحق, أو يترُكُ نصرةَ إخوانِه ونُصحهم ومُساعدتهم, بحجةِ طلبِ السَّلامةِ من الفتنة, وهذا لا يجوز.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهادِ في سبيل الله: من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة , صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك: بأنه يطلب السَّلامة من الفتنة. ا.ه
ومعنى كلامه رحمه الله: أنَّه لَمَّا كان في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والجهاد في سبيل الله: من المشقة والابتلاء, صار الكثير من الناس إذا طُلب منه القيامُ بما أمر الله, والصدعُ بالحق, تخاذل وخذَّل غيره, وحُجَّته في ذلك أنه لا يفعل ذلك خوفاً من الفتن.
فمن سكت عن المنكر بحجة درءِ الفتنة, فقد وقع هو في الفتنة بسكوته, وكتمانه ما أوجبه الله عليه..
نسأل الله تعالى أنْ يُجنبنا الخوض في الفتن, وأنْ يُعجل بالفرج عن الأمة, إنه على كل شيء قدير.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق