الفتنة النائمة .......

محمد كياد المجلاد
1432/04/22 - 2011/03/27 20:12PM
حديثنا لهذا اليوم عن أمر عظيم وخطب جسيم تتهافت عليه النفوس ومن خوفه تشرأب حديثنا عن النائمة المستيقظة التي تخطف الصالح والطالح وتأكل الأخضر واليابس حديثنا ليس رجماً بالغيب ولا رسماً بالشنائة والعيب حديثنا الفتنة وما أدراك ما هيْ إنها الفتنة النائمة فلعن الله تعالى من أيقظها نسير معها وليس معها نأخذ بأخبار السلف الصالح وكيف تعاملوا معها فأزالها الله تعالى عنهم.


عباد الله : المشاهد للساحة العالمية اليوم يرى عجباً حروب ودمار وتقتيل وتشريد وإعصار تقسيم ومظاهرات وفيضانات فتن كقطع الليل المظلم البهيم تحُيّر عاقل العالم الحليم فتن تنذر قلب المؤمن الحصيف وتقرع مسامع التقي الأسيف لكي يقف معها وقفات تأمل وتدبر ، ولا تمر عليه مر السحاب بل يقف معها ويعلم أنه ليس بين الله تعالى وبين عبيده نسب ولا قرابة وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد بل هي للاعتبار وللادكار .


وقد أمر eبالفِرار من مواقع الفتنة؛ لئلاَّ يُفتَن العبد في دينه، ولكيلا تتَلَطَّخ يداه بالدماء المعصومة؛ كما في حديث أبي سَعِيدٍ t قال: قال رسول الله e : ((يُوشِك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يَتبَع بها شَعَفَ الجِبال ومَواقِع القطر، يَفِرُّ بدينه من الفِتَن))؛ رواه البخاري، وبوَّب عليه بقوله ~ : "باب من الدين الفرار من الفتن".


وسبب الفِرار منها عدمُ استِبانة الحقِّ فيها، وللأهواء مَداخِل على القلوب في شِدَّتها، والسيف إذا وقَع فيها لا يُرفَع منها؛ كما في حديث ثوبان - رضِي الله عنه - أن النبي e قال: ((إذا وُضِع السيفُ في أمَّتي لَم يُرفَع عنها إلى يوم القيامة))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.


وثبت عن نبيكم محمد e أنه قال: ((إن الله تعالى جعل عافية هذه الأمة في أولها وسيصيب آخرها فتن وأمور تنكرونها فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتوه إليه))، وأخبر e عن فتن كقطع الليل المظلم يرقق بعضها بعضاً، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، وذكر e فتناً القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، أي كلما كان أضعف وأعجز فيها كان أخير وأفضل، كما أرشد e من أراد النجاة من تلك الفتن بلزوم إمام - أي ولي أمر - المسلمين وجماعتهم، ولما قيل له فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة ؟ قال: فاعتزل تلك الفرق ولو أن تعض على أصل - أي جذع - شجرة، وأمر e من حضر الفتن أن ينأى - أي يبعد - عنها، ومن سمعها بأهلها فلا يأتيهم، وأخبر e أن من يستشرف لتلك الفتن تستشرف له، وأن من يصغي لدعاتها يفتن بهم فيتبعهم فيهلك معهم بخسارة دينه ودنياه وآخرته، وتعرضه لعذاب ربه وسخطه ومقته.


وتجد في هذا الزمان من يتمنى أن تحدث الفتنة كما حدثت في بلدان ليست بالبعيدة عنا ولو علم هذا الجاهل أن الفتنة إذا قامت فمن الذي سوف يطفئها وتجده تعرض عليه نصوص الكتاب والسنة ويستهزأ بها ويقول هل عندكم من علم فتخرجوه لنا فما العلم الذي يريده هذا الجاهل المركب هل يريد علم الغرب وقوانينهم الوضعية التي لا تمت للإسلام ولا لأهله بصلة أما ماذا يريد كلام أهل الكلام الذي يحاكي العقول ويتلف القلوب والأبصار وهل هو يريد الإصلاح حقاً أم يريد أن يكون ممن يستغل الفرص ويحظى بالكنوز العظيمة والأموال الكبيرة فيفر بها كما يفعل مدعي الإصلاح في كل زمان ومكان وكما قيل الفتنة إذا اقبلت لا يعرفها إلا العلماء وإذا ادبرت عرفها كل أحد .


والغريب أن الجميع في كل فتنة تحدث وكارثة تقع خاصة فيما يتعلق بين الحاكم والمحكوم وأنهم يريدون التغيير يستدلون ببيت لأبي القاسم الشابي :


إذا ما الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر


ـ سبحان الله العظيم ــ انظر يا عبد الله كيف عصفت الأحداث والفتن وكيف سلبت العقول !انظر كيف يستدلون ببيت مناقض للعقيدة والتوحيد بحيث يجعلون مشيئة الله تابعة لمشيئة خلقه والله عز وجل يقول (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)ولكن أكثرهم لا يعقلون .


ومما أثر من كلام السلف قول أحدهم: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" وإنما يوقظ الفتن أحد ثلاثة:


إما جاهل بدين الله، أو ذو هوى، متقول على الله داع لهواه مضل لعباد الله، وأما الثالث فمنافق أفاك، لئيم حاقد سفاك، فالأول مشقٍ لنفسه ومن اتبعه، والثاني مفسد للدين الذي منّ الله به وشرعه، وقرن كل خير به ومعه، والثالث تارك للفرض مفسد في الأرض، ساعٍ إهلاك الحرث والنسل سيء الحظ، فجنايته كبيرة وخطرة، بالتعدي على حرمات المسلمين، وتغيير صورة الدين، والتمكين للأعداء المتربصين، ﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ، والكل منهم ﴿ إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد .


ولقد فَقِه الصحابة الذين رَوَوْا أحاديث الفِتَن وفضْل اعتزالها ما وصَّاهم به النبي e فاعتَزَلُوا الطوائف المُتقاتِلة، ومنهم مَن خرج إلى البادية فِرارًا من الفتنة:


كان منهم سلَمة بن الأَكْوَع t فإنَّهُ دخل على الحجَّاج فقال له: "يا ابن الأَكْوَع، ارتَددتُ على عَقِبَيْك تعرَّبتَ، قال: لا، ولكن رسول الله أَذِنَ لي في البدو".


وعن يزيد بن أبي عُبَيد ~ قال: لما قُتِل عثمان بن عفَّان خرج سلَمة بن الأَكْوَع إلى الربذة، وتزوَّج هناك امرأةً، وولدت له أولادًا، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليالٍ نزل المدينة"؛ رواه البخاري وبوَّب عليه، فقال ~: "باب التَّعَرُّب في الفتنة".


ومن كِبار الصحابة الذين اعتَزلُوا الفِتَن سعدُ بن أبي وقَّاص t ذهَب في غنَمِه وترَك الناس يَموجُون في الفِتَن، فجاءَه ابنُه عمر - وكان ممَّن انغَمَس في الفِتَن - فلمَّا رآه سعدٌ قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب، فنزل فقال لأبيه: أنَزلتَ في إبلك وغنَمِك وتركتَ الناس يَتنازَعون الملك بينهم؟ فضرب سعدٌ في صدرِه فقال: اسكت، سمعت رسول الله e يقول: ((إن الله يحبُّ العبدَ التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ))؛ رواه مسلم.


- وقال الحسنُ ~:"لو أنَّ الناسَ إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صَبَروا ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فوالله ما جاؤوا بيوم خير قط"


وقال شيخ الإسلام ~:" أنَّ عامة الفتن التي وقعت من أعظم أسبابها قلةُ الصبر إذ الفتنة لها سببان: إمّا ضعف العلم، وإمّا ضعف الصبر، فإنّ الجهل والظلم أصل الشر، وفاعل الشر إنما يفعله لجهله بأنّه شر، ولكون نفسه تريده، فبالعلم يزول الجهل، وبالصبر يُحبسُ الهوى والشهوة، فتزول الفتنة" انتهى كلامه رحمه الله.


ونحن في هذا الزمان نرى انشغال الناس عند الفتن بقيل وقال وكثرة السؤال، ومتابعة الإعلام، بل بعضُ من كان معافى من القنوات الفضائية أدخلها إلى بيته بدعوى متابعة آخر الأخبار ومستجدات الساحة!!، وإذا به يبتلى بمتابعة آخر الرقصات والمسلسلات - نسأل الله العفو والعافية -، وربما تردى به الحال إلى القنوات الأخرى!!،


وقد قال مُطَرِّف:"نَظرتُ في العافيةِ فوجدتُ فيها خير الدنيا والآخر".


الحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً *** تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ


حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا ***وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ


شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ ** مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ


ومما ينبغي التفطن له أنّ الانشغال بتتبع أخبار المسلمين وأحوالهم للدعاء لهم ومساعدتهم ليس من الفضول المرغب عنه، بل هو من المأمور به لمن قدر عليه، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص وأحوالهم ومكانتهم وقدراتهم.


ومما ينبغي أيضاً أن نقف معه في مثل هذه الفتن هذه الظاهرة والموضة الجديدة التي يلجأ إليها بعض الشباب، في بعض الأقطار العربية، كتعبيرٍ منهم عن رفضهم للظروف المادية والحياتية الصعبة التي يعيشونها .. إلى حرق أنفسهم .. ليلفتوا نظر رأي العام لقضاياهم ومظالمهم .. ومما زاد الطين بلَّة أن بعض وسائل الإعلام صورت مثل هذا العمل على أنه عمل بطولي، يدخل في إطار النضال، والمعارضة السياسية للأنظمة .. مما جرأ مزيداً من الشبابِ أن يُبادروا إلى حرق أنفسهم، على مرأى ومسمع من الناس .. حتى بتنا في كل يوم تقريباً نسمع عن حالة حرق من هذا القبيل!


فمن أكبر الكبائر أن يقتل المرء نفسه .. ثم أن نفسك ليست ملكاً لك لكي تفعل بها ما تشاء كما تهوى وتريد .. وإنما هي ملك لخالقها، يجب عليك أن ترعاها وتتلطف بها وفق أمر الله تعالى وشرعه .. فإن قصرت في رعايتها في شيء ـ فعرضت نفسك لنوع أذى أو ضرر بغير سلطان من الله تعالى ـ فلسوف تُسأل وتُحاسَب.


قال تعالى:(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) وقال تعالى:(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) .والتهلكة هنا شاملة لجميع موارد الهلكة والضرر المادية منها والمعنوية التي حذّر الشرع من ورودها.


وفي الحديث فقد صح عن النبي e أنه قال:" لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامة حتى يُسأل عن أربعٍ: عن عُمُرِهِ فيمَ أفناهُ، وعن علمِه ماذا عمِل به، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفِيمَ أنفَقَهُ، وعن جسمِه فِيمَ أبلاهُ "/FONT][/B][B][COLOR=black][FONT=Traditional Arabic]رواه الترمذي وقال: حديث حسنٌ صحيح[/FONT][/COLOR][/B][B][FONT=Akhbar MT. هل أبلى جسده في طاعة الله تعالى أم في معصيته.


وقال e :" من قَتلَ نَفْسَهُ بحديدةٍ فحديدَتُه في يدِه يتَوجَّأُ بها في بطنهِ في نارِ جهنَّم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شَرِبَ سماً فقتل نفسَه فهو يتحسَّاهُ في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبَداً، ومن تَردَّى من جبلٍ فقتلَ نفسَهُ فهو يَتردَّى في نارِ جهنَّم خالداً مخلداً فيها أبداً "رواه مسلم. وهذا وعيد شديد توجل منه القلوب المؤمنة.


وقال e :" الذي يَطعنُ نفسَهُ، إنما يطعنها في النارِ، والذي يتقحَّم فيها يتقَحَّمُ في النار، والذي يخنقُ نفْسَهُ يخنقها في النَّار " /FONT][/B][B][COLOR=black][FONT=Traditional Arabic]أخرجه أحمد، وصححه الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة[/FONT][/COLOR][/B][B][FONT=Akhbar MT.


وقوله " والذي يتقحم فيها "؛ أي الذي يتقحم في نار الدنيا " يتقحم في النار "؛ أي نار الآخرة؛ فالعذاب من جنس العمل.


وقال e :" مَن قتَلَ نفْسَهُ بشيءٍ في الدنيا عُذِّبَ به يومَ القيامة "رواه مسلم.


وغيرها كثير من النصوص التي تنهى عن الانتحار وقتل النفس، أو تعريضها لأي نوع أذى أو ضرر بغير سلطان من الله تعالى.


ثم قتل المرء لنفسه لم يكن قط علامة على شجاعة ورجولة صاحبه،وإنما هو علامة على الضعف والانهزام والهروب من مواجهة ومجاهدة الواقع بما ينبغي كما أنه مناف للصبر الواجب على أقدار الله المؤلمة التي يجب أن يتحلى به المسلم في حال الضراء ولكنها حملة إعلامية تريد زعزعت الثوابت وتغير المتغيرات لدى المسلمين .


وإنما يترتب هذا الوعيد الشديد والتهديد الأكيد على قتل النفس لأن قاتل نفسه جمع بين عدة كبائر موبقة وجرائم مهلكة؛ أولها: سوء الظن بالله، وثانيها: اليأس من روح الله، وثالثها: القنوط من رحمة الله، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وما قدروا الله حق قدره ، ويقول: ﴿ ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً .


وإذا كان قتل الإنسان لنفسه جريمة غليظة العقوبة فإن إظهاره أمام الملأ أعظم جرماً وأكبر إثماً فيعظم جرمه ويكبر إثمه ويغلظ عذابه لكونه سنّ سنة سيئة في الإسلام يتبع عليها، ويشوه الإسلام ويجعل أهله شماتة لأعداء الأمة المتربصين بها الدوائر، قال e ((من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا))، وقال e ((لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول - يعني الذي قتل أخاه المذكور في سورة المائدة - كفل "أي نصيب" من دمها "أي وزر قتلها" لأنه أول من سن القتل))، ولذا قال e ((لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)).
المشاهدات 6841 | التعليقات 0