الـــــــــــــدنــــيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا 1445/8/6ه
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عباد الله : يقول ربنا سبحانه وتعالى : ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ ونحن آجالُنا محصورةٌ وأعمارُنا معدودةٌ ولا بدّ لنجاتنا من تصحيح المفاهيمِ والتصوّراتِ عن هذه الحياة الدّنيا الّتي نعيش فيها، وأن نَعرضها على بيان الكتابِ والسنَّة، لنكون في منجى من الخسارة في الدّارين؛ ذلك هو الخسران المبين، إنَّ الدُّنيا دارُ عمل وسعي للآخرة، وليست بدار خلدٍ ومقام، وكلُّ من عليها لا محالةَ فانٍ وإلى الله صائرٌ.
قال تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ .
عباد الله: إنَّ الدُّنيا لهوٌ ولعبٌ، ومتاعٌ قليل، ودارٌ غَرور، ولا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل ذلك عند الله، ما سقى كافرا منها شَربة ماء ، استمعُوا إلى ما قال الله عزّ وجلّ عن الدنيا التي تُلهينا عن ذكر ربِّنا الجليل، وعن ما أوجبهُ علينا:
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾.
عباد الله : هذا بعضُ ما جاء في وصف الدنيا في القرآن وأما السنة فقد بيّن النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم زهادة الدّنيا وحقارتها:
وعنه صلّى الله عليه وسلّم: "أنَّهُ مرّ بسخلة ميتة منبوذة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أترون هذه هانت على أهلها؟ فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من هوانها ألقوها، قال: فوالذي نفس محمد بيده للدنيا أهون على الله عزَّ وجلَّ من هذه على أهلها".
وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: "ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب، قال في ظل شجرة في يوم صائف، ثم راح وتركها"
عباد اللهِ: هذه هي الدّنيا ألّتي شغلت بجمعها كثيرا من النّاس عن أداء ما أوجب الله عليهم من ذكره، والمحافظة على الصّلوات في الجماعة، والدّعوة إلى سبيله، والصّبر لإعلاء دين الله على الأديان الباطلة ، ما أعجب أمر النّاس!! وما أسرعَ نسيانَهم بالّذي يُتلى عليهم من القرءان!!.
﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾.
واعلمو أنّ إرادة الدّنيا ومحبّتها والرّضاءَ بها أمرٌ خطير ومذموم عند الله، بل يُعدّ من أبرز صفات الكفّار والمنافقين.
وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ. أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
عباد الله: ومن ابتلاء الله لعباده، أنَّهُ جعل ما في هذه الحياة الدّنيا لذّةً وخضرةً، تطّلع إليها النّفوس، مع أمره بالزّهد فيها، والإعراض عن زخارفها، وعدم محبّتها.
وقال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾.
الخطبة الثانية
عباد الله : ومن صحَّ إيمانه ويقينه، وعلم ما أعدَّهُ الله لأوليائه، من رزق طيّب وظلّ دائم وجنّات عدن في الآخرة، فإنَّهُ يُدركُ بالمقارنة بين الدنيا والآخرة، أنَّ أهل الدنيا من الكفرة والمنافقين، هم الخاسرُون المغبونون، وأنَّ أهل الإيمان هم السعداء المفلحون، وبأضدادها تُعرف الأشياءُ.
وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾.
عباد الله : بما أنّ سلعة الله غالية وهي الجنّة، وأنَّ الجنّة حفّت بالمكاره، و أنَّ جزاء الكافرين والمنافقين النّار، فلا محيدَ من السّعي واقتحامِ العقبات، والمجاهدةِ الدّائمة للفوز برضى الله والجنّة.
قال تعالى: ﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾.