الغيبة مَحصَدَةُ الحسنات
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله السميع وَسِع سَمْعُه الأصوات، فلا تَشْتَبِهُ عليه بل يَسمع ضجيجها باختلاف اللغات، لا يَشغله سمعٌ عن سمعٍ ولا تُغَلِّطُه كثرةُ المسائل والحاجات، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الذات والأفعال والصفات، وأشهد أن محمدا عبدُ الله ورسولُه مَن أرسله رحمةً للعالمين، وهُدًى للناس أجمعين، ألَّف به بين قلوب المؤمنين، وحذّر مما يُحْدِث الشقاق وفساد ذات البَيْن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضائل السابقين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه وأقبلوا عليه، فإن مَن أقبل إليه تلقاه، ومَن أعرض عنه لم يكله إلى عدوه، ولم يدعه في إهماله، بل يكون أرحم به من الوالدة بولدها، فإن تاب فهو أفرح بتوبته من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدَّوِيَّةِ المَهْلَكَة بعد فقدها واليأْس منها {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}.
عباد الله.. إنه عملٌ يزيد في رصيد السيئات ويُنقص من رصيد الحسنات، صاحبه مفلسٌ يوم القيامة، وهو في عِدادِ المعذَّبين في قبورهم، وفي عِداد أهل النار، قد توعّده الله عز وجل أن يفضحه، يؤدي لنشر الحقدِ والحسدِ والكراهيةِ والبغضاءِ وإفسادِ المَوَدَّات، وقطعِ أواصر الأخوة الإيمانية، ومَلءِ القلوبِ بالضغائن والعداوات، إنها الغيبةُ يا عباد الله، بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم معناها فقال: ذكرك أخاك بما يكره، وذلك بما يكون فيه، أما ذكرك أخاك بما يكره مما ليس فيه فهو بهتان وأعظم إثما.
لقد نهى الله عز وجلَّ عن الغيبة ونفَّر منها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }، قال الشوكاني رحمه الله: (فهذا نهيٌ قرآنيٌّ عن الغيبة مع إيراد مَثَلٍ لذلك يزيده شدةً وتغليظاً، ويُوقع في النفوس من الكراهة والاستقذار لما فيه ما لا يُقادَرُ قَدْرُهُ، فإنَّ أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره بنو آدم جبلة وطبعاً، ولو كان كافراً أو عدواً مكافحاً، فكيف إذا كان أخاً في النسب أو في الدين؟ فإن الكراهة تتضاعف بذلك، ويزداد الاستقذار فكيف إذا كان ميتاً؟!) ا هـ، وفِي الأدَبِ المُفْرَدِ عَن ابن مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُ قال: "ما التَقَمَ أحَدٌ لُقْمَةً شَرًّا مِنَ اغْتِيابِ مُؤْمِنٍ".
عباد الله.. كما توعّد الله عز وجل المغتابون، فقال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة}، قَالَ قَتَادَةُ: "يَهْمِزُهُ وَيَلْمِزُهُ بِلِسَانِهِ وَعَيْنِهِ، وَيَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، ويطعنُ عَلَيْهِمْ"، وجاء في السنة وعيدٌ خاصٌّ في قبره، ففي الصحيحين من حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنه قال: مَرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَما يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ثمَّ قَالَ بَلى أما أحَدُهُمَا فَكانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَأمَّا الآخَرُ فَكانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ"، وتَذَكُّر هذا الحال والمآل يبعث على حفظ اللسان عمَّا لا يُرضِي الملك الديَّان، اغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال له: اذكر القطن إذا وضع على عينيك.
مع ما تُوعِّدَ به في الآخرة، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"، في المسند والسنن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس يقعون في أعراضهم"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "مَن أكَلَ لَحْمَ أخِيهِ فِي الدُّنْيا قُرِّبَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُقالُ لَهُ كُلْهُ مَيِّتًا كَما أكَلَتْهُ حَيًّا فَيَأْكُلُهُ ويَكْلَحُ ويَصِيحُ" حسَّنه ابن حجر.
ذلك عباد الله أن عِرضَ المؤمن قد صانه الشرع وجعله محرما عن الانتهاك، كما حرَّم الدم والمال، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم النحْرِ بمِنَى: "كُلُّ المُسْلِمِ عَلى المُسْلِمِ حَرامٌ: دَمُهُ وعِرْضُهُ ومالُهُ"، فمَن حفظ لسانه عظُم إسلامه وإيمانه كما في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".
وما أشدَّ وَقْعَ الغيبة، ففي السنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"، قال النووي: (هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها وما أعلم شيئا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ) ا هـ، فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات، فما بالك بغيبة أقوى منها!
عباد الله.. وقد يحجب الإنسان عن الغيبة تعقُّلُه وأنْ قد تُوُعِّدَ أن يُفضَح، ففي المسند والسنن عن ابن عمر أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يَدخُل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تَتَّبِعوا عوراتهم، فإنه من تتبَّع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يَفضَحْه في جوف بيته".
وكذا مَن تعقّل أَحَبَّ ألا يكون بما يَكره يُذْكَر، قال ابن عبَّاس رضي الله عنه: "اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودَع منه ما تُحِبُّ أن يَدَع منك"، وقال بعض الحكماء: (عاب رجلٌ رجلاٌ عند بعض أهل العلم فقال له: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس، لأن الطالب للعيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها)، وقيل للربيع بن خثيم: ما نراك تعيب أحداً؟ فقال: "لست عن نفسي راضياً فأتفرغ لذم الناس".
اللهم سلِّم ألسنتنا عن أعراض المسلمين، ونزّه أسماعنا عن الخنا والشَين، ولا تجعلنا من المفلسين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين، يا رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الطَّول والإنعام، أحمده سبحانه ذا الجلال والإكرام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، وأشهد ان محمدا عبدُ الله ورسولُه إلى الأنام، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم القيام، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وجانبوا الغيبة بكل صورها كمن يستمع للغيبة متعجِّبًا من فعل الذي اغتُيب، أو يقول للمغتاب: أعرف أعرف، أو يُشير بيده مُتنقِصًا، أو يتكلم بألفاظ أو أسلوب أو يحاكي فعل الآخرين بغرض السخرية منهم.
وقد يُلبِّس الشيطان على المغتاب فيقول لمن يُنكر عليه: (أنا على استعداد للقول أمامه)، أو يقول: (كلنا نفعل هذا) يعني: ذكر أخاه بما يفعله هو، فجمع بين غيبة أخيه وفَضْحِ نفسه.
واعلموا عباد الله.. أن كفارة المجلس لا تُكفر ما وقع فيه من غيبة للناس، بل حتى التوبة المطلقة غير كافية، فإن حقوق الآخرين لا تَسقط بذلك، بل تستغفر لمن اغتبت وتذكر محاسنه حيث اغتبته، قال ابن القيم رحمه الله: (والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه بل يكفيه الاستغفار وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع صلى الله عليه وسلم فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمي به، ولعله يهيج عداوته ولا يصفو له أبدا).
ثم صلوا عباد الله وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في جميع الأيام، وزيادة منهما في هذا اليوم سيد الأيام على سيد الأنام عليه الصلاة والسلام فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
المرفقات
1674071652_الغيبة محصدة الحسنات.docx
1674071653_الغيبة محصدة الحسنات.pdf