الغِيبة صورها وحكمها.

عبدالله بن رجا الروقي
1435/04/20 - 2014/02/20 10:53AM
أما بعد فإن العبد محاسب على كل مايتكلم به
من خير وشر قال تعالى ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾
وقال تعالى : ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾
وقد ضمن نبينا صلى الله عليه وسلم الجنة لمن حفظ لسانه وفرجه قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ ) .رواه البخاري
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : من علم أن كلامه من عَمَلِهِ ، قل كلامه إلا فيما يعنيه.ا.هـ
فعلى المسلم أن يحفظ لسانه إذ قد يقول كلمة تهدم جبالاً من حسنات كان قد عملها قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ) رواه البخاري .
وإن من كبائر الذنوب المتعلقة باللسان : الغيبةَ.
والغيبة هي أن يذكر الإنسان أخاه المسلم في غيبته بشيء يكرهه ، سواء كان ذلك يتعلق ببدنه أو بأخلاقه أو بلُبسه أو أهله وولده أو غيرِ ذلك.
ومن الأدلة على أن الغيبة من كبائر الذنوب ، قول الله تعالى : ﴿ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾
في هذا الآية نهى الله عز وجل عن الغيبة ثم
ضرب مثلا منفرا عن الغيبة، فقال تعالى:﴿ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ﴾ شبه أكل لحمه ميتا، المكروهَ للنفوس غاية الكراهة ، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه ميتا، فكذلك عليكم أن تكرهوا غيبته فتجتنبوها.
وفي الآية، التحذير الشديد من الغيبة، وأنها من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.
وقد جاء في السنة بيان عقوبة للغيبة تدل على شناعتها وأنها من الكبائر، قال صلى الله عليه وسلم: (لماعُرج به مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم , فقال : يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم ) أخرجه أبو داود.

والغيبة - معاشر المسلمين - بين معناها النبي صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً لا لبس فيه
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذِكرُك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه ) . رواه مسلم
فالحديث فيه بيان معنى الغيبة وهي أن يذكر المسلم أخاه المسلم بمايكرهه من الأشياء التي هو متصف بها فعلاً.
وبعض الناس ربما ظن أن الغيبة لا تكون إلا في اتهام الناس بما ليس فيهم فتجده يعتذر عن غيبته لأحد من المسلمين بأنه لم يقل عنه إلا حقًا. وهذا غلط منه وسوء فهم ؛ فإن الغيبة تكون في ما يتصف به الإنسان مما يكرهه.
وقد تجد المسلم مجتهدًا في أنواع العبادات ، متحرزاً عن المحرمات لكنه لايتحرز من لسانه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع عن الصغائر لحظة، ولكنّه يطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتفكّه في أعراض الخلق.ا.هـ

عباد الله إن الغيبة دركات بعضها أشد من بعض
فغيبة الأقارب ليست كغيبة الأباعد فإن غيبة الأقارب غيبة وقطيعة رحم ، فيكون إثمها أشد.
وغيبة ولاة الأمور من حكام وعلماء أشد كثيراً من غيبة عامة الناس لمايترتب على غيبة الحكام والعلماء من فساد في الدين والدنيا.
ودونكم عباد الله كلامًا نفيسًا للعلامة ابن عثيمين
عن الغيبة أسوقه بتمامه لعظيم فائدته قال رحمه الله:
وتتضاعف- أي : الغيبة - إثما وعقوبة كلما ترتب عليها سوء أكثر، فغيبة القريب ليست كغيبة
البعيد؛ لأن غيبة القريب غيبة وقطع رحم، وغيبة الجار ليست كغيبة بعيد الدار؛ لأن غيبة الجار منافية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره " ووقوع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن: من لا يأمن جاره بوائقه " فإن غيبة الجار من البوائق، وغيبة العلماء ليست كغيبة عامة الناس، لأن العلماء لهم من الفضل والتقدير والاحترام ما يليق بحالهم، ولأن غيبة العلماء تؤدي إلى احتقارهم وسقوطهم من أعين الناس، وبالتالي إلى احتقار ما يقولون من شريعة الله، وعدم اعتبارها، وحينئذ تضيع الشريعة بسبب غيبة العلماء، ويلجأ الناس إلى جهال يفتون بغير علم.
وكذلك غيبة الأمراء وولاة الأمور الذين جعل الله لهم الولاية على الخلق، فإن غيبتهم تتضاعف، لأن غيبتهم توجب احتقارهم عند الناس وسقوط هيبتهم، وإذا سقطت هيبة السلطان فسدت البلدان، وحلت الفوضى والفتن، والشر والفساد، ولو كان هذا الذي يغتاب ولاة الأمور، يقصد الإصلاح، فإن ما يفسد أكثر مما يصلح، وما يترتب على غيبة ولاة الأمور أعظم من الذنب الذي ارتكبوه، لأنه كلما هان شأن السلطان في قلوب الناس تمردوا عليه ولم يعبئوا بمخالفته ولا بمنابذته، وهذا بلا شك ليس إصلاحا، بل هو إفساد وزعزعة للأمن ونشر للفوضى، والواجب مناصحة ولاة الأمورمن العلماء والأمراء على وجه تزول به المفسدة، وتحل به المصلحة، بأن يكون سرا وبأدب واحترام، لأن هذا أدعى للقبول وأقرب إلى الرجوع عن التمادي في الباطل.انتهى كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. [ مجموع الفتاوى - كتاب الحج 21/42 ]
أقول ماتسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية.
أما بعدُ ، فإن الإنسان إذا اغتاب أحداً فإنه يحكمه في حسناته من صلاة وصيام وغيرها فيأخذ منها بقدر غيبته
قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه رضي الله عنهم : أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ . رواه مسلم
وقال ﷺ: من كانت له مظلمةٌ لأحدٍ من عرضِه أو شيءٍ فليتحلَّلْه منه اليومَ ، قبل أن لا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ ، إن كان له عملٌ صالحٌ أخذ منه بقدرِ مظلمتِه ، وإن لم تكنْ له حسناتٌ أخذ من سيئاتِ صاحبِه فحمل عليه. رواه البخاري
والمظلمة في العرض تشمل: الغيبة ، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه » رواه مسلم ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا » رواه البخاري ومسلم.
فإذا لم يعف المظلوم في الدنيا فإنه يقتص له يوم القيامة من حسنات الظالم.
فإذا لم يستطع استسماح أخيه عما حصل من الغيبة فإنه يذكره بالصفات الطيبة التي يعلمها منه في المجالس التي كان يغتابه فيها، ويدعو له ويستغفر له مع التوبة إلى الله التوبة النصوح.

عباد الله : إن المجالس التي يُغتاب فيها أحد من المسلمين مجالسُ سوء يجب الإنكار على أهلها
ونصيحتهم فإن لم يمتثلوا فيجب مغادرة المكان.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
الواجب عليك وعلى غيرك من المسلمين عدم مجالسة من يغتاب المسلمين مع نصيحته والإنكار عليه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, شفإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم في صحيحه ، فإن لم يمتثل : فاترك مجالسته ؛ لأن ذلك من تمام الإنكار عليه. ا.هـ
[فتاوى ابن باز 5/402]
إن المسلم حقًا هو من سلم المسلمون من لسانه ويده ، قال صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.رواه البخاري ومسلم.
ولهذا فقد كان بعض السلف يقول في مجلسه : اللهم سلمنا ، وسلم المؤمنين منّا.
ونحن نقول كذلك: اللهم سلمنا وسلم المؤمنين منا
اللهم احفظ ألسنتنا من معاصيك ووفقنا لمراضيك
وأعننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم ارض عن أصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم أجمعين ، اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم وعن سائر الصحب أجمعين...
المشاهدات 2589 | التعليقات 0