الغلو في الصالحين - 8
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطبة الماضية ذكر المظهر الرابع من مظاهر الغلو في الصالحين، وهو مظهر رفع تراب القبر، وبيَّـنا أدلة النهي عن ذلك من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) وكلام الصحابة، وفي هذه الخطبة نتكلم على مظاهر متنوعة من مظاهر الغلو في الصالحين.
***
مقدمة
عباد الله، من الأمور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين مظهر اتخاذ السُّرج على القبور، أي إنارتها بالسُّرُج والمصابـيح ونحوها، والذين يُسرجون القبور يقصدون بذلك تعظيم الميت لئلا يكون قبـره مظلمًا، وهذا من الغلو المذموم، فقد مات النبـي )صلى الله عليه وسلم) وصحابته ولم يوص أحد منهم بأن يضاء قبـره، وهم أحق الناس بذلك لو كان مشروعًا.
ثم إن في إيقاد السرج على القبور صرفًا للمال في غير فائدة، وقد نهى النبـي )صلى الله عليه وسلم) عن إضاعة المال.
***
فصلٌ في ذكر أقوال بعض أئمة الإسلام في اتخاذ السرج على القبور
أيها المسلمون، وقد نص الفقهاء على تحريم اتخاذ السرج على القبور، قال ابن قدامة )رحمه الله): «ولا يجوز اتخاذ السرج على القبور لأن فيه تضيـيعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام»([1]).
وقد عدَّ ابن حجر الهيتمي([2]) )رحمه الله) إسراج القبور من كبائر الذنوب، فقال في كتابه «الزواجر عن اقتراف الكبائر»:
«الكبيرة الحادية والثانية والثالثة والعشرون بعد المائة: اتخاذ المساجد أو السرج على القبور، وزيارة النساء لها، وتشييعهن الجنائز». انتهى.
***
تنبيه
عباد الله، فإن قيل: ما حكم الإنارة بالسراج ونحوه في حالة الدفن بالليل لرؤية الطريق ومكان الدفن ونحو ذلك؟
فالـجواب أنَّه لا بأس في هذه الحالة بأن يصطحب القائمون على دفن الميت معهم سراجًا لرؤية الطريق ومكان الدفن ونـحو ذلك، ثم يُـخرجونه معهم.([3])
***
مظاهر متنوعة من مظاهر تعظيم القبور
أيها المؤمنون، ومما يُـلحق بمظاهر تعظيم القبور وضع الستائر عليها، وفرشها بالسجاد والرخام، وكسوة القبـر بكسوة خاصة، وإفاضة الطيب عليه، وجعل سدنة وحُجاب وحرس خاصين على بابه، ووضع شباك ينظر منه الناس إلى القبـر، ووضع الصندوق المزخرف، ووضع الستائر على القبر وعلى سمائه، والتمسح بجدار القبر، وذلك قد يفضي مع بُعد العهد وفُشو الجهل إلى ما كان عليه الأمم السابقة من عبادة الأوثان، فكان في المنع عن ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة المفضية إلى الفساد، وهو المناسب للحكم المعتبر في تشريع الأحكام من جلب المصالح ودفع المفاسد، سواء كانت بنفسها، أو باعتبار ما تُفضي إليه.([4])
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من مظاهر تعظيم القبور دفن خواص الناس في قبور خاصة وليس في مقابر المسلمين، وقد كان من هدي النبي )صلى الله عليه وسلم) دفن الموتى في المقابر بلا تفريق بين الناس، سواء من كان منهم من العلماء أو من الوجهاء أو من العامة أو غير ذلك، ثم سارت على هذا الأمة من الصحابة والتابعين.
وينبغي التنبه إلى أن الشريعة لم تستثن إلا الأنبياء، لأن الأنبـياء يدفنون حيث يموتون، كما في حديث أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ من رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم – شيئًا ما نسيته، قال : ما قبض اللهُ نبيًّا إلا في الموضعِ الذي يحبُّ أن يُدْفَنَ فيه.([5])
***
ثم اعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) «المغني» (3/440، 441) باختصار.
([2]) هو أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي، فقيه شافعي ومتصوف، قدم إلى مكة فجاور بها إلى أن مات، توفي سنة 973. [انظر ترجمته في «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» لابن العماد، عبد الحي بن أحمد العكري الدمشقي، الناشر: دار ابن كثير، دمشق].
([3]) انظر «القول المفيد على كتاب التوحيد» (1/429) للشيخ محمد بن عثيمين (رحمه الله)، الناشر: دار ابن الجوزي، الدمام.
([4]) قاله الشيخ الحسين بن محمد المغربي في كتابه «البدر التمام» (4/232، 233)، تحقيق: علي بن عبد الله الزبن، بتصرف.
([5]) رواه الترمذي (1039)، وصححه الشيخ شعيب بطرقه وشواهده، انظر الحديث رقم (2/502)، ط الرسالة العالمية.
المرفقات
1730964779_8 المظهر الخامس من مظاهر الغلو في الصالحين.doc
1731574070_8 المظهر الخامس من مظاهر الغلو في الصالحين.pdf