الغلو في الصالحين - 7

ماجد بن سليمان الرسي
1446/04/30 - 2024/11/02 09:31AM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

***

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.

***

أيها المؤمنون، تقدم في الخطبة الماضية ذكر المظهر الثالث من مظاهر الغلو في الصالحين، وهو مظهر تجصيص القبور وبناء الغرف والقباب عليها، وبينا أدلة النهي عن ذلك من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفي هذه الخطبة نتكلم على المظهر الرابع من مظاهر الغلو في الصالحين وهو مظهر رفع تراب القبر، تعظيما لصاحب القبر.

***

مقدمة

عباد الله، من الأمور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين رفع مستوى تراب القبر، وهذا منهي عنه كما سيأتي إلا بقدر شبر، ليعرف أنه قبر فلا يُـمتهن بوطءٍ أو جلوس، وعلة النهي أن في رفع مستوى القبر تعظيمًا لصاحب القبـر، والواجب تسويته بالأرض إلا مقدار شبر.

***

أدلة النَّهي عن رفع تراب القبور

أيها المسلمون، وقد جاء في النهي عن رفع تراب القبر عدة أحاديث وآثار عن رسول الله )صلى الله عليه وسلم) وصحابته )رضي الله عنهم)، منها: لما تولى أمير المؤمنين علي )رضي الله عنه) الخلافة بعد وفاة الرسول )صلى الله عليه وسلم)؛ بعث لهدم ما بُني على القبور أبا الهَّياج الأسدي وكان رئيس شرطته، فعن أبي الَهَّياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله )صلى الله عليه وسلم)؟ ألا تدع تمثالًا إلا طمستَهُ، ولا قبـرًا مُشرفًا إلا سوَّيتَهُ.([1]) ومعنى مشرفًا أي مرتفعًا.

وليلاحظ القارئ الكريم أن النبي )صلى الله عليه وسلم) قرن بين طمس التماثيل وتسوية القبور المرتفعة، إذ بكليهما يُتوصل لعبادة غير الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

وعن جابر )رضي الله عنه) قال: نهى رسول الله )صلى الله عليه وسلم) أن يُبنى على القبـر أو يُزاد عليه أو يُـجصَّص. زاد سليمان بن موسى([2]): أو يُـكتب عليه.([3])

***

أدلة النهي عن رفع تراب القبور من كلام الصحابة وأهل العلم

عباد الله، وقال معاوية )رضي الله عنه): إن تسوية القبور من السُّنة، وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تتشبهوا بهم([4]).

وقال الشافعي (رحمه الله): «وأُحب ألا يُزاد في القبر تراب من غيره، وإنما يُشَخَّصُ على وجه الأرض شبرًا أو نحوه»([5]).

وقال أيضا: «أكره أن يرفع القبـر إلا بقدر ما يعرف أنه قبـر، لكيلا يُوطأ ولا يجلس عليه»([6]).

وكما تقدم، فإنه يُستثنى من النهي عن رفع القبور تسنيمها، وهو رفعها قليلًا بمقدار شبر كهيئة السَّنام حتى يُعرف أنه قبـر، فلا يُجلس عليه ولا يوطأ ولا يُنبش مرة أخرى.

قال القرطبي )رحمه الله): «والتسنيم في القبر؛ ارتفاعه قدر شبر، مأخوذ من سنام البعير»([7]).

وقال ابن قدامة )رحمه الله): «ولا يستحب رفع القبر إلا شيئًا يسيرًا، لقول النبي )صلى الله عليه وسلم) لعلي )رضي الله عنه): «لا تدع تمثالًا إلا طمستَهُ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيتَهُ». رواه مسلم وغيره».

ثم قال: «وتسنيم القبر أفضل من تَسطيحه([8])، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري»([9]).

***

أيها المؤمنون، وأما تطيـين القبور -وهو تغطيتها بشيء من الطين أو رش الماء عليها بعد الدفن- فليس داخلًا في تعلية القبور، لأن المقصود منه تثبيت سنامه ليعرف أنه قبر فلا يوطأ ولا يجلس عليه، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن الحسن البصري أنه لم يكن يرى بأسًا برش الماء على القبر([10]). وروى أيضًا بإسناده عن أبي جعفر أنه قال: لا بأس برش الماء على القبر([11]).

قال الترمذي )رحمه الله): «وقد رخص بعض أهل العلم- منهم الحسن البصري- في تطيـين القبور، وقال الشافعي: لا بأس أن يُطين القبر»([12]).

***

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

***

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761



([1]) رواه مسلم (969).
([2]) هو أحد رواة الحديث.
([3]) رواه أبو داود (3226)، ، ور عن السلفلدخيل ،  الحاكم ، الناشر: مكتبة الغرباءوالنسائي (2026) واللفظ له، وصححه الألباني.
([4]) أخرجه الطبراني في «الكبير» (19/352)، وروى شطره الأول ابن أبي شيبة في «المصنف» (11797).
([5]) «الأم»، كتاب الجنائز، باب ما يكون بعد الدفن، باختصار.
([6]) «سنن الترمذي» (3/367).
([7]) «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي، تفسير سورة الكهف، آية رقم 21، باختصار يسير.
([8]) أي أن يُـجعل كهيئة السنام، وسطه أعلى من طرفيه، بخلاف المسطح، وهو المستوية جميع أجزائه.
([9]) «المغني»، كتاب الجنائز، (3/435- 437).
([10]) «المصنف» برقم (12055).
([11]) «المصنف» برقم (12056).
([12]) قاله الترمذي في «سننه» بعدما ساق حديث جابر (رضي الله عنه) رقم (1052).

المرفقات

1730529036_7 ‏‏المظهر الرابع من مظاهر الغلو في الصالحين.doc

1731574146_7 ‏‏المظهر الرابع من مظاهر الغلو في الصالحين.pdf

المشاهدات 90 | التعليقات 0