الغلو في الصالحين - 5

ماجد بن سليمان الرسي
1446/03/23 - 2024/09/26 11:19AM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.

***

أيها المؤمنون، تقدم في الخطبة الماضية ذكر المظهر الأول من مظاهر الغلو في الصالحين، وهو مظهر اتخاذ قبورهم مساجد، أي مكان عبادة وصلاة، وفي هذه الخطبة نتكلم على المظهر الثاني من مظاهر الغلو في الصالحين وهو مظهر بناء المساجد على قبور الصالحين.

عباد الله، لم يكتف أقوام بمجرد الصلاة عند القبور، بل بنوا عليها مساجد لتستقر الصلاة عندها وتثبت على الدَّوَام، فريضة كانت أو نافلة، اعتقادًا منهم أن ذلك أعظم أجرًا من الصلاة في المساجد الخالية من القبور، وأن الدعاء في المساجد التي تضم قبورًا أقرب للإجابة من المساجد الخالية من القبور، بل إن بعضهم ينفق أموالًا طائلة لبناء مسجد، ثم يوصي بأن يدفن فيه!

ولو رجعنا إلى السُّنَّة النَّبوية لوجدنا أنَّ النبي )صلى الله عليه وسلم) لَعَنَ فَاعِلي ذلك، ونصَّ على أنَّهم شِرَارُ الخلق عند الله يوم القيامة.

***

فعن عائشة )رضي الله عنها): أن أم حبـيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رَأَيْنَها بالحبشة فيها تصاوير لرسـول الله )صلى الله عليه وسلم)، فقال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «إنَّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبـره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرَار الخلق عند الله (عز وجل) يوم القيامة»([1]).

قال ابن عبد البر )رحمه الله): هذا يُحرِّم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء والصالحين مساجد.([2])

وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرَّم على انفراده، فتصوير صور الآدميـين محرم، وبناء المساجد على القبور بانفراده محرم كما دَلَّت عليه نصوصٌ أُخَر.([3])

***

أيها المسلمون، ومما جــاء عن الصـحابة في كــراهية بناء المســاجد على القـبور ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن أنس رضي الله عنه أنه كان يَكرهُ أن يُبنى مَسجِدٌ بين القبور.([4])

***

عباد الله، ومما جاء عن التابعين في كراهية بناء المساجد على القبور؛ ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن إبراهيم النخعي، أنه كان يكره أن يجعل على القبر مسجدًا.([5])

***

أيها المؤمنون، وبناء على النَّهي الوارد في الأحاديث فقد قال علماء المذاهب الأربعة بتحريم بناء المساجد على القبور، فقد قال بالتحريم محمد الشيباني تلميذ أبي حنيفة([6])، والقرطبي المالكي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن) ([7])، والشافعي في كتابه (الأم) ([8])، والنووي([9])، وابن قدامة([10]).

***

بل قد حكى ابن تيمية رحمه الله إجماع العلماء على تحريم بناء المساجد على القبور، فقد سُئل) رحمه الله) سؤال نصه: «هل تصح الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا؟

وهل يُـمهَّد القبر أو يعمل عليه حاجز أو حائط؟

فأجاب: الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر، لأن النبى )صلى الله عليه وسلم) قال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».

وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غُـيِّر، إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديدًا.

وإن كان المسجد بُني بعد القبر؛ فإما أن يُزال المسجد وإما أن تُزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يُصلَّى فيه فرض ولا نفل، فإنه مَنهيٌّ عنه».([11])

وقال أيضًا: «فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها، وعن قصد الصـلاة عندها، وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء، فإنهـم قـد نـهوا عن بناء المساجد على القـبور، بل صرحوا بتحريم ذلك، كما دل عليه النص».([12])

***

فصل في بيان أن البناء على القبور مُحدث في الإسلام

وللفائدة فقد قال )رحمه الله): «وكذلك الـمساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد؛ محدثةٌ في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام، لم يكن بُني من ذلك شيء في القرون الثلاثة المفضلة»([13]).

بل قد قَرَّر (رحمه الله) أن بناء المساجد على القبور لم يعرف إلا في أواخر المائة الثالثة، فقد قال )رحمه الله): وكان ظهور المشاهد وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة المُـلبِّسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القَرَامِطة العُبيدية القَدَّاحيَّة بأرض المغرب، ثم جاءوا إلى أرض مصر، وقريبًا من ذلك ظَـهَر بنو بُوَيْه، وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية([14]).

***

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

***

الخطبة الثانية في بيان علة النهي عن البناء على القبور

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن علة النهي عن البناء على القبور ما يقع في قلب المشاهد من تعظيم صاحب القبر تعظيما زائدا يفضي إلى التوجه إليه بأنواع العبادات من دعاء ونذر وغيره، قال الشوكاني (رحمه الله) مبينا علة النهي عن بناء المساجد على القبور في كتابه «شرح الصدور في تحريم رفع القبور» ما نصُّه:

«فإن الجاهل إذا وقعت عينُه على قبـرٍ من القبور قد بُنيت عليه قُبَّة فدخلها، ونظر على القبور الستور الرائعة والسُّرج المُتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطِّيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيمًا لذلك القبـر، ويَضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنـزلة، ويدخله من الرَّوْعة والمَهابة ما يَزرع في قلبه من العقائد الشيطانية، التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين وأشد وسائله إلى إضلال العباد، وما يزلزله عن الإسلام قليلًا قليلًا حتى يطلب من صاحب ذلك القبـر ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه فيصير في عداد المشركين، وقد يحصل له هذا الشرك لأول رؤية لذلك القبـر الذي صار على تلك الصفة وعند أول زَورة له، إذ لا بد أن يخطر بباله أن هذه الغاية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلا لفائدة يرجونها منه إما دنيوية وإما أخروية، ويستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه زائرًا لذلك القبـر وعاكفًا عليه، ومتمسكًا بأركانه، وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبـر يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يُهوِّلون عليه الأمر، ويصنعون أمورًا من أنفسهم، وينسِبونها إلى الميت على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في مجالسهم وعند اجتماعهم بالناس، فتَشيع وتستفيض ويتلقاها من يُـحسن الظن بالأموات، ويقبلُ عقلُه بما يُروى عنهم من الأكاذيب، ويرويها كما سمعها ويتحدث بها في مجالسه فيقع الجُهَّال في بَلِيَّة عَظيمة من الاعتقاد، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم، ويَحْبِسون على قبـره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيرًا عظيمًا وأجرًا بليغًا، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة وطاعة نافعة وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبـر، فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل وهوَّلوا على الناس بتلك التهاويل وكذبوا بتلك الأكاذيب لينالوا جانبًا من الـحُطام([15]) من أموال الطَّـغام([16]) الأغتام([17]).

وبهذه الذريعة الملعونة والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقاف على القبور وبلغت مبلغًا عظيمًا، حتى بلغت غلَّات ما يُوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لاقتاته([18]) أهل قرية كبـيرة من قرى المسلمين، ولو بـيعت تلك الحبائس([19]) الباطلة أغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله، وقد صح عن رسول الله )صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «لا نذر في معصية الله» …

ولا شك أن غالب هؤلاء المغرورين المخدوعين لو طَلب منهم طالب أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبـر ميت على ما هو طاعة من الطاعات وقُربة من القربات لم يفعل ولا كاد، فانظر إلى أين بلغ تلاعب الشيطان بهؤلاء في هُـوَّة بعيدة القعر، مظلمة الجوانب!

فهذه مفسدة من مفاسد رفع القبور وتشيـيدها وزخرفتها وتجصيصها»([20]).

***

فالخلاصة أن بناء المساجد على القبور حرام، وعليه فيحرم إدخال القبور في المساجـد، والذي جاءت به الشريعة أن تجعل المقابر على حدة، والمساجد على حدة، لأن الله لم يشرع بناء المساجد لدفن الموتى فيها، ولا المقابر للصلاة فيها، بل شرع الله المساجد للعبادة فحسب، والمقابر لدفن الموتى فحسب، ولهذا قال (صلى الله عليه وسلم): اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا.([21])

وهذا فيه دليل على أن المقابر لم تجعل للصلاة.

***

ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761



([1]) رواه البخاري (427)، ومسلم (528) واللفظ له.
([2]) «التمهيد»، كتاب الجامع، باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة، (14/326).
([3]) «فتح الباري» لابن رجب، شرح حديث رقم (427).
([4]) رقم (7579).
([5]) «مصنف ابن أبي شيبة» برقم (11743).
([6]) كتاب «الآثار» ص45.
([7]) «الجامع لأحكام القرآن» (10/388، 389)، تفسير سورة الكهف: 21.
([8]) «الأم»، كتاب الجنائز، باب (ما يكون بعد الدفن)، وقد تقدم بيانُ أن معنى الكراهة عند المتقدمين هو التحريم.
([9]) «المجموع» (5/289).
([10]) «المغني» (3/441)، باختصار.
([11]) «مجموع الفتاوى» (22/194، 195).
([12]) «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/774، 775).
([13]) «الاستغاثة في الرد على البكري» ص 334، 335.
([14]) «مجموع الفتاوى» (27/466).
([15])  أي: حطام الدنيا.
([16]) الطغام هم أوغاد الناس. انظر «لسان العرب».
([17]) الأغتم هو الذي لا يفصح شيئًا، ولعل المقصود عظم جهلهم وبلادة تفكيرهم.
([18]) أي: جعلوه قوتًا.
([19]) أي: الأوقاف كما في «النهاية في غريب الأثر».
([20]) «شرح الصدور» للشوكاني (ص: 30- 34).
([21]) رواه مسلم (777).

المرفقات

1727338650_‏‏المظهر الثاني من مظاهر الغلو في الصالحين.doc

1727340246_‏‏المظهر الثاني من مظاهر الغلو في الصالحين.pdf

المشاهدات 141 | التعليقات 0