الغُلاة والدماء
إبراهيم بن صالح العجلان
1436/03/17 - 2015/01/08 21:55PM
الغلاة والدماء 18 / 3 / 1436 هـ
إخوة الإيمان:
في السنةِ السابعةِ من الهجرةِ في شهرِ رمضانَ أرسلَ النبيُّ rحملاتِه لتأديب الأعرابِ المناوئينَ للدعوةِ المحمدية ، فبعثَ سريةً إلى الحُرَقة من جُهَيْنةَ ، فلما كانَ من الفجرِ انقضَّ عليهم المسلمونَ في هجومٍ فجريٍّ خاطفٍ مُباغتٍ، فارتبك الأعرابُ واضطربوا ، إلا أنهم قاوموا المسلمينَ وثبتوا .
وكانَ في الأعراب مِرْدَاسُ بنُ نَهِيكٍ أحدُ أبطالِهم الشُّجْعانِ، يَحْمِيهم إذا تَراجعوا، ويَسْبِقُهم إذا تَقدَّموا، بل كان من فَرْطِ شَجاعته إذا شاءَ أنْ يتقدمَ إلى رجلٍ من المسلمينَ قَصَدَهُ فَقَتَلَهُ، حتى قتلَ مِنْ أعيانِ الصحابةِ ما قَتَلَ.
وبعدَ ساعةٍ من القتالِ انْهَزَمَ المشركونَ وفرَّ منهم مَنْ فرَّ ، وكانَ ممنْ هَرَبَ مرداسُ هذا، فلحِقَه أسامةُ بنُ زيدٍ وهو ابنُ السادسةَ عَشَرة عاماً ، ومعه رجلٌ من الأنصارِ، فلما أدركوهُ وأحاطوا به، ورأى السيفَ قال : لا إله إلا الله ، فأشاح عنه الأنصاريُ، وأما أسامةُ فرأى أنها صرخةُ التعوذِ من السيفِ ، فقتله أسامة، ومات مرداس ، لكن لم يَمُتْ خبرُه وقضيتُه.
رجعتْ تلك السرية إلى المدينةِ تَزُفُّ البشرى للنبي r ، فتهللَ وجهُهُ عليه الصلاة والسلام فرحاً بهذا النصر، إلا أنَّ الفرحَ لم يَدُمْ طويلاً حينما بلغَ النبيَّ rخبرُ أسامةَ مع مرداس، فبَلغَ منه هذا الخبرُ مبلغاً عظيماً، فتغيرَ وجهُه، وحَنَقَ على حِبِّه وابنِ حِبِّه أسامةِ بنِ زيد، وأستعظمَ قتله للرجل ، ثم استدعاه، وهنا بدأت المساءلة: لم قتلته يا أسامة ؟ أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا إله إلا الله؟.
فقال أسامة: إنما قالها خوفاً من القتل، فقال النبي r: ألا شَقَقْتَ عن قلبِه حتى تعلمَ أقالَها من أجل ذلك أم لا !!
فقال أسامة : يا رسول الله أوجعَ في المسلمينَ ، فقتلَ فلاناً وفلاناً، وسمَّى له بعض الصحابة الذين يَعرفهم النبي r، لكنَّ هذا التبرير لم يؤثر في النبيِّ r، فقال له معنِّفاً: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟
فلما رأى أسامة أنَّ تأوُّلَه لم يقبل، وأنَّه أخطأَ في قتلِه ، قال : استغفر لي يا رسول الله.
وانتظر أسامة أن يقول له حبيبه r: غفر الله لك، لكنَّ رسول الله rأعاد عليه عتابه : فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟
فما زال النبي r يكرِّر عليه هذا العبارة حتى كُرِبَ أسامةُ كرباً شديداً ، بل تمنى أنه لم يَكُنْ أسلمَ قبلَ ذلك اليوم.
وبقي هذا الندمُ يَتَلَجْلَجُ في صدر أسامةَ سنينَ طويلة، فكان أسامةُ بنُ زيدٍ من أبعدِ الناسِ عن الدماءِ ، وعن الشبهاتِ فيها، حتى إذا حدثتْ الفتنةُ بين الصحابةِ y والاقتتالِ في الجملِ وصفين ، كان أسامةُ بنُ زيد ممن أعتزلها ولم يتلطَّخْ بشيءٍ منها ، رُغْمَ ما كان من حُبِّه ومَيْلِه لعلي بن أبي طالب t ، إلا أنَّ حرمة الدماء كانت أكبرُ في قلبِه من هذه المحبة .
وعَرَفَ الصحابةُ y هذا في أسامة، فكان بعضُهم لا يشاركُ في قتالٍ إلا إذا رأى أسامةَ فيه، لعلمِهم عن خوفِه وتحرُّزه في الدماء.
هذا الخبرُ يا أهلَ ايمان هو واللِه رسالةٌ بليغةٌ في تعظيمِ أمرِ الدماءِ، فإذا كان النبيُّ r قد عَظَّمَ دمَ محاربٍ قال: لا إله إلا الله ، والقرائن تدل على أنه قالها متعوِّذاً ، فكيف بدم امرئٍ يُتيقن في إسلامه وتوحيده .
فلا يَستخفُّ بأمرِ الدماءِ إلا من تاه في لججِ الضلالِ والآثام.
لا إنذارَ أشدُّ وأعظمُ على من له قلب، من هذا النذيرِ الإلهي:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
لقد عظَّم الإسلامُ أمرَ الدماءِ حتى كانت الدنيا بما فيها أهونَ عند الله من قتل رجل مسلم. رواه الترمذي وغيره.
والله سبحانه أخبر أنَّه لا يحب الفساد، وأنه لا يصلح عمل المفسدين، وأنَّ أعظمَ الفسادِ استباحةُ الدماءِ المعصومة، { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا }.
وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث ِعبادةَ بنِ الصامتِ t ، أن النبي r قال : «مَنْ قَتَلَ مؤمناً، فَاغْتَبَطَ بِقَتْلِه ـ أي فرح ـ لم يَقْبل الله منه صَرفا ولا عَدلا».
وعند مسلم في صحيحه:«.... وَمَن خَرَجَ عَلى أُمَّتي يَضرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَها، لا يَتَحَاشى مِنْ مؤمِنها ، ولا يَفي بِعَهدِ ذِي عَهدِها ، فَلَيْسَ مِني ، وَلَسْتُ منه».
وقبل أن يُودِّع النبي r هذه الدنيا بأشهر أكَّدَ في حجَّة الوداعِ وقرَّر: «إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ».
بل إنَّ كلَّ الذنوبِ يُرجى أنْ يغفرَها اللهُ إلا الشركَ ومظالمَ العباد، وأعظمُ الظلمِ قتلُ الأنفسِ المعصومة، ولذا كان من عدل الله سبحانه أنَّه أول ما يُقضى بين الناسِ في الدماء.
قال ابن حزم : لا ذنبَ بعد الكفرِ أعظمَ من تأخيرِ الصلاةِ عن وقتِها، ومن قتلِ امرئٍ مسلمٍ بغيرِ حق.
فقضيةُ حرمةِ الدماءِ محسومةٌ، والنصوصُ فيها صريحةٌ، والتأويلاتُ مهما كانت مرفوضة، ولا يزيغ عن هذا إلا هالك.
وإذا تقرَّر هذا فيبقى السؤالُ الأهم:
لماذا كان أهلُ المسالكِ الغاليةِ يَسترخصونَ أمرَ الدماءِ رغمَ ما فيها من الوعيد الشديد؟
والجواب : أنَّ الاستخفافَ بالدماءِ لا يُولَدُ فجأةً ، بل يَبْدأُ بمقدماتٍ ، فهو يبدأ بالتأويلِ المنحرفِ ، ثم التنظيرِ المُتَعَسِّفِ ، ثم التكفيرِ الناسِفِ ، ثم بعد ذلك يَهُونُ أمرُ القتلِ .
التأويلُ المنحرفُ الذي قال عنه ابنُ عمرَ في وصف الخوارج : انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين.
فأهلُ المسالكِ الغاليةِ انحرافُهم من التفسيرِ الخاطئِ للنصوص، أو في تنزيل النصوصِ على وقائع لا يَصِحُّ تنزيلها ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الغلاة الخوارج : (فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَ مِنْ دِمَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُرْتَدِّينَ).
وإذا حَصلَ التأويلُ المنحرفُ جاءَ بعدَه التنظيُر المتعسفُ ـ أي البعيد المتكلف الخاطئ ـ ، وإذا حصل الفهمُ البعيدُ حصلَ الخللُ، وبدأ الانحراف.
الفهمُ الخاطئُ للنصوصِ هو الذي جعلَ زُرْعةَ الخارجي يقولُ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ: أما والله يا عليّ لئن لم تدعنَّ تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه! وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً :{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
التفسيرُ الخاطئُ للنصوص منشأُهُ الجهلُ، وضَحَالةُ العلمِ، وهذه صفةٌ غالبةٌ في الغلاة، ولذا وصف النبي r فرقةَ الخوارجِ الغلاةِ : (أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) ، فهم يقرؤونَ القرآنَ، وربما استشهدوا به، لكن بغير فهمٍ وإدراكٍ لمقاصد القرآن .
وإذا اجتمعَ الفهمُ الخاطئُ مع الجهلِ والتهورِ في الأحكام، انتجَ التكفيرَ، وإذا حصل التكفيرُ سَهُلَ استرخاصُ الدماءِ، ومن جرَّأ لسانَه على التكفيرِ، والتكفير باللزوميات فهو لما سواهُ من التبديعِ والتضليلِ والشتمِ والتفسيقِ أجرأ .
إنَّ من السفاهةِ الفكريةِ أن يكونَ صوتُ التكفيرِ والتخوينِ عالياً عند أرباب هذه المسالك، ولو سُئِلَ أحدُهم عن الحلالِ والحرام، والبيعِ والطلاقِ لفَغَرَ فاهُ وتَاها ، ومع ذلك يجعلُ لنفسِه حقَّ الاجتهادِ في المسائلِ الكبار ، وفي أحكام الإيمان والدماء، والمسائل الغامضة، والتي لو وقعت في عهد الفاروق لجمع لها أهل بدر.
وإذا عَشْعَشَ الجهلُ وحضرَ التكفيرَ، غابت معاني السياسةِ الشرعية، وتقديرِ المصالحِ والمفاسدِ، وفِقْهِ السننِ الكونيةِ والشرعيةِ لاستجلابِ النصر.
ومما تؤكدُه التجاربُ أنَّ الغلاةَ متى ما وجدوا في أرض، إلا كانوا سبباً في وأْدِ وتحجيمِ المشاريعِ الإسلامية ، والتخوفِ من أهلها، وجعلِهِم في موقفِ المدافع عن نفسِه، المُتَّهمِ في مَنْهجه .
فمتى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرُك يَهدم .
قلت ما سمعتم إن صواباً فمن الله ، وإن سوى ذلك فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله.
في السنةِ السابعةِ من الهجرةِ في شهرِ رمضانَ أرسلَ النبيُّ rحملاتِه لتأديب الأعرابِ المناوئينَ للدعوةِ المحمدية ، فبعثَ سريةً إلى الحُرَقة من جُهَيْنةَ ، فلما كانَ من الفجرِ انقضَّ عليهم المسلمونَ في هجومٍ فجريٍّ خاطفٍ مُباغتٍ، فارتبك الأعرابُ واضطربوا ، إلا أنهم قاوموا المسلمينَ وثبتوا .
وكانَ في الأعراب مِرْدَاسُ بنُ نَهِيكٍ أحدُ أبطالِهم الشُّجْعانِ، يَحْمِيهم إذا تَراجعوا، ويَسْبِقُهم إذا تَقدَّموا، بل كان من فَرْطِ شَجاعته إذا شاءَ أنْ يتقدمَ إلى رجلٍ من المسلمينَ قَصَدَهُ فَقَتَلَهُ، حتى قتلَ مِنْ أعيانِ الصحابةِ ما قَتَلَ.
وبعدَ ساعةٍ من القتالِ انْهَزَمَ المشركونَ وفرَّ منهم مَنْ فرَّ ، وكانَ ممنْ هَرَبَ مرداسُ هذا، فلحِقَه أسامةُ بنُ زيدٍ وهو ابنُ السادسةَ عَشَرة عاماً ، ومعه رجلٌ من الأنصارِ، فلما أدركوهُ وأحاطوا به، ورأى السيفَ قال : لا إله إلا الله ، فأشاح عنه الأنصاريُ، وأما أسامةُ فرأى أنها صرخةُ التعوذِ من السيفِ ، فقتله أسامة، ومات مرداس ، لكن لم يَمُتْ خبرُه وقضيتُه.
رجعتْ تلك السرية إلى المدينةِ تَزُفُّ البشرى للنبي r ، فتهللَ وجهُهُ عليه الصلاة والسلام فرحاً بهذا النصر، إلا أنَّ الفرحَ لم يَدُمْ طويلاً حينما بلغَ النبيَّ rخبرُ أسامةَ مع مرداس، فبَلغَ منه هذا الخبرُ مبلغاً عظيماً، فتغيرَ وجهُه، وحَنَقَ على حِبِّه وابنِ حِبِّه أسامةِ بنِ زيد، وأستعظمَ قتله للرجل ، ثم استدعاه، وهنا بدأت المساءلة: لم قتلته يا أسامة ؟ أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا إله إلا الله؟.
فقال أسامة: إنما قالها خوفاً من القتل، فقال النبي r: ألا شَقَقْتَ عن قلبِه حتى تعلمَ أقالَها من أجل ذلك أم لا !!
فقال أسامة : يا رسول الله أوجعَ في المسلمينَ ، فقتلَ فلاناً وفلاناً، وسمَّى له بعض الصحابة الذين يَعرفهم النبي r، لكنَّ هذا التبرير لم يؤثر في النبيِّ r، فقال له معنِّفاً: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟
فلما رأى أسامة أنَّ تأوُّلَه لم يقبل، وأنَّه أخطأَ في قتلِه ، قال : استغفر لي يا رسول الله.
وانتظر أسامة أن يقول له حبيبه r: غفر الله لك، لكنَّ رسول الله rأعاد عليه عتابه : فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟
فما زال النبي r يكرِّر عليه هذا العبارة حتى كُرِبَ أسامةُ كرباً شديداً ، بل تمنى أنه لم يَكُنْ أسلمَ قبلَ ذلك اليوم.
وبقي هذا الندمُ يَتَلَجْلَجُ في صدر أسامةَ سنينَ طويلة، فكان أسامةُ بنُ زيدٍ من أبعدِ الناسِ عن الدماءِ ، وعن الشبهاتِ فيها، حتى إذا حدثتْ الفتنةُ بين الصحابةِ y والاقتتالِ في الجملِ وصفين ، كان أسامةُ بنُ زيد ممن أعتزلها ولم يتلطَّخْ بشيءٍ منها ، رُغْمَ ما كان من حُبِّه ومَيْلِه لعلي بن أبي طالب t ، إلا أنَّ حرمة الدماء كانت أكبرُ في قلبِه من هذه المحبة .
وعَرَفَ الصحابةُ y هذا في أسامة، فكان بعضُهم لا يشاركُ في قتالٍ إلا إذا رأى أسامةَ فيه، لعلمِهم عن خوفِه وتحرُّزه في الدماء.
هذا الخبرُ يا أهلَ ايمان هو واللِه رسالةٌ بليغةٌ في تعظيمِ أمرِ الدماءِ، فإذا كان النبيُّ r قد عَظَّمَ دمَ محاربٍ قال: لا إله إلا الله ، والقرائن تدل على أنه قالها متعوِّذاً ، فكيف بدم امرئٍ يُتيقن في إسلامه وتوحيده .
فلا يَستخفُّ بأمرِ الدماءِ إلا من تاه في لججِ الضلالِ والآثام.
لا إنذارَ أشدُّ وأعظمُ على من له قلب، من هذا النذيرِ الإلهي:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
لقد عظَّم الإسلامُ أمرَ الدماءِ حتى كانت الدنيا بما فيها أهونَ عند الله من قتل رجل مسلم. رواه الترمذي وغيره.
والله سبحانه أخبر أنَّه لا يحب الفساد، وأنه لا يصلح عمل المفسدين، وأنَّ أعظمَ الفسادِ استباحةُ الدماءِ المعصومة، { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا }.
وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث ِعبادةَ بنِ الصامتِ t ، أن النبي r قال : «مَنْ قَتَلَ مؤمناً، فَاغْتَبَطَ بِقَتْلِه ـ أي فرح ـ لم يَقْبل الله منه صَرفا ولا عَدلا».
وعند مسلم في صحيحه:«.... وَمَن خَرَجَ عَلى أُمَّتي يَضرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَها، لا يَتَحَاشى مِنْ مؤمِنها ، ولا يَفي بِعَهدِ ذِي عَهدِها ، فَلَيْسَ مِني ، وَلَسْتُ منه».
وقبل أن يُودِّع النبي r هذه الدنيا بأشهر أكَّدَ في حجَّة الوداعِ وقرَّر: «إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ».
بل إنَّ كلَّ الذنوبِ يُرجى أنْ يغفرَها اللهُ إلا الشركَ ومظالمَ العباد، وأعظمُ الظلمِ قتلُ الأنفسِ المعصومة، ولذا كان من عدل الله سبحانه أنَّه أول ما يُقضى بين الناسِ في الدماء.
قال ابن حزم : لا ذنبَ بعد الكفرِ أعظمَ من تأخيرِ الصلاةِ عن وقتِها، ومن قتلِ امرئٍ مسلمٍ بغيرِ حق.
فقضيةُ حرمةِ الدماءِ محسومةٌ، والنصوصُ فيها صريحةٌ، والتأويلاتُ مهما كانت مرفوضة، ولا يزيغ عن هذا إلا هالك.
وإذا تقرَّر هذا فيبقى السؤالُ الأهم:
لماذا كان أهلُ المسالكِ الغاليةِ يَسترخصونَ أمرَ الدماءِ رغمَ ما فيها من الوعيد الشديد؟
والجواب : أنَّ الاستخفافَ بالدماءِ لا يُولَدُ فجأةً ، بل يَبْدأُ بمقدماتٍ ، فهو يبدأ بالتأويلِ المنحرفِ ، ثم التنظيرِ المُتَعَسِّفِ ، ثم التكفيرِ الناسِفِ ، ثم بعد ذلك يَهُونُ أمرُ القتلِ .
التأويلُ المنحرفُ الذي قال عنه ابنُ عمرَ في وصف الخوارج : انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين.
فأهلُ المسالكِ الغاليةِ انحرافُهم من التفسيرِ الخاطئِ للنصوص، أو في تنزيل النصوصِ على وقائع لا يَصِحُّ تنزيلها ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الغلاة الخوارج : (فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَ مِنْ دِمَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُرْتَدِّينَ).
وإذا حَصلَ التأويلُ المنحرفُ جاءَ بعدَه التنظيُر المتعسفُ ـ أي البعيد المتكلف الخاطئ ـ ، وإذا حصل الفهمُ البعيدُ حصلَ الخللُ، وبدأ الانحراف.
الفهمُ الخاطئُ للنصوصِ هو الذي جعلَ زُرْعةَ الخارجي يقولُ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ: أما والله يا عليّ لئن لم تدعنَّ تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه! وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً :{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
التفسيرُ الخاطئُ للنصوص منشأُهُ الجهلُ، وضَحَالةُ العلمِ، وهذه صفةٌ غالبةٌ في الغلاة، ولذا وصف النبي r فرقةَ الخوارجِ الغلاةِ : (أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) ، فهم يقرؤونَ القرآنَ، وربما استشهدوا به، لكن بغير فهمٍ وإدراكٍ لمقاصد القرآن .
وإذا اجتمعَ الفهمُ الخاطئُ مع الجهلِ والتهورِ في الأحكام، انتجَ التكفيرَ، وإذا حصل التكفيرُ سَهُلَ استرخاصُ الدماءِ، ومن جرَّأ لسانَه على التكفيرِ، والتكفير باللزوميات فهو لما سواهُ من التبديعِ والتضليلِ والشتمِ والتفسيقِ أجرأ .
إنَّ من السفاهةِ الفكريةِ أن يكونَ صوتُ التكفيرِ والتخوينِ عالياً عند أرباب هذه المسالك، ولو سُئِلَ أحدُهم عن الحلالِ والحرام، والبيعِ والطلاقِ لفَغَرَ فاهُ وتَاها ، ومع ذلك يجعلُ لنفسِه حقَّ الاجتهادِ في المسائلِ الكبار ، وفي أحكام الإيمان والدماء، والمسائل الغامضة، والتي لو وقعت في عهد الفاروق لجمع لها أهل بدر.
وإذا عَشْعَشَ الجهلُ وحضرَ التكفيرَ، غابت معاني السياسةِ الشرعية، وتقديرِ المصالحِ والمفاسدِ، وفِقْهِ السننِ الكونيةِ والشرعيةِ لاستجلابِ النصر.
ومما تؤكدُه التجاربُ أنَّ الغلاةَ متى ما وجدوا في أرض، إلا كانوا سبباً في وأْدِ وتحجيمِ المشاريعِ الإسلامية ، والتخوفِ من أهلها، وجعلِهِم في موقفِ المدافع عن نفسِه، المُتَّهمِ في مَنْهجه .
فمتى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرُك يَهدم .
قلت ما سمعتم إن صواباً فمن الله ، وإن سوى ذلك فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي المتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد:
فإن التحذيرَ من الفكرِ الغالي مما يَجبُ أن يرفعَ به الصوتُ ولا يُخافت، إبراءً للذمة ، وإعذاراً عند الله، واستشعاراً لخطرِ السكوتِ عليه، ومآلات ذلك على الدين والدنيا.
فالفكر الغالي لا يحملُ مشروعاً إصلاحياً، ولا علمياً، ولا تربوياً، وإنما مخرجاته ترويعٌ للآمنين، واستخفافٌ بالممتلكات، واستهتارٌ بالمسلمات، وجرٌّ لِفِتَنٍ كان أهلُها في عافيةٍ منها .
وحين تبدوا مظاهرُ الغلوِّ وتَتَورَّمُ فإنَّ الواجبَ على أهل العلمِ والغيرةِ مواجهةَ هذه الأورام بسلاح الشرع؟
لماذا ؟ لأن هذا الفكرَ يتكئُ على النصوصِ الدينية ، ويَعتمدُ عليها، فالواجبُ مواجهتُه بهذه النصوص، وبيانُ انحرافِه فيها .
أما إبعادُ رايةِ الدين في مواجهة الفكر الغالي، فالمؤكدُ أنه يَبقى ويتمدد، لأن تَأَثُرَ الناس بالظواهر باقٍ ما بقي الجهل فيهم.
ولذا حينما خرجتِ الخوارجُ زمنِ الصحابِة ، واستشهدوا بالنصوصِ لم يكن موقفُ الصحابةُ إلا مواجهتهم من نصوصِ القرآنِ والسنة، مع التمسك بالقرآن والسنة.
ومما ينبغي أن يُعلمَ ويُقال: إنَّ علاجَ الغلو لا يَنبغي أن يكونَ ردةَ أفعال، بل يجبُ أن تكونَ هناك مشاريعُ علمية ودعوية ، لمحاصرتِه، وتجفيفِ منابعِة، وفَكْفَكَةِ شبهاتِه، مع رفعِ صوتِ الاعتدالِ والتمكينِ له ، لتبقى المجتمعاتُ الإسلاميةٌ مُحَصَّنةٌ من كلِّ نَابتةٍ غاليةٍ هنا أو هناك.
ومما يُقال، وحفظاً للاعتدالِ : أن يكونَ العلاجُ شاملاً، في مواجهةِ كلِّ تطرفٍ ديني، أو تطرفٍ آخرَ مضاد .
فالتهكمُ بالشعائر، والاستخفافُ بالشرائع، واستحلالُ المحرماتِ المجمعِ عليها، هي في الحقيقةِ مواقفُ مُستَفِزَّةٌ، ربما هَيَّجتْ بعضَ صغارِ العقول لأفعالٍ طائشةٍ يَصْعُب على العقلاء ضبطُها وتَوجيهُهُا.
وأخيراً ـ عباد الله ـ إذا كان حفظُ الدماءِ والتعظيمُ من شأنِها واجب شرعي، فإنَّ التأكيدَ على دماءِ من يَحْرِسُ البلدَ ، وربما تغرَّب لأجلِ هذه المهمة أوجبُ وآكد.
فهؤلاء الساهرونَ في الثغورِ حقُّهم علينا الدعاءُ، والنصرةُ ، والدفاعُ ، والمواساةُ، والاعتداءُ عليهم هو اعتداءٌ على أمنِ البلدِ ، الذي لو اهتزَّ لارتدَّ أثره على الجميع، ولا يَستهينُ بأمرِ الأمنِ إلا مَنْ سَفِهَ نفسَهُ وعَقْلَهُ.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وأمننا وإيماننا بسوء أو فتنة اللهم فاكفناه بما شئت.
اللهم ارحم أنفساً معصومة قتلت غدراً وعدواناً، اللهم تقبلهم في الشهداء، ونوِّر لهم في قبورهم ، وافسح لهم فيها، واجبر مصاب أهلهم يا رب العالمين.
فإن التحذيرَ من الفكرِ الغالي مما يَجبُ أن يرفعَ به الصوتُ ولا يُخافت، إبراءً للذمة ، وإعذاراً عند الله، واستشعاراً لخطرِ السكوتِ عليه، ومآلات ذلك على الدين والدنيا.
فالفكر الغالي لا يحملُ مشروعاً إصلاحياً، ولا علمياً، ولا تربوياً، وإنما مخرجاته ترويعٌ للآمنين، واستخفافٌ بالممتلكات، واستهتارٌ بالمسلمات، وجرٌّ لِفِتَنٍ كان أهلُها في عافيةٍ منها .
وحين تبدوا مظاهرُ الغلوِّ وتَتَورَّمُ فإنَّ الواجبَ على أهل العلمِ والغيرةِ مواجهةَ هذه الأورام بسلاح الشرع؟
لماذا ؟ لأن هذا الفكرَ يتكئُ على النصوصِ الدينية ، ويَعتمدُ عليها، فالواجبُ مواجهتُه بهذه النصوص، وبيانُ انحرافِه فيها .
أما إبعادُ رايةِ الدين في مواجهة الفكر الغالي، فالمؤكدُ أنه يَبقى ويتمدد، لأن تَأَثُرَ الناس بالظواهر باقٍ ما بقي الجهل فيهم.
ولذا حينما خرجتِ الخوارجُ زمنِ الصحابِة ، واستشهدوا بالنصوصِ لم يكن موقفُ الصحابةُ إلا مواجهتهم من نصوصِ القرآنِ والسنة، مع التمسك بالقرآن والسنة.
ومما ينبغي أن يُعلمَ ويُقال: إنَّ علاجَ الغلو لا يَنبغي أن يكونَ ردةَ أفعال، بل يجبُ أن تكونَ هناك مشاريعُ علمية ودعوية ، لمحاصرتِه، وتجفيفِ منابعِة، وفَكْفَكَةِ شبهاتِه، مع رفعِ صوتِ الاعتدالِ والتمكينِ له ، لتبقى المجتمعاتُ الإسلاميةٌ مُحَصَّنةٌ من كلِّ نَابتةٍ غاليةٍ هنا أو هناك.
ومما يُقال، وحفظاً للاعتدالِ : أن يكونَ العلاجُ شاملاً، في مواجهةِ كلِّ تطرفٍ ديني، أو تطرفٍ آخرَ مضاد .
فالتهكمُ بالشعائر، والاستخفافُ بالشرائع، واستحلالُ المحرماتِ المجمعِ عليها، هي في الحقيقةِ مواقفُ مُستَفِزَّةٌ، ربما هَيَّجتْ بعضَ صغارِ العقول لأفعالٍ طائشةٍ يَصْعُب على العقلاء ضبطُها وتَوجيهُهُا.
وأخيراً ـ عباد الله ـ إذا كان حفظُ الدماءِ والتعظيمُ من شأنِها واجب شرعي، فإنَّ التأكيدَ على دماءِ من يَحْرِسُ البلدَ ، وربما تغرَّب لأجلِ هذه المهمة أوجبُ وآكد.
فهؤلاء الساهرونَ في الثغورِ حقُّهم علينا الدعاءُ، والنصرةُ ، والدفاعُ ، والمواساةُ، والاعتداءُ عليهم هو اعتداءٌ على أمنِ البلدِ ، الذي لو اهتزَّ لارتدَّ أثره على الجميع، ولا يَستهينُ بأمرِ الأمنِ إلا مَنْ سَفِهَ نفسَهُ وعَقْلَهُ.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وأمننا وإيماننا بسوء أو فتنة اللهم فاكفناه بما شئت.
اللهم ارحم أنفساً معصومة قتلت غدراً وعدواناً، اللهم تقبلهم في الشهداء، ونوِّر لهم في قبورهم ، وافسح لهم فيها، واجبر مصاب أهلهم يا رب العالمين.
المرفقات
الغلاة والدماء 18.docx
الغلاة والدماء 18.docx
المشاهدات 4201 | التعليقات 4
شكر الله لك ياشيخ إبراهيم وأحسن إليك وبارك في ما كتبت .
أجدتَ إذ ربطت هذا الموضوع واستفتحته بموقف من السيرة .
بسم الله الرحمن الرحيم
بيض الله وجهك يا شيخ إبراهيم استهلال رائع و ختم اروع ..,,
أهلا بالمشايخ : شبيب القحطاني و أحمد السويلم وأبي محمد الغامدي
شاكر لكم ومقدر
اللهم افتح لنا ولهم باب التسديد والقبول والبركة
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق