الغفلة خطرها وعلاجها   

عبد الله بن علي الطريف
1444/03/24 - 2022/10/20 09:27AM

الغفلة خطرها وعلاجها    1444/3/25هـ

أيها الإخوة: وقفت متأملاً لآيةٍ في سورة الكهف تلكم السورة التي شُرع لنا تلاوتُها كل جمعة، ولما تلوت هذه لآية التي خطابَ اللهُ تعالى بها رسولَه ﷺ بقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). [الكهف:28].

ولعلكم تتأملون معي قوله: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). فلقد نهى اللهُ رسولَه ﷺ عن صُحبةِ وطاعةِ كلِ غافلٍ صارت مصالحُ دينِه ودنياه فُرُطًا أي: ضائعة معطلة..

نعم أحبتي: إن الغفلة سببٌ كبير لضياع المصالح الدينية والدنيوية.. وقد قال أهل اللغة في معنى الغفلة: أنها فَقْدُ الشُّعورِ بما حَقُّه أن يُشعَرَ به، وقال الراغبُ: هو سَهْوٌ يَعْتَري الإنسان مِن قِلَّةِ التَّحَفُّظِ والتيَقُّظ وقيل: متابَعةُ النَّفْسِ على ما تشتهيه. وقال الجرجانيّ: الغفلة عن الشّيء هي ألا يخطر ذلك بباله، وقيل: إبطال الوقت بالبطالة... وكل هذه المعاني مذمومة وأياً كان منها المعنى الدقيق..

ولقد ذم الله تعالى الغفلة، وجعلها إحدى صفات الكافرين في غير ما موضع من كتابه فقال عن فرعونَ وقومِه لما أصروا على الكفر: (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ). [آل عمران:136]. وقال تعالى في ذم الغفلة وأنها سبب للصرف عن سبيل الرشاد: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ.) [الأعراف:146]. ووصف الغافين بأقبح الصفات وأنهم أضل من الأنعام فقال سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). [الأعراف:179].

ونهى رسول الله ﷺ عن الغفلة في مواضع كثيرة منها: الغفلة أثناء الدعاء فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ، وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ». روا أحمد وحسنه الألباني، ومعنى الحديث أنه لابد مع الدعاءِ من حضورِ القلبِ والإيقانِ بالإجابة، وقال الإمامُ الرازي: أجمعت الأمةُ على أن الدعاءَ اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليلُ النفعِ عديمُ الأثرِ. وهذه الآفة لا يسلم منها كثير منا وفقنا الله للتخلص منها.

وعن يُسَيْرَةَ رضي الله عنها وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ». رواه الترمذي وحسنه الألباني. ومعنى: ولا تغفُلن بضم الفاء أي عن الذكر، والمراد بنسيان الرحمة: نسيان أسبابِها أي لا تتركن الذكر فإنكُنَّ لو تَرَكْتُنَّ الذكرَ لحُرمْتُنَّ ثوابَه فكأنكنَّ تركتن الرحمة.

أيها الإخوة: وللغفلة علامات يجب على المسلم أن يتنبه لها منها: التكاسل عن الطاعات فلا يؤديها إلا بتثاقل، وإن أدها لم يؤدها بسعادة وانشراح صدر، وهذه أهم علامتها.

ومن علاماتها استصغار المحرمات سواء فعلها أو لم يفعلها، وأن يألف المعاصي ويجاهرَ بها ولذلك نهى النبي ﷺ عن المجاهرة بالذنب نهيا شديدا وعده من المجون فقال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ». رواه البخاري.. ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: إنّ حجاب الهيبة للّه عزّ وجلّ رقيق في قلب الغافل.

ومن علامات الغفلة تضييع الأوقات من غير فائدة.. والافتتان بالدنيا والانشغالُ بها عن العمل للآخرة. 

أيها الأحبة: ومن علامات الغفلة كذلك ترك ذكر الله إلا قليلا؛ فتجد الغافل تمر عليه مواطن الذكر فلا يذكر الله، وإن ذكرَ الله ذَكَرَه بلسانه ولم يواطئ لسانُه قلبَه.

والغفلة عن ذكر الله لها مضار كثيرة على النفس والحياة منها: أنّها تجلب الشّيطان وتُسخط الرّحمن.. وتنزّل الهمَّ والغمَّ في القلب وتبعدُ عنه الفرحَ والسّرورَ.. وتبلّدُ الذّهن وتسدُّ أبوابَ المعرفة.. وتبعد العبد عن اللّه عزّ وجلّ وتجرّه إلى المعاصي.

قال ابن القيّم رحمه اللّه: لا سبيل للغافل عن الذّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.. وقال رحمه الله: على قدرِ غفلةِ العبد عن الذّكر يكون بعده عن اللّه.. وقال: إنّ الغافل بينه وبين اللّه عزّ وجلّ وحشة لا تزول إلّا بالذّكر. وقال رحمه الله: إنّ مجالس الذّكر مجالسُ الملائكة ومجالسَ اللّغو والغفلة مجالسُ الشّياطين فليتخيّر العبد أعجبهما إليه وأولاهما به فهو مع أهله في الدّنيا والآخرة.

أيها الأخ المبارك وأعظم أسباب الغفلة: الرضا عن النفس كما قال ابن عطاء رحمه الله: أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها.

 ومن أسباب الغفلة ترك صلاة الجمعة ممن تجب عليه فهي سببٌ للختم على القلب ثم الابتلاء بالغفلة فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ». رواه مسلم..

ومن أسبابها البعد عن مواطن الطاعات كالمساجد وحلق الذكر واتباع الهوى ورفقاء السوء فقد قيل للحسن بن علي: مَا الْغَفْلَةُ؟ قَالَ: "تَرْكُكَ الْمَسْجِدَ، وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ"..

ومن أسبابها كذلك ترك قراءة القرآن فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ». رواه أبو داود وبن حبان وصححه الألباني. وفي رواية: «مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آياتٍ في ليلةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، ومَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ». رواه الحاكم والدارمي. جعلنا الله من التالين لكتابه الكريم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا..

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: وكما أن للغفلة أسبابٌ فلها بحمد الله علاج وأول علاجِها: البعد عن أسبابها، ومنها عدم الركون إلى الدنيا، والاطمئنان إليها، وإدراك أنها فانية... والمحافظة على الصلوات الخمس في المسجد ما استطاع؛ فالصلاة تذكر الإنسان كلما غفل.. ومن ذلك قيام الليل وهو دواء عظيم لها، والإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن.. ومن علاجها الإكثار من ذكر الموت؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ». يعني الموت رواه ابن حبان وحسنه الألباني، قال السندي رحمه الله: وهو هادم اللذات إما لأن ذكره يُزهْدُ فيها أو لأنه إذا جاء ما يبقى من لذائذ الدنيا شيئا..

ومن العلاج للغفلة زيارة القبور، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ». رواه ابن ماجه وصححه الألباني. مما يزيل الغفلة حضور الصلاة على الميت ودفنه.

ومما يؤسف له أن بعض الناس لم يستفد من هذا فتجده يتحدث بأمور الدنيا أثناء حضور الجنازة، وربما أشغل غيره معه بحديث ليست المقبرة محلا له، وربما انشغل بجواله، وهذا خلاف هدي رسولنا ﷺ فعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ؛ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُوُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا». رواه أبو داود وصححه الألباني، وعنه رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَبَكَى حَتَّى، بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا». رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.  فأين أولئك الحريصون على اتباع الجنائز من هذا المعنى العظيم المؤثر في استقامتهم وقربهم من ربهم ومما تعالج به الغفلة كذلك زيارة المرضى وأصحاب البلاء.. واجتناب رفقاء السوء، والسعي إلى صحبة الصالحين...

وجماع ذلك كله كثرة الابتهال إلى الله واللجوء إليه بالدعاء الصادق دعاء مُلِحٍ عليه في جوف الليل، بأن يعيذك من الغفلة، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» رواه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني. ومن دعائه ﷺ: «اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» رواه مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ

 

 

 

 

المشاهدات 3883 | التعليقات 0