الغش والاحكتار في التجارة

الحمد لله ربِّ العالمين، جعل دين الإسلام ديناً كاملاً شاملاً لمنافع الدنيا وسعادة الآخرة، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حكمٌ عدلٌ قائمٌ بالقسط، لا يُظلم أحدٌ عنده مثقال ذرَّة في الدنيا ولا في الآخرة. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، علَّمه الله عزَّ وجلَّ ما يُحبُّه ويرضاه، اللهم صلِّ وسلم بارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[.

إخوة الإيمان والعقيدة .. إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى ]يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ[ وقال ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[ وقد ذكر النبي ﷺ (الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!)

اعلموا – يا عباد الله – فإن الله لا يستجيب لعباده إلا إذا أحسنوا الطُعمة، وأدخلوا في بطونهم المطعم الحلال، وقد حذرنا النبي ﷺ من المطعم الحرام والمشرب الحرام فقال (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ) والسحت هو الحرام الذي لا يحل كسبه، لأنه يسحت البركة ويذهبها.

لذا أمر الله المؤمنين أن يتحرُّوا المطعم الحلال في كل أحوالهم في الحصول على أرزاقهم، وفي اجتلاب مكاسبهم وطيباتهم، وركَّز الله عز وجل على ذلك في أسواقهم، لأن الأسواق هي التي عليها المدار في الأرزاق.

والمسلم التاجر يسعى لمنفعة المؤمنين، ويجلب المصالح التي في أمسِّ الحاجة إليها لإخوانه المؤمنين، ويجعل محلَّ نظره الأول رضاء رب العالمين واغتناء إخوانه المؤمنين، وإذا بارك الله عز وجل له بعد ذلك، فإن القليل يُغني عن الكثير، ويجعل الله عزَّ وجلَّ فيه البركة والخير الوفير والرزق الكثير، وهذا ما كان عليه مجتمع المؤمنين، وديننا الإسلامي بيَّن للتجار ما ينبغي عليهم تجنبه حتى تكون أرزاقهم حلالاً، وأعمالهم مقبولة عند ذي الجلال والإكرام.

فنهاهم عن الإحتكار، الذي يجعل التاجر على السوق يجمع سلعة محددة لا غنى للناس عنها، كالقمح أو السكر أو الأرز أو ما شابه ذلك، فإذا جمعها من السوق ولم تعد موجودة عند الآخرين تحكَّم في السعر، وغالى فيه وأفحش، ليكتسب أضعافاً مضاعفةً على حساب إخوانه المسلمين.

هذا الإحتكار جعله النبي ﷺ معصية صاحبها آثم، فقال ﷺ (لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ) وفي رواية (مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ) أخطأ في عمله.

هذا عثمان بن عفان t، جاءته تجارة من بلاد الشام تحمل دقيقاً على ألف جمل، ولم يكن في المدينة كلها حفنة قمح، فجاءه تجار المدينة وقالوا له: اعطنا تجارتك ولك ما تشاء، قال: كم تعطوني فيها؟ قالوا: ضعف ثمنها، قال: جاءني من زادني عن ذلك، قالوا، نعطك الضعفين، قال: جاءني من زادني عن ذلك، قالوا: ومن الذي جاءك ونحن تجار المدينة ولم يبقَ تاجرٌ من المدينة إلا جاء معنا؟!!، قال: أُشهدكم أنِّي جعلتها صدقة على فقراء المسلمين، والله عز وجل أعطاني على ذلك عشرة أضعاف. وصدق الله ]مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا[.

هؤلاء هم التجار الذين ربَّاهم النبي ﷺ، وجعلهم خدمةً لمجتمعهم، يسعون إلى منافع إخوانهم، وبسِّر ذلك ينزِّل الله البركة في أرزاقهم، فيغنيهم الله عزَّ وجلَّ في الدنيا ويسعدهم في الدار الآخرة، فهؤلاء هم الذي صدقوا مع الله .. صدقوا مع أنفسهم .. صدقوا في تجارتهم ]قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[.

 

 

الحمد لله ربِّ العالمين ...

معاشر المؤمنين ... قال رسول الله ﷺ (إِنَّ التُجَّارَ هُمُ الفُجَّارَ) قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَوَ لَيسَ قَد أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ؟ قَالَ (بَلَى، وَلِكِنَّهُم يُحَدِّثُونَ فَيَكذِبُونَ، وَيَحلِفُونَ فَيَأثَمُونَ) وإلا فإن التجارة من أفضل أنواع المكاسب لمن بَرَّ وصدق، فالتاجر الصدوق الأمين له من الأجر الشيء العظيم، قال رسول الله ﷺ (إِنَّ التُجَّارَ يُبعَثُونَ يَومَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَن اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ) لمَّا كان من دَيدَنِ التجار التدليس في المعاملات، والتهالُكُ على ترويج السلع بما تيسر لهم من الأيمان الكاذبة ونحوها، حكم عليهم بالفجور، واستثنى منهم من اتقى المحارم، وبرَّ في يمينه، وصدق في حديثه.

يقول أبو هريرة t: مَرَّ رَسولُ اللهِ ﷺ علَى صُبْرَةِ طَعامٍ فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلًا فقالَ (ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟) قالَ: أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ (أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النَّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي) فمن خدع الناس بأي صورة من صور الغش والخداع فليس على هدي النبي ﷺ وسنته وطريقته، وهذا زجر شديد من النبي ﷺ وفيه تهديد لمن تمادى في الغش بأن يخرج عن طريقة النبي ﷺ.

عباد الله ... الأمانة من محاسن الأخلاق، والتعامل في التجارة والأمور المادية يستلزم الأمانة؛ حتى تتم الأمور والتعاملات بين الناس بلا منازعات، وبلا إثارة شرور في المجتمع، وعلى العكس من ذلك؛ فإن الغش والخداع يجلب على المجتمع الويلات والبغضاء والتشاحن بين الناس، فالغش ليس من الإسلام، والغشاش على خطر عظيم، والغش قد كثُر في زماننا هذا -والعياذ بالله-.

أيها المؤمنون .. لم يدخل الإسلام بلاد أفريقيا ولا أندونيسيا ولا ماليزيا ولا بلاد الهند، ولا غيرها إلا عن طريق التجار المسلمين الذين ذهبوا إلى هذه البلاد، فرأوا عليهم الأمانة والصدق في القول، وعدم الكذب والوفاء بالوعد، وعدم الغش في البيع أو الشراء، فسألوهم من الذي علمكم ذلك؟!!، فأشاروا إلى الإسلام، فدخل الناس أفواجاً مِنْ تعامل إخوانهم المؤمنين التجار الذين يتاجرون ويظهر عليهم تعاليم الإسلام وأحكام الحبيب المصطفى ﷺ.

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الأرزاق الحلال الطيبة المبارك لنا فيها، وأن يحفظنا من الفتن والحرام والذنوب والآثام ما ظهر منها وما بطن.

اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل زاهقاً وهالكاً وارزقنا اجتنابه.

المرفقات

1677210099_الغش في التجارة.docx

1677210110_الغش في التجارة.pdf

المشاهدات 471 | التعليقات 0