الغش والاحتكار في التجارة والسماحة فيها.

عبد الله بن علي الطريف
1444/08/04 - 2023/02/24 01:27AM

الغش والاحتكار في التجارة والسماحة فيها. 1444/8/4هـ

أيها الإخوة: التجارة في الإسلام شأنها عظيم، ومقامها فيه رفيع ذكرها الله تعالى في كتابه في مواضع تدل على إباحتها فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ..) [النساء:29]. وقال عز اسمه: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة:275]. وندب إليها، وعظم شأنها، وأثنى على أهلها المتقين الذين استقاموا وحافظوا على ما أوجب الله فيها، وابتعدوا عما حرم سبحانه وتعالى فقال جل ذكره: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..). [المزمل:20] أي: عَلِمَ اللهُ أَنَّ مِنْكم مُسَافِرِينَ فِي الْأَرْضِ يسافرون للتجارة، يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِهِ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ، ليستغنوا عن الخلق، ويتكففوا عن الناس.. وقال السيوطي: هذه الآية أصل في التجارة.. وقال الله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لطلب المكاسب والتجارات [الجمعة:10] وَكَانَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتَك، وانتشرتُ كما أمرتني، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟؛ فَقَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٌ مَبْرُورٌ». رواه الطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ وأحمد والحاكم عن رافع بن خديج وصححه الألباني. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ» رواه النسائي وصححه الألباني والكسب هنا التجارة، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» رواه الترمذي وحسنه وقال الألباني صحيح لغيره، ورواه الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ، فَوَجَدَ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ» فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَرَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ وَأَعْنَاقَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فُجَّارًا إِلَّا مَنِ اتَّقَى وَبَرَّ وَصَدَقَ» رواه أحمد والترمذي وابن حبان َعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ وصححه الألباني، ورواه الحاكم وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وقال الذهبي صحيح.

أيها الإخوة: والتجارة من أهم أعمال المسلمين، ومن أهم طرق الكسب، وقد كان رسولُ الله ﷺ، برهة من الدهرِ تاجراً مسافراً، وباع واشترى حاضراً، واشتهر أمره في ذلك، وكانت التجارة عمل المهاجرين، لما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة في عهد النبي ﷺ، واشتغلوا بالتجارة، وكان الأنصار يشتغلون بالزراعة، وآخى النبيُ ﷺ بينهم وبين المهاجرين رضي الله عنهم، فلَمَا قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ آخَى النَّبِيُّ ﷺ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ، فَمَكَثْنَا يَسِيرًا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَجَاءَ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَهْيَمْ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: «مَا سُقْتَ إِلَيْهَا؟» قَالَ: نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ، - أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ - قَالَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ولم يزل في أرباح من التجارة، ثم من الغنائم حتى صار من أغنى الناس..

أيها الأحبة: ولقد امتهن التجارة خيار الصحابة كأبي بكر وعثمان وسبق خبرُ عبدِ الرحمن بنِ عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.. وقَالَ عمرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "مَا من حَالٍ يأتيني عَلَيْهِ الْمَوْتُ بعدَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ أحبَّ إليَّ من أَنْ يأتيني وَأَنا بَين شُعبتي رحلي ألتمسُ من فضل الله ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة (وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله..)" ذكره السيوطي وعزاه لسعيد بن مَنْصُور وَعبد بن حميد وَابْن الْمُنْذر.

وكان بعض السلف يقول: الأسواق موائد الله في أرضه فمن أتاها أصاب منها. وقيل: التجارة إمارة والأرباح توفيقات.. وقال أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلًا، يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنِّي فِي كِفَايَةٍ، فَقَالَ: «الْزَمِ السُّوقَ تَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَعُودُ بِهِ» وَقَالَ: «مَا أَحْسَنَ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ النَّاسِ»

وحذر رسولُ الله ﷺ التجارَ من الكذبِ والغشِ والاحتكارِ، وكل عمل محرم وجعل ذلك سبباً لمحق البركة والإثم العظيم، وحثَّ فيها على تقوى الله والبر والصدق...  فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا، وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا». رواه البخاري ومسلم عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وحث رسول الله على السماحة في البيع وعدم الإضرار بالناس بالمبالغة بالمكاسب فقَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» رواه البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.. أسأل الله تعالى أن يرزقنا الحلال ويجنبنا الحرام وصلى الله وسلم على نبينا محمد..

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: وكما أن التجارة عمل مشروع ومندوب إليه، وعمل بها النبي ﷺ وكبار الصحابة إلا أنها لا تخلو من آفات يجب تجنبها حتى لا تفسدها وتفسد كسبها، وتخرج التاجر من دائرة المشروع إلى وحل المحرم والممنوع.. ومما اتفق عليه الفقهاء تحريم الغِشّ بجميع صوره؛ سواءً كان بالقول أو بالفعل، وسواء كان بكتم العيب أو بالكذب، وسواء كان في التلاعب بالمنتجات أو السلع أو غيرها، والغش التجاري هو: إظهار الشيء على غير حقيقته؛ إما بكتم عيْبٍ أو إظهار صفةٍ ليست فيه، والدافع إليه إتمام البيع، ولولاه ما تمّ البيع. وعدّ ابن حجر: الغشّ في البيوع ونحوها من الكبائر؛ لظاهر ما في بعض الأحاديث من نفي الإسلام عن الغاشّ مع كونه لم يزل في مقت الله..  

فقد «مَرَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَسَأَلَهُ: كَيْفَ تَبِيعُ؟؛ فَأَخْبَرَهُ فَأُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ أَدْخِلْ يَدَكَ فِيهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ؛ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟ وفي رواية: أَفَلَا عَزَلْتَ الرَّطْبَ عَلَى حِدَةٍ، وَالْيَابِسَ عَلَى حِدَةٍ فَيَبْتَاعُونَ مَا يَعْرِفُونَ؟ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا. وفي رواية: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا. رواه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ» رواه ابن ماجة وصححه الألباني. وَضَابِطُ الْغِشِّ الْمُحَرَّمِ أَنْ يَعْلَمَ ذُو السِّلْعَةِ مِنْ نَحْوِ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ فِيهَا شَيْئًا لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مُرِيدُ أَخْذِهَا مَا أَخَذَهَا بِذَلِكَ الْمُقَابِلِ. وحكم الغش التجاري جريمة ليس فيها عقوبة محدّدة مقدرة؛ فليس فيها حدّ ولا كفّارة؛ لذلك فإن عقوبتها التعزير، والتعزير يقدّره القاضي وقد وضعت الدولة عقوبات مغلظة على الغشاشين وكونت فرقاً في الوزارة المختصة لتتبعهم والقبض عليهم ففي فعلهم فساد، وأكلٌ للمال بالباطل نعوذ بالله من حالهم.. أيها الإخوة: ونهى رسول الله ﷺ عن الاحتكار فقَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» رواه مسلم  

وعرف العلماء المحتكر: بأنه الذي يشتري الطعام ونحوه مما يحتاجه الناس في وقت الشدة، ويخزنه فإذا اشتد الغلاء باعه بأكثر، وهذا لا يجوز ومنكر وصاحبه آثم، ويجب على ولي الأمر أن يمنعه من ذلك، وأن يلزمه ببيع الطعام بسعر المثل في الوقت الحاضر، ولا يُمَكنه من خزنه، هذا إذا كان في وقت الشدة. أما الذي يشتري الطعام أو غير الطعام مما يحتاجه الناس في وقت الرخاء وكثرته في الأسواق، وعدم الضرر على أحد، ثم إذا تحركت السلع باعه مع الناس من دون أن يؤخره إلى شدة الضرورة، بل متى تحركت وجاءت الفائدة باعه فلا حرج عليه، وهذا عمل التجار في قديم الزمان وحديثه.

أيها الإخوة: ومن القصص التي ساقها ﷺ للعبرة عمن كان قبلنا ما قَالَه أَبوُ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولُ ﷺ قَالَ: «أَلَا وَإِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ جَلَبَ خَمْرًا إلَى قَرْيَةٍ فَشَابَهَا بِالْمَاءِ فَأَضْعَفَهُ أَضْعَافًا فَاشْتَرَى قِرْدًا فَرَكِبَ الْبَحْرَ حَتَّى إذَا لَجَّ فِيهِ أَلْهَمَ اللَّهُ الْقِرْدَ صُرَّةَ الدَّنَانِيرِ فَأَخَذَهَا وَصَعِدَ الدَّقَلَ [يعني: عمود السفينة، وصاحبه لا يستطيع الصعود وراءه] فَفَتَحَ الْقِرْدُ الصُّرَّةَ وَصَاحِبُهَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فَأَخَذَ دِينَارًا فَرَمَى بِهِ فِي الْبَحْرِ وَدِينَارًا فِي السَّفِينَةِ حَتَّى قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ». أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ عِقَابًا لِصَاحِبِهِ لَمَّا خَلَطَ وَغَشَّ.. رواه الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ وصححه الألباني.

ويؤخذ من هذا أن الله تعالى سلط عليه من ماله ما يضره، فقد خدع الناس، وأخذ أموالهم، فسلط الله القرد على إتلاف ماله، وفيه التحذير من الغش.. وأن من أخذ المال من الغش سيخسر ويهلك وإن نجا زمناً فمآله للخسران والهلاك وسيرى ذلك في يوم من الأيام.. فمن التجار من يملك الأموال الكثيرة لكن قد سلط الله عليه البلايا والنقص في ماله وأهله وقلت بركة ماله.

وبعد أحبتي: ومن الغش التستر التجاري وقد افتى العلماء بتحريمه.. وضرره الاقتصادي والأمني والاجتماعي على البلاد كبير، وحري بالتجار الالتزام بالأنظمة واللوائح المعتمدة من الجهات الحكومية لحفظ حقوق الناس ومصالحهم.. رزقنا الله الحلال وجنبنا الحرام...

المشاهدات 2520 | التعليقات 0