الغرقُ في المباحاتِ؛ ضياعٌ للعمر، وفواتٌ للأجرِ
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ الكريمِ المفْضالِ، والشكرُ للهِ الكبيرِ المُتعالِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ذو العزَّةِ والجلالِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ وسلم عليه وعلى الصَّحْبِ والآلِ وعلى مَنْ تبعهم بإحسانٍ وامتثالٍ، إلى يومِ المرجعِ والمآلِ ..
أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسيَ بتقوى اللهِ، فتحصيلُ التقوى مطلبُ كلِّ مؤمنٍ، ومبتغى كلِّ مسلمٍ "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
والأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ"
معاشرَ المؤمنين: الشريعةُ الإسلاميةُ أوسعُ الشرائعِ، وأيسرُها، وأخفُّها تكاليفاً وواجباتٍ، وفيها فُسْحةٌ ليستْ في الشرائعِ التي سبقتْها، وبابُ المباحاتِ فيها هو الأصلُ؛ وتُعدُّ قاعدةُ (الأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ) مِنَ القواعدِ الكبرى الشهيرةِ في الفقهِ الإسلاميِّ.
وأكثرُ ما نُمارِسُه في حياتنا اليوميةِ مِنْ قبيلِ المباحِ، حتى طغى ذلك على غالبِ وقتنا، وأخذَ الحظَّ الأوفرَ منه.
وعُمُرُ الإنسانِ ووقتُه هو حياتُه، ومستودَعُ أعمالِه، وسِجلُّه الذي يُطوى منه كلُّ يومٍ صفحةٌ بما كُتبَ فيها؛ ويومَ القيامةِ يُعطى كتابه منشُوراً ليقرَأه؛ قالَ تعالى: "وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا" وقالَ سبحانه: "يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ"
وتعامُلُ المُسلمِ مع المباحَاتِ ينبغي أنْ يكونَ بقَدْرٍ مُنضبطٍ بدونِ إفراطٍ ولا تفريطٍ، فحرمانُ النَّفسِ مِنَ المباحاتِ، إرهاقٌ لها، وكبتٌ لمتْعَتِها، وتضييقٌ عليها بما لم يشْرَعْهُ اللهُ، قالَ تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" وعن أبي الَّدرداءِ رضي اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما أَحَلَّ اللهُ في كتابِه فهوَ حَلالٌ، وما حَرَّمَ فهوَ حرامٌ، وما سَكَتَ عنهُ فهوَ عَفْوٌ ، فَاقْبَلوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ و ما كان رَبُّكَ نَسِيًّا" رواه الطبرانيُّ والبزَّارُ وصحَّحه الألبانيُّ.
إلّا أنَّ الغرَقَ في المباحاتِ، والاستكثارَ منها، له تبعاتٌ، وعواقبُ وخيماتٌ، ويَتْلوه النّدمُ والحسراتُ، سألَ سائلٌ الإمامَ ابنَ الجوزيِّ ــ رحمه الله ــ قائلاً :أيجوزُ أنْ أفسحَ لنفسي في مباحِ الملاهي؟ فأجابَه: (عندَ نفسِكَ مِنَ الغَفْلِةِ ما يَكفيها)
فالذينَ يُكْثرونَ من المباحاتِ؛ هُمْ في الحقيقةِ مدمنونَ لها؛ يفعلونَها إدماناً؛ لا استمتاعاً، ويُمارسُونها هروباً من واقعِهمْ ومسؤولياتهم؛ لا طلباً للاستجمامِ والرَّاحةِ، فالمرءُ العاديُّ الطَّبَعيُّ يعيشُ واقعَه وحياتَه، ويستمتعُ بأداءِ مسؤولياتِه وواجباتِه، ويتَّخِذُ مِنَ المباحاتِ ما يُجَدِّدُ به نشاطَه، وحيَويَّته، ويستجمُّ به مِنَ تَعبِ الحياةِ ورَهَقِها.
وواقعُ بعضِ النَّاسِ اليومَ؛ أنَّهم مِنْ سَفَرٍ إلى سفرٍ آخرَ، ويخطِّطونَ للأسفارِ المتتاليةِ، ولا يطيقونَ الفكاكَ عنها، أو الانقطاعَ مِنْهَا، وقدْ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن السَّفرِ "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أحَدَكُمْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ونَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إلى أهْلِهِ" رواهُ البخاريُّ عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه.
ومِنْهُم مَنْ أدمَنَ الرحلاتِ البريَّةَ، والخروجَ للنُّزهةِ الخَلويَّةِ فلا يعودُون مِنْ رحلةٍ إلا بدأوا بأُخرى، ولا يَتْركونَ مكاناً إلا أتوه، ولا وادياً وطؤُه، ولا جبلاً إلا شاهدُوه، ولا رَوضَاً مُربِعاً إلا شدُّوا رحالَهَم إليه، وهكذا، وهذا العملُ يشابِه سكنى الباديةِ المنْهيَّ عنه، قالَ صلى اللهُ عليه وسلم: "مَن سكَنَ الباديةَ جفا" رواهُ أبو داود والنسائيُ وغيرُهما وصحَّحَه الألبانيُّ. ومعنى "جفا" أي: أصْبَحَ في طَبْعِه شِدَّةٌ وقَسْوَةٌ؛ بَعدَ لُطفِ الأخلاقِ؛ وذلك لِمَا تَحمِلُه عليه طَبيعةُ الحياةِ في الصَّحراءِ مِن قِلَّةِ مُخالَطةِ النَّاسِ، ولِفَقدِ مَن يُرَوِّضُه ويُؤَدِّبُه.
وآخرونَ ملازمونَ للاستراحاتِ، أو المُخيّماتِ طيلةَ ليلِهمْ ونهارِهِم، فهم حاضرونَ غائبونَ، لا في العيرِ ولا في النّفيرِ، انطووا على محيطِهمُ الصغيرِ، وتقوقعوا على أصحابِهمُ الخاصِّينَ، تركوا البيوتَ، وغابوا عن مجالسَةَ الوالدينِ والأهلِ، ولا يشهدونَ مجالسَ الرجالِ ومنتدياتِ الكبارِ.
وفئامٌ آخرونَ؛ كبارٌ وصغارٌ؛ عكفوا على الألعابِ الالكترونية وتعلَّقوا بها تعلُّقَ الرضيعِ بأمِّه، تسمَّرتْ أعينُهم بالأجهزةِ في كلِّ لحظاتهم، إنْ قعدوا وإنْ قاموا، وإنْ ذهبوا وإنْ جاءوا، أخرجَتْهُمْ تلكَ الألعابُ عنْ واقعِهم، وعَزلتهُم عن مشاعرِهم، وسلبتهُمْ متعَةَ المُحادَثةِ، وأنْسَ المقابلةِ، ولُطفَ المَعْشَرِ، وألهتْهُمْ عن ذكر اللهِ وترْطِيبِ اللسانِ بهِ.
معاشرَ المؤمنينَ: هذه أنموذَجَاتٌ وأمثلةٌ لمباحاتٍ يغرقُ بها الكثيرونَ، ويُدمنونها؛ فِعْلُها بذواتِها مِنَ المباحاتِ، لكن إنْ صَحِبَها حرامٌ أو منكرٌ؛ فكلُّ عملٍ ونيّتُه، وكلُّ امرئ ومَقصَدُه.
لكنْ تعالوا لننظرَ كمْ يفوتُ أصحابَ هذه الأعمالِ مِنْ أجورٍ وأُجورٍ، وكمْ يسبِقُهم غيرُهُم في السيرِ إلى اللهِ، وكمْ يذهبُ مِنْ أعمارِهم بلا أثرٍ يبقى ولا ذِكْرٍ يُنْسَأُ، فكم يفوتُهم مِنَ أجورِ الجُمَعِ والجماعاتِ، وكم يُحرمَونَ مِنْ أجورِ شهودِ الجنائزِ واتِّباعِها، وتسليةِ المصابينَ مِنْ أهلِها، وكمْ يفوتُهم مِنْ برِّ الوالدينِ الذي لا يقتصرُ على وقتِ حاجتهما أو في حالِ كبرهما، فمجردُ مجالستهما، ومؤاكلتِهما وزياتهما برٌّ، قَالَ الْحَسَنُ البصريُّ ــ رحمه الله ــ : (تَعَشَّ الْعَشَاءَ مَعَ أُمُّكِ تَقَرَّ بِهِ عَيْنُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ تَحُجُّهَا تَطَوُّعًا) وكمْ ضاعَ مِنْ أولادٍ وزوجاتٍ، وكمْ مِنْ تقصيرٍ حَصَل، وإهمالٍ وقعَ وتفريطٍ تكرَّر؛ بسبب الانغماسِ في هذه المباحاتِ، قالَ صلى اللهُ عليه وسلم :" والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ عن عبدِ الله بنِ عمر رضي اللهُ عنهما.
وهناكَ مَنْ يزيدُ على ذلكَ بالتحايُلِ للغيابٍ عنِ الوظيفةِ والعملِ، واختلاقِ الأعذارِ الكاذِبَةِ، وادّعَاءِ ظروفٍ لا توجدُ، ولا أصلَ لها.
أعوذُ باللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيم: "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنة، ونفعنا بما فيهما مِنَ العبرِ والحكمةِ..
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنْ لا لإله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه، صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وإخوانِه ..
أمَّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
معاشرَ المؤمنينَ: لا حجَّةَ لأولئكَ الغارقينَ في المباحاتِ المذكورةِ آنفاً؛ فمهما قالوا؛ فقولُهم مردودٌ، وحُجَّتُهم ضعيفةٌ، فمخالطةُ الناسِ خيرٌ مِنْ هَجْرِهِم، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليهِ وسلمَ: "المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ ويَصبِرُ على أذاهُمْ، أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبرُ على أذاهُمْ" رواه الإمامُ أحمدُ وابن ماجه وصحَّحَه الألبانيُّ.
ونيّةُ الاستجمامِ، والتّقوّي على الطَّاعةِ؛ لا تكونُ بالإدمانِ على مباحٍ، وغَلَبَتِه على حياةِ المرءِ.
وقدْ كانَ السلفُ يُحذِّرونَ مِنَ التّوسُعِ في المباحاتِ، ويذمُّونَ مَنْ عُرفَ بذلكَ، فكيفَ بهم لو رأوا حالَ المُدمنينَ عليها إدماناً لا ينفكُّ ولا يَنْقطِعُ!
وإنَّما يُنهى عن التوسّعِ في المباحاتِ لِسببين :
الأوَّلِ: لأنّها تَشْغَلُ عن الطَّاعاتِ .
والثاني: لأنَّ من توسّعَ في المباحاتِ يُخشى عليهِ الوقوعُ في الشبهاتِ، ولذا قالَ أبو الدَّردَاءِ رضيَ اللهُ عنْه: تَمَامُ التقوى أنْ يتقيَ اللهَ العبدُ حتى يَتَّقِيهِ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وحتى يَتْرُكَ بَعضَ ما يرى أنَّه حلالٌ خَشْيَةَ أنْ يكونَ حراماً، حِجَابَاً بَينَهُ وبينَ الحرامِ .
وقالَ الحسنُ: مازالتِ التقوى بالمتقينَ حتى تركوا كثيراً مِنَ الحَلالِ مَخَافَةَ الحرامِ.
هذا وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم بالصلاةِ والسلامِ عليه اللهُ حيثُ يقولُ: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"