العينة وصورها المعاصرة // د. عبد الله السعيدي

احمد ابوبكر
1435/06/10 - 2014/04/10 03:03AM
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، _صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً_، أما بعد:
فإن العينة معاملة قديمة بين الناس، والفكرة التي تقوم عليها – على قدمها – هي الفكرة التي تقوم عليها المؤسسات المالية المنظمة اليوم، كالبنوك، والمصارف، ربوية كانت أو إسلامية.
هذه الفكرة هي فكرة "التمويل"(*) التي تعد أساساً للبنوك، منها ينطلق كثير من معاملاتها، وإليها يرد كثير من إشكالاتها.
ولما كان كثير من المعاملات المصرفية ينطلق من هذه الفكرة ناسب حينئذ بحث هذه المعاملة الأساس.
وثمة مناسبة أخرى هي: أن العينة اختلفت فيها مذاهب الفقهاء، بل المذهب الواحد من جهة مفهومها، ومن جهة تصنيفها، ومن جهة صورها، وتصويرها، ومن جهة حكمها على نحو لا يستوعبه حشر أقوال فقهاء المذاهب تحت مسألة واحدة.
وهذا التنوع اكتسب منه بحث العينة أهمية لما نتج عنه من غموض يعد كشفه ميزة في هذا البحث لم يسبق إليها – فيما أعلم -، وناسبه بحث المذاهب مذهباً مذهباً، ليحرر في الآخر مبحث يستخلص فيه ما تتفق فيه، وما تفترق فيه، فهو مبحث مقارنة يقارن بينها، فتتزاوج به بعد انفراد، وتتعانق به بعد حياد.
المبحث الأول: رأي الحنفية في العينة:(*)
عرفت اصطلاحاً بأنها:
أ – (شراء ما باع بأقل مما باع)(1).
ب – (بيع العين بالربح نسيئة، ليبيعها المستقرض بأقل ليقضي دينه)(2).
المطلب الأول: في بيان صورها، وحكمها:
والمتأمل لكتب الحنفية يجد بعضها يقتصر على ذكر صورة، أو صورتين للعينة، يتبعها بذكر حكمها، دون أن يحكي خلاف المذهب فيه، وبعضها يورد جملة من الصور، ويورد جملة من الأحكام، تمثل خلاف المذهب في العينة.
المقصد الأول: بيان المنهج الأول:
فمن أمثلة الأول: ما ذكره صاحب الهداية عند ذكر العينة قائلاً: "أن يستقرض من تاجر عشرة، فيتأبى عليه، ويبيع منه ثوباً يساوي عشرة، بخمسة عشر مثلاً رغبة في نيل الزيادة، ليبيعه المستقرض، ويتحمل عليه خمسة)(3).
وذكر بعد إيراد المثال حكمه فقال: (مكروه لما فيها من الإعراض عن مبرة الإقراض)(4).
وذكر صاحب العناية مثلما ذكر صاحب الهداية، ثم بعد ذلك أورد مثالاً آخر، قال فيه:
"ومن الناس من صور للعينة صورة أخرى، وهو أن يجعل المقرض والمستقرض بينهما ثالثاً في الصورة التي ذكرها في الكتاب(5)، فيبيع صاحب الثوب الثوب باثني عشر من المستقرض، ثم إن المستقرض يبيعه من الثالث بعشرة، ويسلم الثوب إليه، ثم يبيع الثالث الثوب من المقرض بعشرة، ويأخذ منه عشرة، ويدفعها إلى المستقرض، فتندفع حاجته، وإنما توسطا بثالث احترازاً عن شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن. ومنهم من صور بغير ذلك.
وهو مذموم اخترعها أكلة الربا، وقد ذمهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بذلك فقال: "إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر..."(6) وقيل: "إياك والعينة فإنها لعينة")(7)، ولم يحك خلافاً في المسألة، وذكر في البحث الرائق، وفي مجمع الأنهر مثله(8).
وتحقيق المسألة:
إن الحنفية في كلامهم على مسألة العينة بصورتيها المتقدمتين "المطلقة، والمقيدة" يثبتون لهما حكماً واحداً، هو الجواز مع الكراهة، حيث يمضون البيع كما هو عليه للعاقد، ويقولون بكراهته، كما تقدم نقله في موضعه(9).
ويستدلون للمنع بدليلين: أحدهما: حديث العالية.. وفيه أن أم ولد زيد بن أرقم باعت منه غلاماً بثمانمائة نسيئة، ثم ابتاعته منه بستمائة نقداً، فأنكرت عليها عائشة _رضي الله عنها_ ذلك(10).
وثانيهما: (أن الثمن لم يدخل في ضمان البائع قبل قبضه، فإذا عاد إليه عين ماله بالصفة التي خرج من ملكه، وصار بعض الثمن قصاصاً ببعض، بقي له عليه فضل بلا عوض، فكان ذلك ربح ما لم يضمن، وهو حرام)(11).
المقصد الثاني: بيان المنهج الثاني:
ومن أمثلة الثاني: ما جاء في فتح القدير، لابن الهمام، حيث ذكر جملة من صور العينة، وجملة من أحكامها:
أ – فذكر صورة ثلاثية قال فيها موضحاً بيع العينة: (وهو أن يشتري له حريراً بثمن هو أكثر من قيمته، ليبيعه بأقل من ذلك الثمن، لغير البائع، ثم يشتريه البائع من ذلك الغير بأقل من السعر الذي اشتراه به، ويدفع ذلك الأقل إلى بائعه، فيدفعه بائعه إلى المشتري المديون، فيسلم الثوب للبائع كما كان، ويستفيد الزيادة على ذلك الأقل، وإنما وسَّطا الثاني تحرزاً عن شراء ما باع بأقل مما باع، قبل نقد الثمن)(12).
وبين عقب هذا المثال حكمه فقال: (فإذا فعل الكفيل ذلك كان مشترياً لنفسه، والملك له في الحرير، والزيادة التي يخسرها عليه...)(13).
ب – ثم ذكر صورة أخرى فقال: (ومن صور العينة أن يقرضه مثلاً خمسة عشر، ثم يبيعه ثوباً يساوي عشرة بخمسة عشر، ويأخذ الخمسة عشر القرض منه، فلم يخرج منه إلا عشرة، وثبت له خمسة عشر)(14).
ج – ثم أعقب هذا المثال بآخر فقال: (ومنها: أن يبيع متاعه بألفين من المستقرض إلى أجل ثم يبعث متوسطاً يشتريه لنفسه بألف حالَّة، ويقبضه، ثم يبيعه من البائع الأول بألف، ثم يحيل المتوسط بائعَه على البائع الأول بالثمن الذي عليه، وهو ألف حالَّة، فيدفعها إلى المستقرض، ويأخذ منه ألفين عند الحلول)(15).
وعقب هذه الصور كلها قال في حكم بيع العينة نقلاً عن فقهاء الحنفية: (قالوا: وهذا البيع مكروه لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "إذا تبايعتم بالعنية..." ... وقال أبو يوسف: لا يكره هذا البيع؛ لأنه فعله كثير من الصحابة وحمدوا على ذلك، ولم يعدوه من الربا... وقال محمد: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا، وقد ذمهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: "إذا تبايعتم بالعينة..." ...وقيل: "إياك والعينة، فإنها لعينة")(16).
المطلب الثاني : بيان عكس العينة:
صورتها: (ما لو باع سلعة بألف درهم حالَّة، ثم اشتراها بألف درهم مؤجلة)(17).
وكذا (لو باع بألف مؤجلة، ثم اشتراه بألف مؤجلة إلى أبعد من ذلك الأجل)(18). حكمها: لا تجوز؛ لأنها في معنى "اشترى ما باع بأقل مما باع، قبل نقد الثمن" – يعني العينة – إذ الحالَّة خير من المؤجلة(19).
المطلب الثالث: بيان حكم العقدين في صورة المنع:
تقدم أن الحنفية يمنعون صورة العينة الثنائية التي يصورونها بقولهم: (من اشترى شيئاً بألف درهم حالَّة، أو نسيئة، فقبضه، ثم باعه من البائع بخمسمائة قبل نقد الثمن، فالبيع فاسد)(20).
الذي يراه الحنفية هو عدم جواز البيع الثاني فقط، ومن ثم فسخه، إذ هو موضع الفساد، وفيه يقول صاحب الهداية: (لا يجوز البيع الثاني)(21).
المبحث الثاني: رأي المالكية في العينة:
بيان تعريفها في الاصطلاح:
أ – (البيع المتحيَّل به على دفع عين في أكثر منها)(22).
ب – (بيع من طلبت منه سلعة قبل ملكه إياها طالبها، بعد شرائها)(23).
المطلب الأول: بيان صورها، وحكمها:
يصور المالكية العينة في ثلاث صور بعضها أوسع من بعض:
الصورة الأولى: ما جاء عن ابن القاسم في المزنية: (إن العينة الجائزة أن يشتري الرجل المتاع، والحيوان، والدواب، والعروض، ويعدها لمن يشتريها منه، ولا يواعد في ذلك أحداً بعينه، وإنما يعدها لكل من جاء يطلب الابتياع منه بنقد، وإلى أجل، فهذه عينة جائزة، لا كراهية فيها)(24).
الصورة الثانية: وينعتها المالكية "ببيع ما ليس عندك"، فقد وصف بعض فقهاء المالكية أهل العينة بأنهم: (قوم نصبوا أنفسهم لطب شراء السلع منهم، وليست عندهم، فيذهبون إلى التجار، فيشترونها منهم ليبيعوها لمن طلبها منهم)(25).
الصورة الثالثة: وصورتها: (أن يبيع الرجلُ الرجلَ السلعة بثمن معلوم إلى أجل، ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن، أو يشتريها بحضرته من أجنبي ثم يبيعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراها به إلى أجل، ثم يبيعها هذا المشتري الأخير من البائع الأول نقداً بأقل مما اشتراها)(26).
ولما كانت الصورة الأولى جائزة عند المالكية، فإن جهدهم في التشقيق، والتقسيم منصب على الصورتين الأخريين حيث تشتملان أحكاماً مختلفة باختلاف أحوالهما، وسيأتي ذكر كل صورة مقرونة بحكمها، حيث يختلف حكمها باختلافها:
بيان صور الصورة الثانية (الست)، وحكمها:
المسألة الأولى: اشترِ لي سلعة كذا وكذا بعشرة، وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقداً.
فإن كان النقد من عند الآمر، أو من عند المأمور بغير شرط، فذلك جائز، وإن كان النقد من عند المأمور بشرط، فهي إجارة فاسدة، لأنه إنما أعطاه الدينارين على أن يبتاع له السلعة، وينقد من عنده الثمن عنه، فهي إجارة، وسلف، ويكون للمأمور إجارة مثله، إلا أن تكون إجارة مثله أكثر من الدينارين، فلا يزاد عليهما.
المسألة الثانية: اشترِ لي سلعة كذا وكذا بعشرة نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل. (وعلة المنع: لما فيه من سلف جر نفعاً)(27).
المسألة الثالثة: اشتر لي باثني عشر إلى أجل، وأنا أبتاعها منك بعشر نقداً. (فتمنع للسلف بالزيادة).
المسألة الرابعة: اشترِ سلعة كذا بعشرة نقداً، وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقداً.
فاختلف في ذلك قول مالك، وحكى الدسوقي أن محل الخلاف إن نَقَد المأمور بشرط، فإن تطوع جاز قطعاً(28).
المسألة الخامس: اشترِ سلعة كذا بعشرة نقداً، وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل.
لا يجوز، إلا أنه يختلف فيه إذا وقع على قولين: بين إمضاء البيع أو فسخه.
المسألة السادسة: اشترِ سلعة كذا باثني عشر إلى أجل، وأنا أبتاعها منك بعشرة نقداً.
وقال ابن حبيب: يفسخ على كل حال – وهو مراده بالإطلاق – لكن إن كانت السلعة قائمة ردت بعينها، أو فاتت فعلى الآمر فيها القيمة يوم قبضها(29).
أما الصورة الثالثة، فالمالكية يذكرونها في بيوع الآجال.
وهي: "أن يبيع الرجلُ الرجلَ السلعة بثمن معلوم إلى أجل، ثم يشتريها منه بأقل من ذلك".
ويفرع عليها المالكية اثنتي عشرة صورة، هي حاصل ضرب صور الحلول، والأجل الأربع، في صور الثمن الثلاث.
يجوز منها تسع صور يوضحها الحطاب بقوله: (ويجوز تسع، والجائزة ما لم يعجل فيه الأقل، وهي ما إذا اشتراه بمثل الثمن أو أكثر نقداً، أو إلى أجل دون الأجل، هذه أربع.
أو اشتراه إلى الأجل نفسه، سواءً كان بمثل الثمن، أو أقل، أو أكثر ما لم يشترط عدم المقاصة.
أو اشتراه لأبعد من الأجل بمثل الثمن أو أقل(30).
وضابط الجواز في هذه الصور هو: أن لا يتعجل الأقل سداً لذريعة سلف بمنفعة، كي لا يكون الدين الثابت بالذمة أكثر من النقد المعجل(31).
ويمنع منها ثلاث صور، يوضحها الحطاب بقوله:
(والممنوعة هي: ما تعجل فيه الأقل، وهي: ما إذا اشتراه بأقل نقداً، أو إلى أجل دون الأجل، وبأكثر لأبعد يريد ما لم يشترط المقاصة)(32).
وضابط المنع في هذه الصور الثلاث هو: "أن يتعجل الأقل" فإذا كان النقد المعجل أقل من الدين الثابت في الذمة قامت تهمة السلف بمنفعة، فمنع البيع لذلك(33).
المطلب الثاني: في بيان حكم العقدين في صور المنع:
تبين فيما تقدم أن المالكية شققوا صورة العينة الثنائية إلى اثنتي عشرة صورة، أجازوا تسعاً، ومنعوا ثلاثاً، وفي هذه الصور الثلاث الممنوعة، قد تعاقب عقدان على عين واحدة، فما حكم كل واحد من العقدين؟ هذا موضع خلاف عندهم(34):
أ – فإن كانت السلعة قائمة ففيه خلاف على قولين:
الأول: يفسخ البيع الثاني، وهو الأصح.
الثاني: يفسخ البيعان الأول والثاني.
ب – وإن كانت السلعة فائتة، فعلى قولين:
الأول: تفسخ البيعتان مطلقاً.
الثاني: تفسخ البيعتان إن كانت قيمة السلعة أقل من الثمن الذي باعها به البائع الأول، أما إن كانت القيمة مثله، أو أكثر منه فلا يفسخ إلا البيعة الثانية.
المبحث الثالث: في بيان العينة عند الشافعية:
المطلب الأول: في بيان موضع بحثها وصورتها:
المقصد الأول: في بيان موضع بحثها:
تورد معظم مصادر الشافعية العينة في كتاب البيع، باب البيوع المنهي عنها(35).
أما الشافعي في كتابه الأم فقد بوَّب لهذه المسألة "بيع الآجال" كما عليه المالكية(36).
وأما المزني في مختصره(37)، والماوردي في شرحه على هذا المختصر(38)، فقد جعلا من صورة مسألة العينة باباً، قالا: (باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل، ثم يشتريه بأقل من الثمن).
المقصد الثاني: في بيان صورتها:
تصويرها: كما أنها تصور العينة بصورة: (أن يبيعه عيناً بثمن كثير مؤجل، ويسلِّمها له، ثم يشتريها منه بنقد يسير، ليبقى الكثير في ذمته.
أو يبيعه عيناً بثمن يسير نقداً، ويسلمها له ثم يشتريها منه بثمن كثير مؤجل، سواء قبض الثمن الأول أو لا)(39).
المطلب الثاني: في بيان حكمها:
ومعظم هذه المصادر تذكر العينة بإيجاز شديد، يكاد يكون على وجه التبع، إما تشبيهاً، وإما تمثيلاً، حيث توردها عند كلامها على لاعربون، لتشبيه حكمه بحكمها، وهو الكراهة، أو باعتبارها مثلاً لأحكام البيع التكليفية الخمسة، فيذكرونها مثلاً للمكروه(40).
خلا الشافعي في كتابه الأم، حيث أورد حديث العالية الذي هو دليل لمانعيها، ثم نقد هذا الحديث بعدم ثبوته من جهة، وبإجماله لو فرض ثبوته، إذ يحتمل أن يكون المنع لكونها اشترت ما باعته مؤجلاً بثمن حال أقل مما باعت به، وهو ما ينكره الشافعي، ويحتمل أن يكون المنع لكون البيع مؤجلاً إلى العطاء، وهو أجل غير معلوم، وهذا ما يحمل المنع عليه الشافعي.
ثم بين دليله بعد نقده دليل مخالفيه، وهو:
1 – أن الأصل حل البيع.
2 – عند اختلاف الصحابة يؤخذ بقول الذي معه القياس، والذي معه القياس زيد بن أرقم، فإن القياس صحة البيع إلا لمانع، ولم يثبت المانع.
3 – ثم خلص بعد هذا إلى بيان حكم المسألة عنده فقال:
(فإذا اشترى الرجل من الرجل السلعة، فقبضها، وكان الثمن إلى أجل، فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه، ومن غيره، بنقد أقل، أو أكثر مما اشتراها به، أو بدين كذلك، أو عرض من العروض ساوى العرض ما شاء أن يساوي، وليست البيعة الثانية من البيعة الأولى بسبيل)(41).
وكذا المزني في مختصره حيث صدر الكلام على المسألة بقوله: (قال الشافعي _رحمه الله تعالى_: "ولا بأس بأن يبيع الرجل السلعة إلى أجل، ويشتريها من المشتري، بأقل بنقد، وعرض، وإلى أجل...")(42).
ثم سرد النقل، فنقل حديث العالية، ونقد الشافعي له، وما استدل به الشافعي على حكمه في المسألة، كما تقدم بيانه آنفاً.
وكذا الماوردي في الحاوي، حيث صور المسألة ونقل خلاف العلماء فيها، مقروناً بأدلتهم ومناقشتها.
وهذه المصادر الثلاثة تبين حكم العينة بقولها "ولا بأس" ولم تذكر كراهة بخلاف المصادر الأخرى.
بل إن صاحب فتح العزيز قد نص على أن العينة ليست من المناهي في كلام وجيز ذكر فيه صورة العينة، كما تقدم، وذكر حكمها موجزاً، فقال:
(وليس من المناهي بيع العينة... ولا فرق بين أن يصير بيع العينة عادة غالبة في البلد، أو لا يصير على المشهور.
وأفتى الأستاذ أبو إسحاق(43)، والشيخ أبو محمد(44): بأنه إذا صار عادة صار البيع الثاني كالمشروط في الأول، فيبطلان جميعاً)(45).
وذكر النووي مثله، ووصف الجواز بأنه الصحيح المعروف في كتب الأصحاب(46).
كما ذكر الزركشي في المنثور في كراهتها وجهين إذا كانت عادة ونقل عن أبي إسحاق، وأبي محمد القول ببطلانها في هذه الحال(47).
كما ذكر صاحب الإفصاح أن الجواز مذهب الشافعي(48).
كما نسب ابن حزم في المحلى القول بالجواز بلا كراهة إلى الإمام الشافعي(49).
ونسب ابن قدامة الجواز إلى الشافعي فقال: (وأجازه الشافعي)(50).
تحقيق المسألة: وتحقيق المسألة – فيما يظهر ليه – هو: أن الشافعية قد اختلف قولهم في العينة، فذكروا لها ثلاثة أحكام:
الأول: جوازها مطلقاً، وهو قول الشافعي.
الثاني: جوازها إن لم تكون عادة، فإن كانت عادة صار البيع الثاني كالمشروط في الأول، فتبطل، وهو وجه عند الشافعية نقله الرافعي، والنووي، والزركشي عن أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي محمد.
ونقل الزركشي وجهاً ثالثاً في حكمها إذا كانت عادة، هو الكراهة.
الثالث: كراهتها مطلقاً، وهو وجه عند متأخريهم، حيث طغت كتبهم بذكره دون الحكمين السابقين.
التوفيق بين الرأيين، فيحمل الأول القائل بالجواز على أنه مذهب الشافعي، وأصحابه المتقدمين كالمزني، والماوردي، ويحمل الرأي الثاني على أنه مذهب المتأخرين.
المطلب الثالث: في بيان عكس العينة:
صورتها: (أن يبيع سلعة بنقد، ثم يشتريها بأكثر منه نسيئة)(51).
حكمها: وهذه الصورة يوردها الشافعية مثلاً للعينة، ولها حكمها عندهم(52).
المبحث الرابع: في بيان العينة عند الحنابلة:
المطلب الأول: في بيان موضع بحثها، وصورتها:
المقصد الأول: في بيان موضع بحثها:
تورد مصادر الحنابلة العينة في كتاب البيع، في مواضع متفرقة، فبعضها يوردها في البيوع المنهي عنها، وبعضها يوردها في كتاب البيع، وإن لم يبوِّب لها بعنوان البيع المنهي عنها(53).
المقصد الثاني: في بيان صورتها:
العينة لها عند الحنابلة صورتان:
الصولة الأولى: صورة عامة يصدق عليها المفهوم العام للعينة، وهذه الصورة قد نقلها ابن قدامة عن الإمام أحمد قال: (وقد روي عن أحمد أنه قال: العينة أن يكون عند الرجل المتاع، فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باعه بنقد، ونسيئة فلا بأس.
وقال: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة، لا يبيع بنقد.
وقال ابن عقيل: إنما كره النسيئة، لمضارعتها الربا، فإن الغالب أن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل.
ويجوز أن تكون العينة اسماً لهذه المسألة(54)، وللبيع بنسيئة جميعاً، لكن البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقاً، ولا يكره إلا أن لا يكون له تجارة غيره)(55).
وقد نقل ابن القيم تعليل ابن تيمية له بأنه يدخل في بيع المضطر قال:
(وعلله شيخنا ابن تيمية _رضي الله عنه_ بأنه يدخل في بيع لامضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة، وإذا باع بنقد، ونسيئة كان تاجراً من التجار)(56).
الصورة الثانية: صورة خاصة، يصورها الحنابلة بقولهم: (ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقداً، إلا أن تكون قد تغيرت صفتها)(57).
وهذه الصورة هي التي تعنى كتب الحنابلة ببحثها، وبيان حكمها.
ولا تكاد تلك المراجع تجاوز هذا التوصيف إلى تعريف.
المطلب الثاني: في بيان حكمها:
لا تجوز على الصحيح من المذهب(58).
ونقل في الفروع(59) والإنصاف(60) عن أبي الخطاب: "أن بيع العينة يحرم استحساناً ويجوز قياساً"، وعن القاضي: "أن القياس صحة البيع" ثم وجه مرادهم في الروع، فقال: (ومرادهم: أن القياس خولف لدليل راجح، فلا خلاف إذاً في المسألة)(61).
ونقل الزركشي بصيغة التضعيف قولاً بالجواز، قال: (وقيل بالجواز)(62).
هذا، وإن تقييد الثمن الأقل بكونه "نقداً" غير مشروط في التحريم، على الصحيح من المذهب، بل يحرم شراؤها، سواءً كان بنقد، أو نسيئة، ولو بعد حل الأجل الأول، وفيه يقول المرداوي: (ولو باع شيئاً بنسيئة، أو بثمن لم يقبضه... ثم اشتراه بأقل مما باعه، قال أبو الخطاب، والشيخ نقداً، ولم يقله أحمد، والأكثر، ولو بعد حل أجله... بطل الثاني)(63).
ويقول في الإنصاف: (لا يشترط في التحريم أن يشتريها بنقد، بل يحرم شراؤها سواءً كان بنقد، أو نسيئة)(64).
قلت: وعلى هذا الاعتبار يكون القيد "نقداً" منتجاً لأمر آخر هو شرط عند الجميع وهو: أن لا يكون البيع بعرض والشراء بنقد، أو البيع بعرض والشراء بآخر، وفيه يقول الزركشي: (فنقداً يخرج به ما لو كان البيع بعرض والشراء بنقد، أو بالعكس، أو البيع بعرض، والشراء بآخر، فإنه يجوز، إذ لا ربا بين الأثمان والعروض، ولا بين عرضين)(65).
المطلب الثالث: في بيان عكس العينة:
صورتها: (أن يبيع سلعة بنقد ثم يشتريها بأكثر منه نسيئة)(66).
حكمها: أما حكمها عند الحنابلة، ففيه خلاف ذكره المرداوي، قال: (الثالثة: "عكس العينة" مثلها في الحكم، وهي أن يبيع السلعة بثمن حالّ، ثم يشتريها بأكثر منه نسيئة، على الصحيح من المذهب...
ونقل أبو داود: "يجوز بلا حيلة"... قال المصنف: "يحتمل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن، بأكثر منه، إذا لم يكن مواطأة، ولا حيلة، بل وقع اتفاقاً من غير قصد")(67).
والحجة للمانعين: أنها وسيلة إلى الربا، كالعينة، فتلحق بحكمها(68).
والحجة للمبيحين: أصل حلّ البيع، خرجت منه العينة، لإفضائها إلى الربا، فلا يلحق بها ما دونها؛ لأن التوسل به إلى الربا دونها(69).
المطلب الرابع: في بيان حكم العقدين في صورة المنع:
العينة الثنائية يتعاقب فيها عقدان على عين واحدة، وإذا كان الحنابلة يمنعونها، فما حكم كل واحد من العقدين؟
الذي عليه الحنابلة أن العقد الثاني باطلٌ، حيث كان وسيلة إلى الربا، أما الأول فصحيح، ما لم يكن مواطأة، فإن قصد به الحيلة ابتداءً، فالعقدان باطلان، جاء في الإنصاف: (وذكر تقي الدين أنه يصح البيع الأول إذا كان بياناً، فلا مواطأة، وإلا بطلا، وأنه قول أحمد)(70).
المبحث الخامس: استخلاص، ومقارنة:
لما كانت مذاهب العلماء في مفهوم العينة متفاوتة الأمر الذي ناسبه إيراد كل مذهب على حدة، كان من المناسب بعد إيراد هذه المذاهب مستقلة عقد مبحث في الآخِر، يستخلص فيه ما تتفق، وتفترق فيه، فهو مبحث مقارنة، يقرن بينها، فتتزاوج به بعد انفراد، وتتعانق به بعد حياد، وهذه مطالبه:
المطلب الأول: في بيان مفهوم العينة:
من خلال ما تقدم من عرض لمذاهب العلماء في العينة تبين أن العينة تتدرج في صور بعضها أضيق من بعض، وألوان بعضها أقتم من بعض(71)، وهي في مفهومها العام أوسع، وأنصع، حيث لا يصدق عليها المنع، أو لا يكاد إلا من طرف بعيد.
وبهذا المفهوم لا تكون العينة كلها ممنوعة؛ إذ يقصد بها: الاحتيال على طلب العين "النقد" بالدين، من خلال بيع الأجل.
لكنها تتدرج من السعة والنور، إلى الضيق والقتامة، حتى تدخل حمى المحظور، من خلال مفهومٍ خاصٍّ، جمهور الفقهاء على منعه، مقصوده الاحتيال الممنوع على الربا في صورة البيع.
ومنه يستبين أن العينة عينتان: عينة جائزة، وعينة ممنوعة، فكلما اتسعت ونصعت كانت جائزة، أو بالجواز أولى، وكلما ضاقت وأقتمت كانت ممنوعة، أو بالمنع أولى.
وإذ كانت الصورة الضيقة، القاتمة هل الأَوْلى بالعينة، إذ تلتقي فيها المذاهب فلنبدأ ببيان هذا التدرج مع الضيق إلى السعة، ومن الظلمة إلى النور:
أ – فأضيقها وأقمتها: ما يحتال به(72) على الربا في صورة البيع، كأن يبيع شخص من آخر سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه نقداً بثمن أقل، فكأنها "دراهم بدراهم أكثر منها، والسلعة بينهما واسطة محللة".
وهذه الصورة هي التي يوردها الشافعية والحنابلة باعتبارها مثالها.
وهي العينة الثنائية الممنوعة عند الجمهور: فهي عينة محرمة عند الحنفية تبعاً لقاعدتهم "وما لم ترجع إليه العين التي خرجت منه لا يسمى بيع العينة؛ لأنه من العين المسترجعة، لا العين مطلقاً..."، وهم، وإن لم يرودوها في مبحث العينة، فإنما ذاك لأنهم لا يرون جواز الاحتيال بها، وإنما أوردوا في مبحث العينة ما يرون جواز الاحتيال به من صورها.
وهي عينة ممنوعة عند المالكية، يوردونها في مبحث بيوع الآجال التي يحتال بها على الربا، وبعضهم يكرر إيرادها في مبحث العينة.
ب – وأوسع منها ما يحتال به على الربا في صورة أخف من السابقة – عند بعضهم – كأن يدخلا بينهما ثالثاً محللاً، أو أن من يشتري السلعة لحاجته إلى ثمنها، فيبيعها في السوق، لا يبيعها على من اشتراها منه، ولا يبيعها على ثالث محلل. وهاتان الصورتان يوردهما الحنفية باعتبارهما مثلاً للعينة الجائزة مع الكراهة عندهم، ويشملها مفهوم العينة الواسع عند المالكية، كما سيأتي.
على أن الثانية منهما هي ما يسميه الحنابلة تورقاً، يوردون صورته عقب العينة، ويقولون بجوازه(73).
أما الأولى منهما فيرى ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم أنها حيلة على العينة لا تزيدها إلا سوءاً(74).
ج – وأوسع منها وأنصع ما يحتال به على الربا مما هو شامل جميع الصور المتقدمة بالإضافة إلى ما انفرد به المالكية من إطلاق العينة على صورة واسعة منها ما هو جائز، ومنها ما هو محرم عندهم، وقد تقدم بيانه.
على أن من صور العينة المكروهة عند المالكية، ما يسميه الحنابلة تورقاً.
د – وأوسع من ذلك وأنصع أن تطلق العينة على صور من البيع جائزة، كما تقدم نقله عن بعض فقهاء المالكية، وعن الإمام أحمد(75).
وبالمقارنة بين ما تقدم يتضح أن أضيق المذاهب في مفهوم العينة الشافعية، وأوسعها المالكية.
وهذه المذاهب بالرغم من تفاوتها، وانفراد بعضها دون بعض في مسائل من العينة، فإنها تتفق في أضيق، وأغلظ صور العينة، وهي العينة الثنائية "أن يبيع سلعة بثمن حالٍّ ثم يشتريها قبل قبض الثمن بأكثر منه نسيئة" إذ تتفق في صورتها، وكونها عينة، لكنها لم تضع تعريفاً بإزائها خاصة، فإن ما أوردها لحنفية، والمالكية من تعريفات تقدمت للعينة، يناسب مفهومها الواسع عندهم، الذي لا يقتصر على الثنائية فقط، بل يشملها وغيرها، كما تقدم تحقيقه.
على أن الشافعية والحنابلة، وإن لم يعنوا بوضع تعريف اصطلاحي للعينة الثنائية، إلا أن ما ذكروه من وصف، وتصوير لها، يكاد يكون تعريفاً.
والتعريف الذي أراه للعينة الثنائية هو:
(شراء ما باعه مؤجلاً، ممن باعه، بثمن أقل منه، حالاً).
وهذا التعريف قد اشتمل على الماهية، حيث شمل ما يلي:
أ – العقدان: (الأول والثاني).
ب – الطرفان: (البائع والمشتري) في كل من العقدين، وهُما هُما، سوى أن البائع في الأول يكون مشترياً في الثاني، والمشتري في الأول يكون بائعاً في الثاني.
ج – العوضان: (السلعة، وثمنها المؤجل) وهما العوضان في العقد الأول، (والسلعة وثمنها الحال) وهما العوضان في العقد الثاني.
هذا، وإن الفقهاء بعد اتفاقهم على صورة العينة الثنائية، وأنها من العينة، قد اختلفوا في حكمها على النحو الآتي:
المطلي الثاني: في تحرير الخلاف في حكم العينة:
وتحريره أن العلماء مختلفون في حكمها على ثلاثة أقوال:
الأول: وعليه الجمهور من الحنفية، والمالكية والحنابلة، وهو القول بمنعها، فهي غير جائزة عندهم، وهو وجه عند الشافعية إذا كانت العينة عادة.
الثاني: وهو قول الشافعي، وقول مرجوح لدى الحنابلة، القول بجوازها.
الثالث: وهو وجه عند متأخري الشافعية – يظهر أنه مذهبهم -، وهو القول بكراهتها.
المقصد الأول: في بيان أدلة الفريق الأول، ومناقشتها:
وقد استدل المانعون لمذهبهم بما يلي:
أولاً: ما جاء عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية، أنها دخلت على عائشة _رضي الله عنها_، فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانية نسيئة، وإني ابتعته بستمائة درهم نقداً، فقالت لها عائشة: (بئسما اشتريت، وبئسما شريت، إن جهاده مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قد بطل إلا أن يتوب).
وفي رواية قالت أم ولد زيد بعدما سمعت قول عائشة هذا: ("أفرأيت إن أخذت رأس مالي"، قالت عائشة: "لا بأس، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف..")(75).
وجه الدلالة: ووجه الدلالة من هذا الحديث أن عائشة قالت بإحباط عمل زيد إما كفراً، لاستحلال الربا، وهذا لا يجوز على زيد. أو لأنه وقع في كبيرة قاوم إثمها ثواب جهاده وأبطله. وكلا الاحتمالين لا يسوغ فيه الاجتهاد، فهي إنما قالته عن توقيف، وقد اعترض المجيزون على هذا الدليل، والاستدلال به، بما يلي:
1 – عدم ثبوته لجهالة روايته "العالية"(76)، ويجاب عنه بما يلي:
أ – بتوثيق صاحب نصب الراية لأحد طرق هذا الحديث، قال: (وهذا إسناد جيد)(77).
ب – بتوثيق ابن سعد في طبقاته للعالية قال: (العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي، سمعت من عائشة)(78).
ج – كما وثقها صاحب الجوهر النقي قال: (العالية معروفة روى عنها زوجها، وابنها، وهما إمامان، وذكرهما ابن حبان في الثقات من التابعين)(79).
د – هذا الحديث رواه عنها زوجها وابنها، وهم عدول، ورواية العدل عن غيره توثيق له(80).
هـ - هذا الحديث فيه قصة، وعند الحفاظ: إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ(81).
و – هذه القصة في التابعين ولم يكن الكذب فاشياً فيهم فشوه في غيرهم(82).
2 – إنما أبطلت عائشة البيع، لكونه إلى العطاء وهو أجل مجهول، فليس فيه دلالة على ما ذهبتم إليه(83).
ويجاب عنه بما يلي:
أ – ورود الحديث برواية أخرى ليس فيها "إلى العطاء" حيث استبدل بلفظ "بنسيئة" أو "إلى أجل"(84).
فإن قيل: يحمل الإطلاق في الأجل والنسيئة على ما قيد بالعطاء أجيب عنه بالآتي:
ب – ورود الحديث برواية أخرى قالت فيها السائلة: (أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟) قالت عائشة: (لا بأس، فمن جاءه موعظة من ربه...) وهي دالة على أن إنكار عائشة البيع لكونه ربا، ولو كان لأجل كونه إلى العطاء، لما أبقت العقد الأول(85).
ج – أن مذهب أمهات المؤمنين جواز البيع إلى العطاء(86).
3 – أن زيداً خالفها، وإذا اختلف صحابيان رُجِّح قول من يعضده القياس، وهو زيد(87).
ويجاب عنه بما يلي:
أ – أما دعوى أن زيداً خالفها، فمردودة بأنه لم ينقل عن زيد أنه قال هذا حلال، ولم ينقل أنه خالفها بعد إنكارها عليه، وكل ما نقل عنه هو فعله الذي أنكرته عليه، وفعل المجتهد لا يدل على قوله – على الصحيح – لاحتماله السهو، والغفلة، والتأويل، والرجوع، ونحوه(88).
ب – وأما دعوى أن القياس يعضد زيداً فمردود (بأنا لا نسلم أن القياس معه، بل القياس المنع، اعتماداً على قاعدة "سد الذرائع".
ثم لا نسلم أن موافقة القياس تقتضي ترجح قوله، بل العكس، إذ من خالف القياس الظاهر أن قوله عن توقيف، ومن ثم قال العلماء: "إن قول الصحابي إذا خالف القياس حجة بخلاف ما إذا لم يخالفه"(89))(90).
هذا، وإن حديث العالية قد احتج به الحنابلة(91)، والحنفية(92) على منع العينة، وقد قال ابن حزم عن الحنفية: (ثم إن أبا حنيفة قد أوهم أنه أخذ بحديث عائشة _رضي الله عنها_، ولم يأخذ به؛ لأنه يرى ذلك فيمن باع بثمن حالٍّ، ما لم ينتقد الثمن)(93).
قلت: وكتب الحنفية(94) المعتمدة تصرح بالمنع ما لم ينتقد الثمن، سواءً أكان الثمن حالاً، أم كان نسيئة.
ثانياً: ما جاء عن ابن عمر _رضي الله عنهما_: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(95).
وجه الدلالة: ووجه الدلالة فيه أن العينة جاءت في معرض الذم وأنها سبب في الذل، وتلك عقوبة لا تكون إلا عن إثم.
وقد اعترض المجيزون على هذا الدليل بكون الحديث في إسناده إسحاق ابن أسيد، أبو عبد الرحمن الخراساني وهو لا يحتج بحديثه(96).
وفيه أيضاً عطاء الخراساني، وفيه مقال(97).
والدواب: أنه يتأيد برواية أخرى عن أحمد حيث رواه بسنده عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: (سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)(98).
قال ابن حجر في هذه الرواية: (وأصح ما ورد في ذم بيع العينة ما رواه أحمد، والطبراني... وساق الحديث...)(99).
وقال في الجوهر النقي: (صححه ابن القطان وقال: "هذا الإسناد كل رجاله ثقات")(100).
وقال ابن القيم بشأن هذين الحديثين: (هذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر)(101).
ثالثاً: ما جاء عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"(102).
وجه الدلالة: ووجه الدلالة منه: أن العينة بيعتان في بيعة، فإن أخذ الزائد أربى، وإن أخذ الأقل سَلِم.
فإن اعترض المجيزون، وقالوا: إن تفسير البيعتين في بيعة أن يقول: بعتك هذه السلعة نقداً بعشرة، أو بعشرين نسيئة، فيقول المشتري قبلت دون تعيين لأحد الثمنين، أجيب عنه: إن هذه الصورة ليست بيعتين في بيعة، لكنها ثمنان في بيعة، ولا ربا فيها، بل غرر عند من يقول بهذا التفسير(103).
رابعاً: نهيه _صلى الله عليه وسلم_ عن ربح ما لم يضمن، كما جاء في الحديث: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)(104).
وقد استدل به الحنفية، وحملوا النهي في حديث العالية عليه، كما جاء في فتح القدير: (والذي عقل من معنى النهي – يعني في حديث أم العالية – أنه استربح ما ليس في ضمانه... وهذا لأن الثمن لا يدخل في ضمانه قبل القرض، فإذا عاد إليه الملك الذي زال عنه بعينه، وبقي له بعض الثمن، فهو ربح حصل لا على ضمانه، من جهة من باعه)(105).
خامساً: أن هذا البيع ذريعة إلى الربا، ومعلوم من مقاصد الشريعة تضييق مسالك الربا، ومنع ما أدى إلى الحرام، فيمنع لتهمة سلفاً جر نفعاً(106).
قلت: وهذا المعنى هو عمدة المالكية في منع هذا البيع.
ويشهد لكونه ذريعة إلى الربا آثار عن كثير من الصحابة، والسلف، فوق العرف، والواقع، ومنها:
أ – ما جاء عن ابن عباس: (دراهم بدراهم بينهما حريرة)(107).
ب – ما جاء عن أنس أنه سئل عن العينة – يعني بيع الحريرة – قال: (إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله)(108).
ج – ما جاء عن عمر بن عبد العزيز: (إنْهِ من قبلك عن العينة، فإنها أخت الربا)(109).
المقصد الثاني: في بيان أدلة الفريق الثاني، ومناقشتها:
وقد استدل المجيزون بما يلي(110):
أولاً: قوله _تعالى_: "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ..." (البقرة: من الآية275)، فهذا الدليل يتناول بعمومه بيع العينة.
ويجاب عنه: بأنه دليل عام خرجت منه العينة لمخصص يخرجها، وهو جملة ما استدل به المانعون.
ثانياً: ولما جاء عن أبي سعيد، وأبي هريرة _رضي الله عنه_ما (أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "أكل تمر خيبر هكذا؟" قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جنيباً")(111) متفق عليه.
قال النووي: (واحتج بهذا الحديث أصحابنا، وموافقوهم في أن مسألة العينة ليست بحرام، وهي الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلاً إلى مقصود الربا، بأن يريد أن يعطيه مئة درهم بمئتين، فيبيعه ثوباً بمئتين، ثم يشتريه منه بمئة.
وموضع الدلالة من هذا الحديث أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال له: بيعوا هذا، واشتروا بثمنه من هذا، ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري، أو من غيره، فدلّ على أنه لا فرق)(112).
وقد اعتبر الماوردي العينة سبباً مانعاً من الربا، محتجّاً بهذا الحديث(113).
ويناقش من وجوه:
الأول: أن قوله: "بع" مطلق لا عام، وإذ لم يكن عاماًن فإنه لا يتناول صور البيع الصحيحة، بله الفاسدة، والمختلف في صحتها(114).
الثاني: أن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ونحن لا نسلم أن العينة منه، وبيانه: أن إطلاق هذا الحديث – وفق مذهبهم – يشمل البيع مع جهالة الثمن، والمثمن، فهل يقولون بهذا؟
إن قالوا المقصود بالبيع: البيع الصحيح، قلنا: وكذا ههنا، وليس منه ما ننازع فيه(115).
الثالث: (لو فرض أن في الحديث عموماً لفظياً، فهو مخصوص بصور لا تعد ولا تحصى، فإن كل بيع فاسد لم يدخل فيه، فتضعف دلالته)(116) قلت: ويخص منه محل النزاع.
ثالثاً: ولأن كل سلعة جاز بيعها من غير بائعها بثمن، جاز بيعها من بائعها بذلك الثمن كالعرض.
قلت: ويجاب عنه: بأنه احتجاج في موضع النزاع، وهو غير مسلم على إطلاقه.
رابعاً: ولأن المنع قد كان للتهمة، باعتبار أن قد كان ما ليس بكائن، بمعنى أنه عند رجوع السلعة للبائع الأول، كأنه أقرض نقوداً بأكثر منها، والسلعة واسطة.
قلت: ويجاب عنه: أن هذا مما هو معتبر في الشريعة، وبابه سد الذرائع، وشواهده فوق أن تحصى(117).
خامساً: ولأن لكل واحد من العقدين حكم نفسه، فهو يصح بالتراضي، ويبطل بالإكراه، وإذا انفرد كل واحد منهما بحكم نفسه، لم يجز اعتبار أحدهما بالآخر.
قلت: ويجاب عنه: بأنا لا نسلم ذلك، فإنما يكون لكل واحد منهما حكم نفسه، لو استقل عن الآخر، أما عند عدم الاستقلال فلا، فإن العقود قد يثبت لها عند اجتماعها ما لا يثبت لها عند انفرادها، وبمثل هذا تقولون في مسألة الجمع بين سلف وبيع، حيث تمنعونهما، مع أن لكل واحد منهما حكم نفسه لو انفرد، بل وتقولون بمنع العينة عند اشتراط العقد الثاني في الأول، حيث قام عندكم ما يمنعهما، وقد قام عندنا ما يمنعهما.
سادساً: طرد مذهبكم أن تمنعوا من باع سلعة بمئة دينار ديناً أن يشتريها بمئتي دينار نقداً؛ لأنه كأنما اشترى مئة دينار ديناً، بمئتي دينار نقداً.
فإن قلتم: إنما اشترى السلعة، قلنا: فهكذا هنالك ينبغي أن يقال.
قلت: ويجاب عنه بأنه قياس مع الفارق، فإن من يبيع سلعة بمئة دينار ديناً، ثم يشتريها بمئتي دينار نقداً لا حظّ له في شراء مئة دينار ديناً، بمئتي دينار نقداً لِيُتَّهم فيه، فالتهمة فيه منتفية، فيكون الشراء متجهاً إلى السلعة، بخلاف العينة فتهمة قصد الربا فيها ظاهرة، والمنع إنما كان لذلك، فافترقا.
سابعاً: ما جاء عن ابن عمر _رضي الله عنهما_: (أنه سئل عن رجل باع سرجاً بنقد، ثم أراد أن يبتاعه بدون ما باعه قبل أن ينتقد، قال: "لعله لو باعه من غيره باعه بدون ذلك، فلم ير به بأساً")(118).
وما جاء من مخالفة زيد بن أرقم _رضي الله عنه_ لعائشة _رضي الله عنها_ في الحديث الذي احتج به المانعون.
ويجاب عنه بما يلي: أما ما جاء عن ابن عمر من أنه لم ير به بأساً فمعارض بما جاء عنه من أنه "نهى عن العينة"(119)، فتتعارض الروايتان، فتسقطان لعدم معرفة المتقدم منهما.
كما أن ابن عمر قد روى حديث النهي عن بيع العينة، فيما تقدم، فيبقى الحديث بحاله، على أنه لو ثبت عن ابن عمر أنه رأى جواز العينة، وقد روى النهي عنها، فإن العبرة بما روى لا بما رأى(120).
وأما الاحتجاج بمخالفة زيد فقد تقدمت مناقشتها في معرض بيان أدلة المانعين.
المقصد الثالث: في بيان أدلة الفريق الثالث:
أما الفريق الثالث الذي ذهب إلى كراهة العينة، وهم متأخرو الشافعية، فلم يبسطوا في مؤلفاتهم التي نقلت هذا المذهب أدلة، ولا مناقشة، وإنما اكتفوا بذكر الحكم مقروناً بشبه جملة، يمكن أن ينتزع منها تعليل الكراهة قالوا:
(وقد يكره، كبيع العينة، وكل بيع اختلف في حله، كالحيل المخرجة عن الربا)(121).
وقالوا: (لما فيها من استظهار على ذي الحاجة)(122).
فيتحصل للكراهة عندهم تعليلان:
أحدهما: الاختلاف في حِلها.
وثانيهما: ما فيها من استظهار على المحتاجين.
المقصد الرابع: رأيي في الموضوع:
وبيانه في مسألتين:
المسألة الأولى: وفيها أقول:
الذي أراه أن قول عائشة _رضي الله عنها_ في حديث العالية المتقدم بشأن زيد بن أرقم، لا يفهم منه إحباط عمل زيد "حقاً" بحيث يطلب لهذا المحمل الصعب مستند يناسبه، فلا نجد إلا دعوى التوقيف التي يرد عليها:
أ – أنها إثبات نص باستدلال(123)، واحتمال، فلا يسلَّم، ومن ثم لا تزال دعوى.
ب – مقابلتها بما هو ثابت من رضى الله _سبحانه وتعالى_ عمن بايعوا رسوله _صلى الله عليه وسلم_ تحت الشجرة(124)، حيث قال: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً" (الفتح:18)، وزيد بن أرقم منهم.
وما وعد الله _تعالى_ به من أنفق من قبل الفتح، وقاتل(125) من الثواب والدرجات التي لا ينالها من فاته هذا الشرف، حيث قال: "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" (الحديد:10)، وزيد بن أرقم منهم.
فإبطال هذا كله بدعوى التوقيف مركَب صعب، أسلم منه، وأولى أن يحمل كلام أم المؤمنين على إنكار فعل زيد، لا إبطال عمله.
فإن قيل: ولكنها قالت: أبلغي زيداً أنه أبطل جهاده...، قلت: هذا كلام من؟
فإن قيل: كلام عائشة، قلت: عائشة _رضي الله عنها_ نعرف لها قدرها، فهي أم المؤمنين، وزوج النبي _صلى الله عليه وسلم_، وبنت الصديق _رضي الله عنه_، لكنا لا نغلوا بها فننزلها فوق منزلتها، فإنها ليست معصومة، فلا يليق أن ننزل كلام غير المعصوم منزلة كلام المعصوم، فنطلب عنده، ما نطلب عنده.
وعليه: فكلامها محمول على المبالغة في الزجر، دون قصد حقيقة الأمر يشهد لهذا: ما جاء عن ابن عباس _رضي الله عنه_ما من قوله: ("ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أبَ الأب أباً"، وكقوله في العول: "ما جعل الله في المال نصفاً، وثلثين، من شاء باهلته عند الحجر الأسود" – يعني لاعنته – ولم يدل هذا القول منه مع ما فيه من الوعيد والملاعنة على أن في الجد، والعول نصاً)(126).
وما جاء عن ابن عباس وابن عمر _رضي الله عنه_م، حيث خالفوا في ربا الفضل، وقالوا بجوازه، وناظرهم الصحابة، ولم يقل أحد منهم ببطلان عملهما(127).
المسألة الثانية: وفيها أقول:
إن حديث العالية، وحديث ابن عمر اللذين استدل بهما المانعون، فيما تقدم على فرض عدم صحتهما من جهة السند، فإن معناهما صحيح من جهة منع العينة، يشهد لهذا ما هو معلوم من مقاصد الشريعة من سد الذرائع المفضية إلى الحرام، وكلما كان الجرم أكبر كان سد ذرائعه أقوى وأكثر.
ومعلوم أن الربا جرم كبير، فهو كبيرة من الكبائر، ولذا عهد عن الشارع الحكيم سد ذرائعه، وتضييق مسالكه، فمَنَع الجمع بين سلف وبيع، وبيعتين في بيعة، وبيع وشرط، وغير ذلك.
وتحريم بيع العينة مناسب جداً لهذا المقصود، ولهذا فإن المالكية – وهذا مما استخلص من عرض مذهبهم – قد منعوا العينة استناداً إلى سد الذرائع دون أن يحتجوا بواحد من الحديثين.
هذا وإن منع الشافعي البيع إلى العطاء محاذرة الغرر المحتمل، الذي هو دون الربا، وعهد عن الشارع التسامح فيه ما لا يتسامح في الربا، ليلزم له القول بمنع العينة محاذرة الربا، فهو أشد.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن "العينة الثنائية" يشترط لتحقق منعها شروط سيأتي في المطلب اللاحق استخلاصها:
المطلب الثالث: في بيان شروط العينة:
ويستخلص مما سبق أن العينة في صورتها الضيقة القاتمة (الثنائية) يشترط لمنعها شروط يوردها الفقهاء عند حديثهم عنها، إما على هيئة شرط لها، أو قيد وارد على إطلاقها، وهي ما يلي(128):
1 – أن تكون البيعة الأولى لأجل، بمعنى: أن يكون الثمن في البيع الأول مؤجلاً(129).
2 – أن يكون المُشتَرَى ثانياً، هو المبيع أولاً، بمعنى أن يكون المبيع في البيع الثاني، هو المبيع في البيع الأول ذاتاً، وصفة، فلو تغيرت صفته تغيراً يوجب النقص في قيمته لم يمتنع شراؤه بأقل مما باعه به؛ لأن نقص القيمة قابله نقص في الصفة، فامتنع الربا(130).
3 – أن يكون البائع ثانياً هو المشتري أولاً، أو من تنزل منزلته.
4 – أن يكون البائع أولاً هو المشتري ثانياً، أو من تنزل منزلته.
5 – أن يكون الثمنان نقداً من جنس واحد، بمعنى: أن يكون الثمن في البيع الأول من جنس الثمن في البيع الثاني، وكلاهما من النقد.
6 – أن يكون الثمن الثاني أقل من الأول.
وقد ينعكس الشرطان الأول، والأخير، فتنعكس العينة في مسألة عكس العينة، فهل يتغير الحكم؟ أم يكون ذلك من قبيل تعدد المحل، والمعنى واحد؟ قد تقدم بيان مذاهب العلماء فيها، مذهباً مذهباً، وسيأتي استخلاص ذلك فيما يلي:
المطلب الرابع: في بيان عكس العينة:
ويستخلص مما سبق أن "عكس مسألة العينة" مصطلح اختص به الحنابلة، على أن صورته يوردها الفقهاء عند حديثهم عن العينة، إما باعتبارها صورة من صورها كالشافعية، وإما باعتبارها في معناها من جهة ما تؤدي إليه، فتلحق بحكمها كالحنفية.
المقصد الأول: وجه كونها عكس العينة:
ووجه كونها عكس العينة يتضح من خلال المقارنة الآتية:
1 – في العينة يكون الثمن في البيع الأول مؤجلاً، وفي عكس العينة يكون حالاً.
2 – في العينة يكون الثمن في البيع الثاني حالاً، وفي عكس العينة يكون مؤجلاً.
3 – في العينة يكون الثمن الثاني الحالُّ، أقل من الثمن المؤجل في البيع الأول، وفي عكس العينة يكون الثمن المؤجل في البيع الثاني أكثر من الثمن الحال في البيع الأول.
المقصد الثاني: مقارنة بين المذاهب في عكس
المشاهدات 1695 | التعليقات 0