العودة إلى المساجد بعد (كورونا) ضوابط وشروط.. أكرم كساب
الفريق العلمي
بدأت بعض الدول بالسماح لدور العبادة ومنها المساجد بإقامة الشعائر التعبدية، وهذا بالنسبة للمسلمين أمر تهفو له النفوس وترنو إليه القلوب، ومع هذه العودة فإن أحكاما ينبغي بيانها:
أولا: لماذا دعوتم إلى الغلق ولماذا الفتح؟
قد يقول قائل: لماذا قلتم بغلق المساجد ثم الآن تدعون إلى فتحها مرة ثانية؟
والحق أن هذا السؤال سؤال وجيه، وباختصار أقول:
1. الفتوى تتغير بتغير الظروف والعادات والأحوال، يقول القرافي: إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد: خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة...[1].
2. تحقيق المصلحة للناس أمر تدور معه الفتوى، بل تدور معه الشريعة؛ قال ابن القيم: الشريعة مبنية على مصالح العباد، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل[2].
3. القول بغلق المساجد كان في بداية الأزمة، والحالة كانت هكذا:
1. المرض يمتد وينتشر، والوباء يزداد يوما بعد يوم.
2. العلاج غير موجود، والمستشفيات تعج بالناس.
3. المتخصصون يرون مصلحة الناس في منع التجمعات، فلا مدارس ولا جامعات، ولا أسواق ولا متنزهات.
4. عودة فتح المساجد ضرورة يوجبها الشرع ويفرضها الواقع؛ هذا إذا انتفى ضرر الجائحة، أو أمكن تفاديه، وفي المسند عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ[3]"، وليدرك الكل أن الغلق كان لحكمة، وأن الفتح يكون لحكمة كذلك.
5. أما وقد حوصر المرض في بعض البلدان، وتعافى الناس، وفتحت المؤسسات والأسواق، وامتلأت الشوارع والطرقات، وتداعى الناس إلى الملاهي والحانات؛ فلا بد من عودة الروح إلى الناس بفتح بيوت الله.
ثانيا: ضوابط وشروط عند فتح المساجد:
والقول بالعودة إلى المساجد له ضوابط وشروط، وبيانها على هذا النحو:
1. مراعاة القرارات السياسية لكل دولة وولاية ومحافظة؛ بل كل مدينة لها ظروفها الخاصة، وينبغي أن تراعى القوانين والقرارات لكل مدينة على حدة، ولا يستدل بفعل بلد أو مدينة لاتخاذ موقف ما في مدينة أخرى، فلكل ظروفه، ولأصحاب القرار اتخاذ المناسب ما كانت القرارات قائمة على دراسات ميدانية علمية.
2. لا بد من مراعاة كبار السن، وهذه الرعاية ينبغي أن تكون من المجتمع ومن أنفسهم، فيجوز لكبار السن والمرضى ما لا يجوز لغيرهم، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن للعباس في ترك المبيت بمنى[4]، هذا والمبيت في منى واجب من واجبات الحج؛ وقاس العلماء على ذلك الضعفة وذوي الحاجات؛ فيظل لكبار السن حكم خاص ورخص تزداد، لما في مخالطتهم للناس من ضرر بالغ.
3. يجوز الجمع بين الصلاتين ظهرا وعصرا، إذا خاف الناس الضرر، وكذلك مغربا وعشاء، وفي الصحيحين: عن نافع قال: أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: «أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ، أَوِ المَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ[5]، وإذا جاز الجمع من أجل الطين والبرد والمطر فالجمع من أجل الخوف من المرض أولى. ويكون المجيء للمسجد ثلاثا لا خمسا.
4. يجب على من يرى في نفسه ضررا لغيره أن يعتزل المسجد، وإذا كانت الشريعة قد أمرت من أكل ما تؤذي الناس رائحته كـــ (الثوم والبصل) باعتزال المسجد كما في مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ، الثُّومِ - وقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ[6]"، فإن اعتزال المسجد بسبب العدوى أو وجود أي مرض يعدي واجب قولا واحدا لما في ذلك من الضرر البالغ.
5. يمكن تعدد الجمع وخاصة في البلاد والأماكن التي يقل فيها عدد المساجد أو تتباعد المسافات، فجائز عقد جمعة واثنين وثلاث وأكثر في المسجد الواحد في مثل هذه الظروف، ولئن منع بعض الفقهاء ذلك فإن الظروف تسمح بذلك، قال النووي: تجوز الزيادة على جمعة في جميع البلاد التي تكثر الناس فيها ويعسر اجتماعهم في موضع وهذا الوجه هو الصحيح [7].
6. لا مانع من الصلاة مع وجود مسافات بين كل مصل وآخر، فالجمهور على أنه يستحب تسوية الصفوف في صلاة الجماعة... حتى لا يكون في الصف خلل ولا فرجة، ويستحب للإمام أن يأمر بذلك[8]، وصحة الصلاة مع الكراهة هو ما عليه الجمهور، فإن وجد عذر زالت الكراهة، ويكون الأمر بالإعادة الوارد في حديث أحمد عن عَلِيَّ بْنَ شَيْبَانَ أَنَّهُ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:... وَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، فَوَقَفَ حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ، لَا صَلَاةَ لِرَجُلٍ فَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ فَرْدًا[9]"؛ أن الأمر بالإعادة من باب الندب لا الوجوب، وعليه فإنه والحال هكذا فلا بأس من الصلاة دون سدّ الخلل.
ثالثا: تعليمات مهمة يجب مراعاتها:
ولا شك أن عددا التعليمات ينبغي أن يسعى القائمون على المساجد من علماء وأئمة وإدارات إلى تحقيقها، ومن أهمها:
1. غلق دورات المياه ليكون الوضوء في البيوت لا في المساجد منعا لأي ضرر.
2. قيام المساجد بتوفير وسائل التعقيم ليكون ذلك قبل الدخول وبعد الدخول.
3. التزام الأفراد بكل سبل السلامة من (كمامة وقفازات وتعقيم).
4. إحضار كل مصل ما يحتاجه للسجود عليه، كساجدة أو ما شابه ذلك.
5. البعد عن المصافحة والمعانقة لما في ذلك من ضرر محتمل،
6. مغادرة المسجد بعد الصلاة ولتكن النافلة في البيوت كما أخبرت السنة.
7. لا مانع من غلق المساجد بعد الجماعة الأولى حفاظا على صحة الناس.
8. لو تيسر للمساجد والمراكز الإسلامية وجود أجهزة تقيس الحرارة عند الدخول كما هو معمول به في المؤسسات والهيئات الرسمية فواجب عليهم فعل ذلك.
9. العمل على التواصل مع الهيئات الرسمية للتنسيق إذا جدّ جديد.
10. متابعة توافد الناس على المسجد والعمل على تجنب أي سلبيات، ويخضع العمل للتقييم يوميا.
رابعا: التفريق بين صلاة الجمعة وصلاة الجماعة:
لا بد من التفريق بين صلاة الجماعة وصلاة الجمعة، فالجمعة؛ الجمهور على أن الجمعة فرض عين على من توفرت فيه شروطها، وأما صلاة الجماعة فقد اختلف العلماء في حكمها، فقائل بالوجوب وقائل بالسنية، ومن ثم فإنه يجوز للناس ترك الجماعة في المسجد ولا إثم في ذلك، وأما الجمعة فإن تحسنت الظروف، وقال الأطباء بأن الضرر قد خف، وسمحت السلطات بالتجمع، يكون المجيء بها على هذا النحو:
1. إذا أمكن تقليل العدد في الجمعة دون أن يكون هناك ضرر يلحق الناس، أو مخالفة لقانون البلد التي يعيش فيها المسلمون فهذا أولى من الاستمرار في الإلغاء، ولئن اشترط الشافعية والحنابلة للجمعة أربعين رجلا، فإن المالكية أجازوها باثني عشر، وأما أبو حنيفة فيجزيها بثلاثة سوى الإمام[10]. ورجح ابن تيمية انعقادها بإمام واثنين معه، بل الشوكاني يجيزها برجل واحد مع الإمام.
2. يمكن تعدد الجمع وخاصة في البلاد والأماكن التي يقل فيها عدد المساجد أو تتباعد المسافات، ولئن منع بعض الفقهاء ذلك فإن الظروف تسمح بتعدد الجمع في المكان الواحد، قال النووي: تجوز الزيادة على جمعة في جميع البلاد التي تكثر الناس فيها ويعسر اجتماعهم في موضع وهذا الوجه هو الصحيح [11].
3. على الدعاة والأئمة أن يختصروا كلامهم اختصارا، ولا داعي للإطالة في مثل هذه الأيام فخير الكلام ما قل ودلّ، وخصوصا في مثل هذه الظروف، ولا داعي لحثّ الناس على فضل صلاة الجماعة في أيام الأوبئة.
4. التوازن مطلوب في دعوة الناس إلى الجمعة، فلا يجوز التباطؤ ولا يقبل التسرع، وإنما يسعى كل مسجد لدارسة واقعه بطمأنينة وتؤدة، فإن كان الفتح يحقق المصلحة فتح المسجد، وإن كان استمرار الغلق يحقق السلامة كان في التأجيل السلامة.
__________________
[1] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام (ص: 218).
[2] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 11).
[3] رواه أحمد (2865) وقال محققو المسند: حسن.
[4] عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: اسْتَأْذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، "فَأَذِنَ لَهُ". رواه البخاري في الحج (1634) ومسلم في الحج (1315).
[5] رواه البخاري في الأذان (632) ومسلم في صلاة المسافرين (697).
[6] رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (564).
[7] المجموع شرح المهذب (4/ 585).
[8] الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 35).
[9] رواه أحمد (16297) وقال محققو المسند: إسناده صحيح، رجاله ثقات.
[10] الموسوعة الفقهية الكويتية (19/ 179). والحق أنه لا يوجد دليل صحيح صريح يدل على عدد ما.
[11] المجموع شرح المهذب (4/ 585).